أحمد عبد السلام البقالي - شبح في الظلام ( قصة واقعية)

اشترى الغالي التمسماني تذكرتي سفر له ولزوجته الشابة إلى مدينة (أكادير) في الحافلة التي تغادر(الدار البيضاء) في الحادية عشرة ليلا.
ونظر إلى ساعته، فوجد انه ما يزال نصف ساعة على خروج حافلته، فسأل زوجته: هل تريد شرب شيء بمقصف المحطة قبل الركوب؟
وجلسنا إلى مائدة، وطلب الغالي لنفسه "اسبيريسو" وطلبت هي كأس حليب ساخن بقطرة قهوة، قالت لزوجها:إنها تريد أن تنام في الحافلة.
ورشف هو من فنجانه، ومسح بعينيه المقصف، وقاعة الانتظار المكتظة وقال:
- لا أعتقد أنه سيكون بإمكانك ذلك، يبدو أن حافلتنا كاملة العدد.
وتناولت هي من حقيبة يدها مصورة أخذت تتصفحها بينما هو يمسح المحطة بعينين صقريتين دربهما العمل في جهاز الشرطة السرية على قوة الملاحظة، واستشفاف هويات الناس.
واسترعى انتباهه شيء على باب المحطة الداخلي، فأشار إلى صف من الواقفين جنب الحائط، وسأل زوجته:
- من تعتقدين أحق بالصدقة من بين الواقين هناك جنب المحطة؟
فتأملت الواقين لحظة ثم قالت:
-الرجل العمى وطلته الصغيرة، طبعا!
فابتسم:
ها أنت تقعين في الخطأ الكلاسيكي الذي يقع فيه جميع الناس، ذلك الأعمى متسول محترف... وهو نموذج للمتسول منذ " العهد القديم"... وأعني العهد التوراتي...
وهيأته ومظهره الذي يدر عطف الناس هو عبارة عن مؤسسة تجارية رابحة جدا...ولو تشناه الآن لوجدنا معه أجرة موظف سام!
حركت رأسها الصغير غير مصدقة، وتحرك معه شعرها الناعم الفاحم المقصوص تحت أذنيها، وحول رقبتها بشكل أنيق، وتدلت منه خصلة على جبينها الأملس لتغطي نص عينها اليمنى:
- ألست تبالغ قليلا؟! أنتم رجال الأمن تشكون في كل شيء!
- نحن لا نعمل إلا بما قال به الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم: " من الحزم سوء الظن !" وهو حديث ينبغي أن يكون شعار الشرطة في كل مكان.
قالت مستسلمة:
- ومن أولئك أحق بالصدقة في نظرك؟
- إذا لم يكذبني حدسي، الشاب الواقف هناك أحق بها.
فقالت منكرة:
- ذلك الشاب الأنيق الهندام؟!
- نعم! سترين..
وقبل أن تتمكن من سؤاله عما يهم أن يفعل، قام وقصد الشاب.
ومر في طريقه بالسائل الأعمى المحترف، فرع هذا عقيرته فجأة بالدعاء، وكأن صغيرته أعطته إشارة بمروره:
" الصدقة تنجي، والعبد ما يدري... الله يعلي درجتك... الله يحفظك من أولاد الحرام... الله يديك ويردك بالسلامة..."
وما إلى ذلك من دعوات تضرب على عواطف المسافرين و مخاوفهم، وآمالهم ومطامحهم.
ووقف عند الشاب:
- مساء الخير...
فنظر إليه الشاب في شبه ذهول وكرر التحية:
- مساء الخير.
قال الرجل معتذرا:
- معذرة... تشابهت لي مع شاب أعرفه، لا أدري أين رأيته. هل تنتظر أحدا؟
- نعم...ليس بالضبط... أعني ليس أحدا بعينه... أنتظر لعلني أرى أحدا أعرفه.
- من أين أنت؟
- من طنجة.
- لا... جئت إلى هنا أبحث عن عمل... ولكنني لم أجد... وانقضى ما كان معي من نقود، وتقطعت بي الحبال... وها أنا أنتظر أحدا أعرفه ليقرضني ثمن التذكرة.
أليس لك أقارب ولا أصدقاء هنا؟
فحرك رأسه نافيا. قال الغالي:
- اسمع، إذا اشتريت لك تذكرة سفر، هل تعد أن تعيد لي ثمنها؟
حملق فيه الشاب غير فاهم، فشرح الغالي:
- أنا أريد أن أقرصك المبلغ لتعود إلى بلدك... ولكن بشرط أن ترده إلي، ماذا تقول؟
فحرك رأسه رافضا مرتابا:
- اسمح لي يا سيدي، فأنا لا أستطيع أن أقبل مالك.
- لماذا؟
- لأنني لا أعرفك، وأنت لا تعرفني... وماذا لو وعدتك برد المبلغ ولم افعل؟
فحك الغالي ذقنه عاجزا عن إقناعه، وقال وكأنه عثر على طريقة مرصية:
- اسمع... إنك بقبولك سلفتي ستقدم لي خدمة؟
- كيف؟
- إنها قصة طويلة... ولكن، باختصار... أريد أن أرد دينا ي عنقي لرجل فاضل أنقذني من نفس التي أنت فيها الآن، وأنا غلام صغير... وللهفتي ودهشتي نسيت أن آخذ عنوانه حتى أرد إليه سلفته، إذا قبلت أن أقرضك ثمن التذكرة، فستكون قد أرحت ضميري من هذا الدين.
ولأن الشاب عند سماع هذه القصة الإنسانية، وقال:
- ولكن بشرط... وهو أن تترك لي عنوانك لأبعث لك بالمبلغ حال وصولي إلى طنجة.
- طبعا، طبعا...
- وأخرج محفظته، وتناول بطاقته، وناولها إياه:
- هذه بطاقتي، وعليه اسمي وعنواني... تعال معي...
وذهب الإثنان إإلى الشباك، واشترى الغالي تذكرة دسها في يده، ومعها عشرون درهما:
- هذه لتشتري بها شيئا تأكله في الطريق...
ومد له يده مصافحا، فوجد الشاب ينظر إليه ذاهلا مستغربا، وكأن عينيه لا يصدقان ما يرى..
وفجأة اغرورقت عيناه، وتقاطرت منهما دموع كبيرة، وارتعشت شفتاه، رع ذراعه ليمسح دموعه، ويغطي عينيه خجلا من انتحابه الذي يبدو أنه فوجئ به هو قبل غيره.
وأمسك الغالي بكته وشد عليها، وقد تأثر لانفجار دموع انفراج الغم، والاعتراف بالجميل لهذا المحسن الغريب...
وودعه الغالي، وعاد إلى حيث كانت زوجته تشاهد الموقف، وجلس ي مقعده، وقال:
- ألم أقلها لك!؟ ذلك الشاب الحسن الصورة والهندام والذي يبدو من عائلة ميسورة الحال، يعاني من محنة ي صمت.
- ماذا حدث له؟
- جاء لطلب عمل بالبيضاء فلم يجد، وانقضت فلوسه، ولم يجد من يغيثه... " لا وجه للتسول، ولا كتف للعمل الشاق!" كما يقول المثل الدارج، هو حقا الملهوف الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إغاثة الملهوف صدقة".
- رأيتك تقطع له تذكرة، إلى أين هو ذاهب؟
- إلى بلده طنجة.
وتأثرت فريدة بأصالة زوجها وكرمه، فمدت يدها له عبر المائدة، وأمسكت بيده وضغطت عليها في إعجاب وحب.
ونادى بوق المحطة على المسافرين إلى ( أكادير)، فوقفت فريدة بقوامها الممشوق في جلبابها الأسود الأنيق، وتثنى قدها الباني الرشيق داخله في أنوثة عفوية محتشمة هادئة.
وعلى باب الحافلة كان يقف السائق في حلته الرسمية يرحب بالمسافرين، ويراقب مساعده وهو ينظم الأمتعة على سطح الحافلة، ويغطيها بقلع سميك
وجلس الغالي التمسماني وزوجته فريدة في الصف الأمامي على اليمين، حيث لا يحجب السائق عنهما الرؤيا، يراقبان الركاب والمودعين.
وحان وقت الإقلاع فصعد السائق، وألقى نظرة أخيرة على رعيته الجديدة، وجلس يستعد للتحرك.
كان رجلا يميل إلى الطول والامتلاء، قوي البدن، مستدير الوجه، باما يصعب تحديد سنه بالضبط بين الخامسة والأربعين والخامسة والخمسين.
وانتظر حتى نزل مدير المحطة بلائحة الركاب وأعطاه الإشارة، فأقفل الأبواب الآلية، وخرج بالحافلة الضخمة يدير عجلة قيادتها الكبيرة بسهولة ومهارة.
وانطلقت الحالة تخترق شوارع المدينة العملاقة البيضاء المستلقية على شاطئ المحيط الأطلسي، وقد تلألأت أنوارها، ولمعت شوارعها، وهي في منتصف الليل، أبعد ما تكون عن التثاؤب أو النعاس...
ولم تلبث الحافلة أن دخلت الطريق المزدوجة، واتجهت نحو الجنوب تنهب الأرض بعجلاتها السميكة الضخمة..
وأشعل السائق الراديو فانطلق صوت المطربة عزيزة جلال وهي تغني لليل وتمجد الحب، وأطبق الظلام على الحالة حين خرجت من الطريق المزدوجة إلى (الجديدة) المحفوفة بأشجار الصفصاف العالية، وأشعل السائق النور العالي فبدت فيه أغصان الأشجار المتشابكة والمدلاة فوق الطريق وكأنها أيدي أشباح من عمالقة الجن تهم بالتقاط الحافلة بمن فيها.
وأسندت فريدة رأسها إلى كتف زوجها منشدة النوم.
وبعد حوالي ساعة ونصف من الصرب الرتيب في الطريق الخالية الموحشة، وقد خفتت أصوات الركاب إلا أصوات أربعة شبان كانوا يجلسون في الكراسي الوسطى يتحدثون ويضجون بالضحك من حين لآخر، بان لعين السائق شبح يتحرك عن بعد وسط الطريق، فرفع حذاءه الكبير عن مداس السرعة وقال:
وانتبه الغالي التمسماني فنظر إلى الأمام فرأى شابا يلوح بذراعيه للحافلة بقوة لتقف.. ورغم اقتراب الحافلة منه لم يتزعزع عن وسط الطريق.. وانصب عليه نورها الساطع فكشف عن ملامح تخيل الغالي أنه ربما كان قد رآها من قبل دون أن يذكر أين.
وانحنى على السائق:
- ماذا ستفعل؟ هل ستقف له؟
فحرك الرجل رأسه:
- كلا... لا إذن لي بالوقوف في غير المحطات الرسمية، إلا في حالات الاستعجال، وقد يكون هذا فردا من عصابة!
وكان الشباب الأربعة قد شعروا بشيء ما يحدث عندما أبطأت الحافلة سيرها، فوقفوا يشرئبون بأعناقهم فوق الرؤوس، وصاح أحدهم:
- إنه رجل يستوقف الحافلة.
ووقف الغالي التمسماني، فانحنى على السائق، وهمس له:
- أعتقد أنه يجب أن تقف.. فقد تكون هناك حالة استعجال.
- ولكن..
- لا تخف.. أنا مفتش شرطة، ومعي سلاح.
وفتح زر سترته، وكشف عن مسدس تحت إبطه الأيسر، داس السائق على المكبح على مهل، وانحرف بالحافلة عن الطريق.
وكان الرجل قد اقترب وهو يلوح، ويصيح وكأنه يستغيث من خطر ما حق حتى غطاه ضوء السيارة الناصع.
وكان جميع الركاب قد استيقظوا وتنبهوا لما يحدث، فوقفوا ينظرون إلى الرجل المستغيث.
وتوقفت الحافلة تماما، وانفتحت أبوابها، فخرج الغالي والشباب الأربعة، وتبعهم جميع الرجال، وعدد من النساء، يدفعهم الفضول، وحب الاطلاع.
وفسخ الغالي التمسماني زر مسدسه، ووضع يده على مقبضه، وتقدم الجماعة يبحث عن الرجل الذي انحرفت عنه الحالة إلى جانب الطريق، وينادي:
- أهيا ذاك! أين أنت؟
ودار حول الحافلة باحثا عنه بحذر..
- أين أنت؟ ومن أنت؟ وماذا تريد؟
وعاد من الجانب الآخر يسأل الآخرين:
- أين الرجل؟ هل رأيتموه؟ لا احد رآه بالمرة..
وانتشروا جميعا فرادى وجماعات ينادون الرجل، ويبحثون عنه بفنارات يدوية قوية دون جدوى..
لم يكن حوالي الطريق شجر، ولم يكن هناك مكان قريب يمكن أن يختبئ فيه..
بحثوا عنه تحت الحافلة، وفوقها، وصعد مساعد السائق إلى السطح لعله يجده مندسا بين الأمتعة.. لا شيء!
وأسرعت النساء بالعودة إلى كراسيهن.. وبدأت جلود الرجال تتشوك من الخوف..
من يكون هذا الشبح الذي أوقفهم واختفى؟
ماذا كان يريد بهذه اللعبة السخيفة في الهزيع الأخير من الليل؟!
وعاد جميع الركاب، بعدما يئسوا من العثور عليه، إلى أماكنهم، وجلسوا ينتظرون أن تقلع الحافلة مرة أخرى، ولكنها ظلت واقفة حيث هي والسائق مستند بصدره إلى عجلة القيادة، وقد تدلى رأسه قليلا إلى الأمام.
وناداه المساعد ليتحرك فلم يجب، وقام الغالي التمسماني فوضع يده على ظهره، وهمس:
- سبحان الله ! سبحان الله ! أفق يا أخي لنذهب.
ولم يستجب السائق..
وحين حاول تحريكه من كتفه ليستيقظ انزلق صدره من فوق العجلة، وهوى من كرسيه جثة هامدة...
وصرخت فريدة ذعرا... وسمعت شهقات النساء، ولغط الرجال من الخلف، وهم يتسابقون ويتزاحمون داخل الممر الضيق ليصلوا إلى حيث كان السائق المسكين مكوما...
ونادى الغالي التمسماني:
- هل في الحافلة طبيب؟
وأجابه أحد الشبان لم يكن أدرك بعد ما حدث:
- هل تمزح؟! الأطباء لا يركبون الحافلات مثلنا نحن بقية عباد الله؟ إنهم يركبون " المير...
وسكت قبل أن يتم كلامه.. ولكزه زميل له بغمرته ي ضلوعه، وهمس له بالخبر..
وانحنى الغالي، فأمسك برسغ السائق، وجس نبضه، ثم وضع كفه أمام أنه، ووق وأعلن:
- إنه ميت!
وطلب من جميع الركاب العودة إلى أماكنهم، وقال لمساعد السائق:
- يجب أن نخبر الدرك. انزل أنت واستوقف أي سيارة تمر في أي اتجاه، واخبرها بما حدث.
فقال المساعد:
- ألا يحسن أن نسوق الحافلة إلى أقرب محطة.. أنا أستطيع أن أسوقها..
- لا.. يجب أن لا نتحرك قبل أن يعاين الدرك الحادث، ويكتبوا محضرهم.. فقد تحدث تعقيدات..
وحاول بعض الركاب التدخل لصالح التحرك نحو أقرب مدينة، فتصدى لهم الغالي بحزم قائلا:
- مخاطبكم مفتش شرطة.. أرجوكم البقاء في مقاعدكم حتى يأتي رجال الدرك، ويقوموا بواجبهم.
وتوقف اللغط والحركة..
وتوقفت شاحنة، فنزل الغالي وكلم سائقها، وأركب معه مساعد سائق الحافلة، وعاد يقعد إلى جانب زوجته.
وجاء رجل من الركاب إلى الغالي فانحنى عليه، وهمس:
- لا يصح أن تقعد السيدة في هذا المقعد، والميت أمامها.. إذا لم يكن لديكم مانع فبإمكانها أن تجلس ي مكاني إلى جانب زوجتي بالمؤخرة..
ووافق الغالي شاكرا، ونهضت فريدة، وجلس الرجل المسن في مكانها إلى جانب الغالي، وأخذ يحمد الله بصوت مسموع، ثم التفت إلى الغالي وقال:
- ألم تفكر فيما كان سيحدث لنا لولا لطف الله، لو كان السائق استمر في طريقه بسرعة الطريق العالية التي كان يسير بها، وتوقف قلبه فجأة؟ ما كان لينجو منا أحد! فالحمد لله على ألطافه الخفية..
فالتفت إليه الغالي مدركا حقيقة الموقف وقال:
- أنا أقول ألطاه الظاهرة! فما معنى أن يظهر لنا رجل في جوف الليل، وفي هذا الطريق الخالي الموحش، ويوقف الحافلة بحركاته اليائسة، ثم يختفي وكأن الأرض ابتلعته!
ومسح الرجل المسن لحيته البيضاء، وقال موافقا ومعلقا:
- صدقت! أنا أقول إنها كرامة من الله.. أو صدقة تصدق بها أحد الركاب على ملهوف فتقبلها الله تبارك وتعالى، وأدرك بلطفه جميع من في الحافلة..
وراح يردد:
- سبحانك ما أعظم شأنك!
وفي هذه اللحظة برقت في ذاكرة الغالي التمسماني صورة المتسول الأعمى بالمحطة وهو يقول: " الصدقة تنجي والعبد ما يدري!"
ولاح له وجه الشاب الملهوف الذي اشترى له تذكرة السفر في المحطة، وسقط فكه حين تبين الشبه الكبير بين وجهه، ووجه الرجل الشبح الذي كان يستوقف الحافلة في الظلام...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى