محمد صالح البحر - تمثالي الحزين… قصة

الأولاد في الشارع فعلوها هكذا، جاءوا بحبل وشدوه بقوة بين عموديّ الإنارة بطول الشارع، وعلى ارتفاع لا يتجاوز المتر الواحد حتى لا تُصيبهم الكسور إذا وقعوا من فوقه، لم يتجاوز أمهرهم ربع المسافة بين العمودين وهو يسير فوق الحبل فاردا ذراعيه على طولهما، لكن حلم الطيران الذي كان يراود عيونهم، ملأ وجدانكَ مرة أخرى، وجعلكَ تتسمر إلى جوار الحائط المقابل كتمثالٍ صخري قديم، لم يهرب من جموده الساكن سوى عيناه اللتان تنظران بنهم، وتتمنيان نفس الأمنية التي ملأتْ وجدانكَ من قبل، وأنت ترقب فتى السيرك وهو يفعلها بمهارة كاملة، ظللتَ تتمنّى أن تكون مكانه، لكنكَ لم تغادر مقعدك إلا بعدما انصرفَ الناس، وأُطفئتْ الأنوار، وأصرَّ رجال الأمن على خروجك.

كيف لم يتحسّس قلبكَ انتظار أسماء لك في غرفتها المقابلة؟! كنتَ تسير هائمًا على شاطئ البحر، ترقب الطائرة الورقية التي يشد حبلها الولد الصغير، وتكاد تعدو من خلفه، عيناك تصلبتا على الطائرة في الهواء فلم تدرك أنك تلهث في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي يجري فيه الولد، والذي يتضاد تمامًا مع اتجاه الريح الخارجة من جوف البحر إلى براح الشاطئ، فلم تلحظ غرق حذائك في الماء المالح، ولا ابتلال قدميك، إلا عندما أتتك ضحكة أسماء التي كانت ترقب الموقف من بعيد، ولم تستطع كبح جماح سخريتها.

حبيباتك العذارى جميعهن سخرن منك في آخر لقاء، وهن يُنهين العلاقة بهدوء شديد، أو يُلقين بالدبلة على ذات المنضدة، في ذات الكاﭬيتريا، برومانسية كن يعرفن أنها ستروق لك، وأنكَ لن تدرك أبدًا عدم ملاءمتهن لها، ولولا أن التكوين الداخلي لخديجة قد تطابق تمامًا مع تكوينك الداخلي، لما استمرتْ الحياة بينكما إلى هذا الوقت، حتى الأبناء جاءوا هكذا، بفعل الممارسة أو الاعتياد، ولم يضرب الطبيب على مؤخراتهم فرحًا بدخولهم الحياة، كأنه يعرف أنها مغلفة بجمودكما الداخلي، بدوتَ سعيدًا واستطبتَ الحياة، إلى أن جاء يوم السيرك ليوقظ روحك العطشانة، ومن وقتها بدأتَ رحلة الهروب وحيدًا إلى شاطئ البحر، للبحث عن شيء مفقود لم تتحدّد ملامحه بعد، ولا على أية هيئة يمكن أن يأتي، لكن داخلكَ بدا ممتلئًا بحتمية البحث عنه، شيء جديد يُتيح لك إمكانية الطيران بعيدًا، وداخل أي شيء، الهواء، الماء، الحياة، قلب امرأة، المهم أن يكون قادرًا على تخليص الروح، وإكساب البدن تلك الخِفَّة العظيمة التي يتوق إليها، والقادرة على تحقيق الحلم.

تعودتْ روحكَ على المقدمات الطويلة، ولم تكن تعرف أن الحياة الحقيقية لا تتطلّب أكثر من موقف واحد حقيقي، فلم تنتبه إلى ابتسامة روحها، ولا انشراح قلبها، ولا حتى غمزة عينها الضاحكة التي صاحبتْ ايماءة رأسها الصريحة باتجاه الغرفة، سارتْ نحوها ببطء شديد، ودلال متمهل، وفرحة تكفي لاختصار العالم كله في هذه اللحظة التي تتوارى فيها كل الأشياء، ولا تطفو على السطح سوى المشاعر الآنية، وهي تتعامل بنظرة خالصة، ووعي فاهم لأسباب سعادته، وكيفية الحصول عليها، هكذا بدت نظرتكَ مادية جدا، فلم تلحظ سوى تلألؤ جسدها الرشيق في المايوه البكيني، وهي تتكئ على كوعيها، وتمد قدميها في اتجاهك على البُعد، لم تسمع سوى صوت ضحكتها التي ظننتها ساخرة، ولم تستطع أن تتجاهلها، أو أن تتصنَّع مداراتها، وهي تتقدم نحوك، فيما يرتشق جسدها بمكان ما بداخلك، لم تستطع تحديده أيضا، لكنكَ تبينتَ علاماته المروعة في كل خلايا بدنك الصامت، قدماها الممدودتان في وجهك كانتا تشيران إليك بوجعٍ كبيرٍ، وكفيل بأن يجعل رجلا مثلك في وقار الخمسين يمتعض من شيطنة بنت عشرينية، وعدم مراعاتها للاحترام الواجب تواجده في المسافة الفاصلة بينكما، والتي راحتْ تَقْصُر وتتضاءل مع اقترابها الدائم منك، هكذا لم تحترم امتداد يدها إليك بالسلام، ولا همسها الضاحك بكل أنوثة الدنيا وهي تُعرفكَ بنفسها “أنا أسماء” ورحتَ تتصلب بغرورك القديم داخل صنميتكَ القديمة مثل قلم رصاص، وأنت تُقدم لقب “الأستاذ” على اسمك، لتحافظ على المسافة الواهية، فلم تلحظ مرة أخرى أن كل ما يمكن للقلم أن يخطه حتى انتهائه تمامًا، فإن أستيكة صغيرة تقدر على محوه في لحظة خاطفة.

إلى جوار الباب الموارب توقفتْ أسماء للحظة، ربما أحستْ بعدم قدرة روحك على استقبال الإشارة، فقررتْ أن تنفض عنها الغبار الكثيف الذي تراكم فوقها عبر سنين طويلة، وقاسية، ومحنطة داخل صناديق لا حصر لها، التفتتْ نحوك بنصفها العلوي وأكدتْ الغمزة، ثم تركتْ الباب مواربًا، فكيف لم يتحسس قلبك انتظارها من خلفه؟!

عدم رومانسية المشهد من وجهة نظركَ، وجرأته الفجة، جعلتك تبتسم لذكرياتك القديمة، ولم يكن ينقصها سوى صوت “عبد الحليم حافظ” وهو يردد “يا خلي القلب” لكن جُرأة أسماء التي بدتْ واضحة تمامًا في ارتفاع صوت ضحكتها الساخرة، وتقدمها الواثق نحوك وهي تشير إلى حذائك المبلول، ألجمتكَ إلى حالة من السكون الصخري العاجز عن إبداء أية مرونة قد تقلب الموقف لصالحك، وربما تُقدم هدية طازجة كمكافأة لك، لو أنكَ فقط تخليتَ عن “عبد الحليم” في هذه اللحظة، ونظرتَ إلى شاطئ البحر برؤية مغايرة.

لم تكن تعلم أن وجود غرفتها في مقابل غرفتك لم يكن صدفة رمتها أقدارك القديمة في طريقك، ولا فِعلًا متعمدًا من إدارة الفندق التي لا يهمها أمرك من قريب أو بعيد، بل فِعلًا متعمدًا من أسماء، بعدما تجاوزتْ روحها صنميتك الكاذبة عند الشاطئ، ونظرتْ إلى روحكَ تمامًا، فرأتْ جناحيكَ المطويين بداخلها، وتلمستْ خِفتها نعومة الريش الوثير الساكن، وأحستْ بقدرتهما على الطيران، كنتَ تعود من ليلة كئيبة، ممتلئة بالوحدة والخواء، لم تستطع خلالها أن تفك تفاصيل قلبكَ الذي ظننته محبوسًا هناك، إلى جوار امرأة لم تتعود سوى الركون إلى ظلمة سريرها البارد، ولم تكن مخيلتكَ التي قيدها الكبت لتتوقع انتظار أسماء لك في صالة الفندق، لم تفهم التفاتتها المنتظرة وهي تفرح لقدومك، فمشيتَ داخل تمثالك في خط مستقيم إلى باب المصعد، غير أن أسماء هرولتْ من خلفك، وظلتْ روحها تصعد إلى جوارك كأنما إلى السماء، رأيتَ ارتفاع وهبوط نهديها المتسارع نحوك، وهما يقفزان باتجاهك من تحت الفستان، رأيتَ اللهفة إليك في عينيها وهما تحرصان على ألا تطرفا مخافة أن تغيب صورتك، وجرحتكَ نعومة يدها التي أسرعتْ إلى فوق يدك وأنت تفتح باب المصعد، ثم تحسستها كأنما لتداوي جرحًا ما / سكونًا ما بداخلك، ففهمتَ أخيرًا، لكن خوفك القديم / وقارك القديم / صناديقك المغلقة أبتْ عليكَ أن تُصدق أن بنتا صغيرة كهذه تقدر على تحطيم صنم، ظلتْ أركانه تنتصب إلى جوار بعضها لعمر كامل، بحيث تم تفريغ الهواء بين مسامها حتى تلاشتْ الحدود، وصارتْ كيانًا صنميًا لتمثال يشبهك إلى حد التماهي، هكذا جريتَ إلى غرفتك وأحكمتَ إغلاق بابها عليك، وإمعانًا في الاختباء، أو جلب الأمان كما كنت تُحدِّثُ نفسك، لم تطمئن روحكَ التي لم تستطع أن تتعرَّف عليها في هذه اللحظة كما كنتَ من قبل، إلا وأنت تتحسّس جسدك الصخري في غرفة الحمام، وتغلق بابها أيضًا.

الآن تنظر في المرآة، ولم يخطر ببالك أنك ستواجهني تمامًا، صُعقتَ وتشبثتَ ببقايا رجولتك القديمة التي منعتك من الهرب، لكنها عجزتْ عن المواجهة، حتى أن عينيك راحتا تلوذان بالأرض كلما تلوتُ عليك خيباتك القديمة، وعجزتَ عن الصبر حتى أن الكيل فاض بك سريعًا، فقررتَ أن تختفي من أمامي بغتة وأنا مأخوذ بالتلاوة، لتتركني محبوسًا في المرآة، وقد فاتك أنني أرى كل شيء من مكاني هنا، أن هذا السطح الأملس يحتوي بداخله عالمًا بلا حدود، وأنه يُتيح لساكنه قدرًا لا نهائيًا من البراح، وقدرة عظيمة على النفاذ إلى داخل الأشياء بسهولة ويُسر.

بالكاد انتظرتَ مجيء الصباح، كنتَ تشعر أنكَ تعبر ليلا طويلًا ومظلمًا ومعبأ بمواجهة لم تتخيل قدرتها على التأثير فيك، ولم تكن تتوقعها أبدًا في بداية الليل وأنت تعاني الوحدة والخواء، وتهيم على وجهك في الشوارع الصاخبة، والكاﭬيتريات الأكثر صخبًا، أتعبكَ الرجل في المرآة تمامًا، ولم تجد بُدًا من الهروب من مواجهته، كمحاولة أخيرة للاحتفاظ بروحك المطمئنة، ووجودكَ الآمن في قلب تمثالك المستكين على ما هو ثابت، واستقرتْ الحياة عليه، غير أنكَ لم تقوَ على فتح الباب مخافة أن تكون أسماء قد تجاوزتْ باب الغرفة، فأطفأتَ النور ليكون اختفاؤك كاملًا من أمامه، ورحتَ تُمدّد بدنك المنهك في تجويف البانيو، لعله يُشكل إطارًا إضافيًا لاحتواء تمثالك الذي يتداعى في مواجهة أستيكة أسماء، وهي تتباهى بقدرتها على المحو، وصناعة البياض الناصع، والمستعد دومًا للكتابة الجديدة.

أغمضتَ عينيك، وكان لفِعل الماء عليكَ سِحْرٌ لم تستطع فك طلاسمه، ولم تتبين أنه يُشبه إلى حد كبير السِحر الذي قذفتُه في عينيكَ وأنتَ تنظر إليّ في المرآة، فقط تشعر بما يُشبه اليقين أنه هو مَنْ يجعلك الآن مستعدًا للبدء من جديد، ويدفعكَ بكل عزمه كي تخوض التجربة، ملأتَ البانيو بالماء حتى آخره، وتجردتَ من ملابسك كاملة، ورحتَ تنتظر حتى كاد الشك يدخلك مرة أخرى، كنتَ مغمورًا بالماء في البانيو والماء لا يصل إليك، وعندما فتحتَ عينيك رأيته يحوطك على البُعد، وكأن دائرة شفافة تحيط ببدنك وتمنعه من ملامستك، حتى لمسكَ الخوف وهممتَ بالخروج من البانيو، فمددتُ يدي من داخل المرآة حتى لامستْ قلبكَ فثبت، أنت لم ترَ ذلك بكل تأكيد، لكنك شعرتَ بأن شيئًا ما يُثقلك إلى الأسفل كأنما ليمتحن قدرتك على الصبر، بعدما فشلتْ كل محاولات تململك من تحته، وعجزتَ عن إخراج أنفك للهواء، ظللتَ لفترة لا تشعر بالماء، وتستغرب من أين يدخلك اليأس؟! وكيف يستل نفسه من الدائرة حتى يلامسك؟! ومع الوقت، تحديدا في اللحظة التي بدأتُ فيها برفع يدي عن قلبك، شعرتَ بالدائرة الشفافة تتشقق من حولك، وأطرافها الخارجية تذوب في الماء، مخلفة ذلك اللون الرمادي الداكن الذي راح يتسرَّب لمسافة قصيرة ثم يختفي، وأنكَ تَخِفُ وتطفو.

تشقَّقَ تمثالك الصخري إذن، على عكس ما كنتَ تظن، ورأيتَ الماء يتسلل بين ثنايا الشقوق حتى يلامس جسدك، فتشعر به بردًا وسلامًا كأنما يلامس روحك العطشانة، ولأول مرة في حياتك تشعر بتلك الخِفة العملاقة التي تكاد تُطيرك من مكانك، وتدفعك للجري من وراء أسماء.

يتسلل النور إلى داخل الداخل رغما عنك، لتكتشف فجأة أن كل تفاصيل الحمّام ظاهرة بوضوح يُتيح لك القدرة الكاملة على فتح الباب، ورغم أن المسافة بين بابيّ الحمّام والغرفة بدتْ طويلة، وغائرة في البُعد، إلا أنك قطعتها كملهوف يتوق إلى النجاة، وكأن قلبكَ قد التقط الإشارة أخيرًا، فأحسَ بمغادرة أسماء واستعدادها للرحيل، وكمعجزة أخيرة لتثبيت النبي الذي يجوس بداخلك، رحتَ تتمنّى لو أن دليلًا أخيرا يواجهك على باب غرفتها من الخارج، دليل يشبه تمامًا الورقة التي كتبتْ عليها أسماء رسالتها الأخيرة لك، وألصقتها عليه “أنا في محطة القطار، وتلك فرصتك الأخيرة”.

لم تكن أسماء تنتظر عند محطة القطار، بل كانت بداخلك تمامًا، ولم يكن صوت القطار الذي يدوي صارخًا في البعيد، بل صوتها ينادي عليك بإصرار العاشق لينقذكَ من البلل، ليس فقط بلل ماء البحر المالح، بل وما تراكم عليه من عرق غزير ولزج، راح يتكوم على كل خلايا بدنك الفائر من الغيظ، والرغبة في الخروج، وأنتَ ترقب الأولاد في الجانب الآخر من الشارع، وهم يعتلون الحبل بين العمودين، ويبدؤون الطيران.

لأول مرة في حياتك يعلو بداخلك صوت أسماء، فتتكسّر كل نداءات مخاوفكَ القديمة، التي تراكمتْ ونمتْ كسرطان لا يكف عن التوغل والانتشار والتضخم في وجه أحلامك، رحتَ تجري باتجاهها بكل عزمك، مغمض العينين لكنك مفتوح القلب، مسترشدا بالصوت الذي يدوي في البعيد، وتاركا من خلفك إلى جوار الحائط الساكن صنمًا صخريًا يتوق إلى اللحاق بك، لكنه يعجز عن الحركة، فيظل يصرخ بنداء مقابل تَعَلَّمَ كيف ينفذ به إلى داخلك العميق على طول خمسين عامًا من الوحدة والقهر، وأنت تجاهد كثيرًا للانتصار لصوت أسماء.

لم تكن تعلم أن الأولاد في الشارع يرقبونكَ منذ البداية، أنهم تمنوا كثيرًا لو أنكَ تأتي عن طيب خاطر منك لتشاركهم الحياة، وأنهم نظروا إلى خروجك العظيم هذا بإعجاب شديد ودهشة غامرة، وكأنهم يرون معجزة جديدة، لم يكن يُعكِّر صفو جلالها الأسطوري سوى صوت تمثالك الصخري القديم، وهو يموء في الجانب الآخر مثل قط وحيد وحزين، يوشك على فقد آخر أرواحه السبعة، ويرى علاقته بالحياة وهي تكاد تنقطع، أزعجهم المواء المتحشرج، وبدا الجانب الآخر من الشارع غائرا في القِدَم، وبعيدًا جدًا بالنسبة لهم، لكنهم قرروا مساعدتك عن طيب خاطر منهم، لما شاهدوا روحك تنتفض من سكونها القديم، وتفرد جناحيها باتجاه أسماء، هكذا اتجهوا نحو التمثال، لا ليكتموا صوته المزعج، فقد كانوا يؤمنون تمامًا بحرية الصراخ، بل ليعلموه فضيلة الصمت كنقيض للحياة، طالما انطفأ وميضها، وأصبحتْ عاجزة عن الدوران حول قرص الشمس، ولما عجزوا عن تحريك جثمانه الجاثم الثقيل، صنعوا لقدميه عجلات حديدية متحركة، وساقوه باتجاه الحبل، ليرفعوه من فوقه.

هكذا أتاحوا له تجربة جديدة لم يكن لينالها أبدًا، لو أنه ظل ينتحب إلى جوار الحائط، لكن الخوف تملكه من أساسه إلى رأسه، ويداه راحتا تتخبطان في الهواء بحثًا عن عباءته القديمة، حتى وجدها فتشبث بها، هكذا كف عن بث ندائه المقابل بداخلك، فأحسستَ أنت بمزيد من الحرية، والقدرة على الجري باتجاه المحطة، وأنك تقطع الآن مسافة لا بأس بها أبدًا نحوها.

لما ترك الأولاد التمثال، لم يجد بُدًا من مواجهة مصيره، ضغط بثِقله على العجلات من تحته، فتحركتْ فوق الحبل، لكنه عجز عن حفظ توازنه سريعًا، فأحسَ بأنه يهوي من ارتفاع لا قِبل له به، ولم يُصدق انتهاء علاقته بالحياة إلا وهو يرى جسده يتفتت على أسفلت الشارع، ويرى عينيه اللتين تنظران إليكَ بأسى ودموع قديمة تنغلقان إلى الأبد، وصوته الذي يزعق عليكَ، متوعدًا مرة، ومستدرًا لروحك القديمة أن تتلبسه مرة أخرى، يأخذ الآن في الخفوت، حتى يتلاشى في جوف مقبرة سحيقة، ولا فائدة من إعادة اكتشافها من بعد.

اجرِ أنتَ، فأسماء سوف تنتظركَ دائما، والقطار لن يغادر بدونكَ، ما دام الهواء الذي يدخل رئتيكَ قادر على أن يمنحكَ البسمة، ولا تخف عليّ أن أظل وحيدًا في المرآة، فأنا أرقبكَ تمامًا من هنا، ومن هنا سأخبركَ بكل الأشياء.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مجموعة “قسوة الآلهة” روافد للنشر والتوزيع 2017م.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى