وداد معروف ‎ - الضي!

أنا التي تشبهها في كثير من ملامحها الجسدية، ورثت عنها اللون الأبيض الزهري، ووجهها المستدير ذا البشرة الناعمة، رقبتها الملفوفة اللافتة التي تدهش كل من يراني و يعرفها، فورا يقول لي: أنت من تشبيهين جدتك الضي، أسعد بانتسابي لها وأني أحمل ملامحها الطيبة، كنت أطير فرحا كلما أرسلتني والدتي إليها، أسباب كثيرة كانت خلف فرحتي تلك ، هى أكثر هدوءا من والدتي، تتحدث معي كأنني فتاة ناضجة و تسمع لي، فأشعر معها أن عندي ما يُنصَت إليه، علي غير ما تعودت مع أمي التي لا تري فيَّ إلا "سارة" صغري بناتها التي لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، فلا ينبغي أن تتحاور مع "مفعوصة مثلي"، الحوار بيننا افعلي ... لا تفعلي، ذاكري ...لا تلعبي، قللي من الكلام مع عفاف صديقتك، خذي بالك علي مصلحتك، عفاف تعطلك و تذاكر هي و ستسبقك و تتفوق عليك، أيضا هناك سبب مهم لهذه السعادة، فبيتها هادئ لا ضجيج أطفال بلعبهم و خناقاتهم كبيتنا، يصدح فيه صوت إذاعة القرآن الكريم و هي جالسة دائما بجوار المذياع تستمع بإنصات ممسكة بمسبحتها الفيروزي المئوية تسبح، لكنها ما إن أدخل بيتها إلا وتسرع للمطبخ تعد لي الإفطار لو كنا في موعده أو تأتي لي بطعام الغداء إذا حان أوانه، تفشل محاولاتي في إقناعها أني أكلت، تصر بشكل عجيب علي أن آكل ما قدمته لي، وما قدمته لي لا يقاوم، فالبيض بالسمن البلدي مع كوب اللبن الكبير و الجبن الذي تصنعه بيديها، خبزها الذي تعجنه باللبن و السمن و عطر الفانيليا، هو نوع من الخبز يطلق عليه " الكماج " للذة طعمه يؤكل وحده دون غمسه في شيء، تجلس بجانبي و أنا ألتهم أكلها اللذيذ، فتتحدث معي و تظل تضيف لي أطعمة أخري و تعد الشاي لأتناوله بعد أن أفرغ،
كان للضي طقوس أحب أن أراها وهي تمارسها، تبدأها بأن تقول لي: سارة، عيوني لا أستطيع أن أفتحها، اذهبي واشترِى لي كيس قطن من الصيدلية؛ أذهب طائرة فآتي لها بالقطن، أعرف أني سأشهد صناعة لا تتقنها إلا جدتي الضي، هي تُعرف بها وسط النساء، فيقصدنها لتعطيهن من إنتاجها النادر ما يملأ زجاجة البنسلين الفارغة، لم تكن تأخذ منهن مقابل، فهي مستورة بل تقترب من الرفاهية، يكفيها فقط دعواتهن لها، ولم يكن برها بجيرانها بهذا فقط، كانت أيضا تعطيني بعض الخبز وبه قطع الجبن و تقول لي : اذهبي لنينتك عسكرية و أعطه لها، مسكينة ربما لا تجد ما تفطر به، فتتبعني الدعوات لها و أنا عائدة من مشواري السري كما تأمرني، تجمع لي طبقا من خضروات و فاكهة الغيط الجوافة و البلح وتشير إلي بيت مقابل بيتها وتقول: اطرقي الباب وناوليه لأم سعيد جارتنا وتعالي بسرعة، أرفرف كفراشة فأهدي لهم ما جادت به الضي وأعود بنفس الرفرفة لأشهد طقسها الجميل، تبدأ في صناعة كحلها الحامي بنفسها، وأنا بجوارها أتأمل بشغف ما تصنع، أذكر أنها كانت تضع علي القطن زيت الزيتون وتحرق القطن و من الرماد المتخلف يكون الكحل، بعدها لا يغادر الكحل عينيها، فيزداد وجهها الأبيض بهاء ووضاءة. كان لها مزية أخري تمنيت أن تقلدها فيها أمي، و لطالما طلبتها منها، لكنها لم تجبني إليها، لم أطالع أمي منذ وعيت علي الحياة إلا وهي ترتدي الأسود داخل البيت و خارجه، كان هذا اللون يقبضني جدا، قلت لها كثيرا أني لا أحب هذا اللون، كفي عن لبسه، كوني مثل جدتي الضي التي لا تلبس إلا الأبيض، فتصبح لطلتها راحة أجدها في صدري، يا أمي لأجل خاطري اتركي هذا الأسود فترد علي بصوت أفهم منه الاستحالة : آليت علي نفسي ألا أخلعه حتي آخر عمري، لم يكن فقد أبيك بالأمر الهين لاستبدل ثيابي بالألوان، دعي هذا الأمر لا تحاولي فيه. صمتُّ و أنا كارهة لهذا اللون الذي يصيبني بالكآبة، كبرت وصار أبغض لون لي هو ذلك الأسود الحزين وعرفت أن الشبه بيني وبين الضي لم يكن ملامحها فقط و إنما روحها أيضا .
  • Like
التفاعلات: تسنيم طه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى