فوز حمزة - درج خشبي.. قصة قصيرة

أدار عنقه صوب باب الغرفة حين سمع صريره ..
دخلت في هدوء مرتدية روب الحمام الأبيض ٠٠
رائحةُ الصابون المنبعثة منها أحييت فيه إحساساً رائعاً و أخذته إلى الأوقات التي كانا يستحمان فيها معاً .. تعبئت رئتيه من الرائحة بينما راح يراقب خصلات شعرها المبللة وهي تقطر فوق أكتافها .. مر بخياله مشهد تلك الأيام من زواجهما ..
كادت دمعة تفر من عينيه لولا أنها خلعت عنها الروب .. فشغلته عن الذكريات بجسدها الذي لم يزل بضاً .. أبيضاً ..
وهي تحاول اخفاء ثدييها المنتفضين تحت حمالة الصدر السوداء ..
انتابته لحظةُ حزن عميق .. كان يود لو أن لحظة يدس بها رأسه بين نهديها .. لتحلق النوارس بعدها عالياً صوب الغيوم .. يشق غناؤها صفحة السماء .. بعد أعلان البحر ثورته ..
امتلأ صدره بالتنهدات وهو يحدق في الشامة السوداء الكبيرة فوق أعلى ظهرها .. اجتاحته رغبة عارمة لاحتضانها والإمساك ملء كفيه بتلك العنقودين المستفزين .....
أحاسيسٌ متنافرة تملكته ..
ولّدت في نفسهِ صراعاً لا يعرف كيف ينفس عنه ..
لحظة مرت أشعرته بالغضب ثم تلتها لحظة جعلته يعيش طعم الضياع والتمزق ..
أنْ تكون حاضراً في ذاكرة أحدهم وغائباً في ذات اللحظة كما يحدث له الآن ..
ذلك يشبه البركان الموشك على الانفجار إلإ إنه لن ينفجر ..
فتهتز الأرض من حوله لتبعثر الخوف والهلع والترقب ..
وتفقد كل ما له صلة بالوقت ..
كل ذلك لم يحرك خلية واحدة من خلايا جسده المنبوذ منذ سنوات فوق هذا الفراش البارد .. كأنه حصان هزيل لا يفعل شيئاً سوى انتظار الهلاك ..
الثواني تزحف كجيش يقوده الموت فتلتهمه فيتآكل شيئاً فشيئاً ..
بقايا إنسان لا يحسن عمل أي شيء سوى التنفس ..
أغلق عينيه ليرى حقيقته التي تمثلت أمامه بكل بشاعة ..
رجل مشلول وعاجز لزوجة جميلة ..
خلايا جسده تموت الواحدة تلو الأخرى ويموت معها الأمل في استرجاع قوته المتحجرة داخل جسده ..
أفكار سوداء استعمرت عظامه الخاوية ..
تمنى الموت لتنتهي كل الأفكار السوداء التي تلتف بظلالها حوله وتخنقه بصمت كل ثانية تمضي بهِ كما يمضي الذئب بفريسته ..
كثيراً ما كان يدور في خلده محادثتها بالأمر ..
يعرض عليها الطلاق والتحرر من الارتباط به ..
لكنه في آخر ثانية يتراجع تحت وطأة الخوف في أن توافق وتتركه وحيداً ..
مجرد التفكير في الأمر يرعبه ويقلقه فيتراجع متخاذلاً منكسراً وجباناً ...
لم ينقذه من سيل أفكاره التي لم تنقطع كشلال شديد الانحدار سوى عطرها الذي تسلل إليه مخترقاً أنفاسه رغماً عنه ..
نظر إليها وهي تذرع الغرفة جيئة وذهاباً لتستعد للخروج ..
أبهره حسنها كما لم يبهره من قبل .. لم تنظر صوبه لمرة واحدة ..
لم تحاول أخذ رأيه في الفستان الذي سترتديه كما كانت تفعل ..
بدلاً من ذلك أخذت تحدث نفسها بصوت يكاد لا يسمع ..
سأرتدي الأخضر .. هو الأنسب ..
وكعادتها تبدو مرتبكة في اللحظات الأخيرة قبل الخروج ومثل كل مرة ..
رنين هاتفها ينقذها ..
وهي ترد بنعم .. التفتت إليه مبتسمة كأن أحدهم ذكرها به ..
قالت قبل غلق الهاتف كلمة نعم لأربع مرات وكلمة لا خمس مرات ..
مؤلمة هاتان الكلمتان حد الدمع ..
بينما كان يردد مع نفسه بوجع .. لم أعد أحتمل .. الشكوك ستقتلني قبل المرض ..
نار الشك تحرق قلبي ودخانها يملأ أوردتي ..
كل شيء من حولي يرتعش .. يرتعد ..
العتمةُ تفتح أذرعها لتضم روحي والظلام يهوي بمطرقته على رأسي فأجد نفسي في مكان ما أصارع شياطين الأرض بأقدام مقيدة بسلاسل من نار .. كيف يمكنني جعل عقلي ساكناً .. وهو يحاول السيطرة على أنفاسه الملتهبة ..
وضعت يدها على جبينه ثم دستها بين خصلات شعره ..
فتح عينيه ليجدها تجلس بجانب السرير مبتسمة..
انتظم كل شيء لديه ..
تيار الدم عاد إلى وجهه فتغير لون الحياة الرمادي ..
هي وحدها ..
من يعيد تنظيم الأشياء لديه فتعود الشمس دافئة والمطر حنون ..
نظر إلى عينيها النرجسيتين فأخبرته عن الحزن المختبئ فيهما ..
نظراتها أخبرته كم هي عاشقة وأيضاً مشفقة ..
طبعت قبلة فوق شفتيهِ قبل أن تقول له جملتها المعهودة وتخرج ..
لن أتأخر ..
كما توقع عادتْ ثانية للغرفةِ كما تفعل كل مرة لتفتح ذلك الدرج الخشبي الصغير وتخرج منه شيئاً دسته بحذر في حقيبتها مع حرص بالغ ألا يراها ..
تركته وحيداً في الغرفة ..
شعر بانعدام كل شيء .. الزمن يتباطأ من حوله .. الصمت يتسرب إليه عبر النوافذ التي سمحت للظلام التسلل عبرها بجرأة ..
أمسى أرجوحة للقدر والهواجس التي وجدته طعاماً شهياً ..
تملكته رغبة للهرب من شكوكه التي جعلت منه صيداً ثميناً ..
تمنى لو أن معجزة تحدث لينبت له جناحان لا لشيء .. فقط ليرى ما بداخل ذلك الدرج اللعين الذي أرهقه لأشهر عديدة وجعلته يواجه الوساوس دون درع واقٍ ..
نظر إلى سقف الغرفة الذي شهدَ معه أحزان وحدته ...
كل شيء يحيطُ به ساكن والدقائق من حولهِ تحترقُ بصمت ...
سلّم جسدهُ المشلول للنوم وهو يحدق في الدرجِ الخشبي ••

- فوز حمزة -



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى