محمد فيض خالد - أبو العُرِّيف

تميّز " فؤاد " بسمرَتهِ الدَّاكنة ، وشاربه الكثّ حَادّ الحَواف ، وحاجبيه بشعرهما المتهدِّل ، ومشيته المتئدة التي تبرِز عظام صدرهِ ناتئة كالحِرابِ ، يسير متصفِّحا الوجوه يكاد يشكو رزءا من أرزاءِ الحياة ، الكُلِّ يقدِّر نباهته وذهنه المتّقد ، غير أنَّه وكما، يقال : سبع صنايع والبخت ضايع ، كوردٍ من أورادِ يومها تردد الخالة "سكينة " وهي توارب بطرفِ حرامها القطني وجهها الأعجف ، تُلازِم عتبة دارها مع صياح الدِّيكة المنتشية ببشائرِ الصُّبحِ ، تُطالعه ذاهلة ذهابا وإيابا ، تمطره بكلماتها كُلَّما زاولت خياله المُتَهافِت ، جَحَده والدهُ صغيرا ، بعد إذ تزوّج " غالية " فاتنة القرية اللّعوب ، وجنية أحلام شبابها العاطل ، لم يقف لهُ حظّه على مهنةٍ تدرّ عليهِ قوتا ، اللّهم إلّا صَبابة مالٍ يتحصلها من برمِ مغزله ، فيده تتلاعب بكراتِ الصّوف في مهارةٍ وإتقان ، فتخرج أجمل طواقي ، ها هي الأقدار وقد طوّحت بهِ إلى شواطئها المقفرة ، ليحيا على هامشِ العيش أسيفا ، تجوبُ في مُقلَتيهِ نظرة حَالمة مُبلّلة بالشِّكايةِ ، حين فقدَ الأمل نهائيا أن يجد بين حنايا قلب والده متسعا لأحلامهِ ، مبكرا استحوذت على العجوز فتاته ذاتَ العود السَّمهري ، عندها فقد صاحبنا الأمل أن يجدَ براحا لأحلامهِ ، انصرمت أيامه رغما عنه ، لكنّه رغم سلوه لا يزال في ذهولهِ القديم ، يُكابِدُ غصّةً في صدرهِ لا تنطفئ مراجلها ، باستمرارٍ تستقيظ شجون الذِّكرى الأليمة ، جاهد طويلا علّه ينسى ، ولكنه لم يفلح ، حتى وإن بدى للناظرين رجلا عابثا مُتفلِّتا ، لا يترك حياة المرح ساعة ، يفرُّ إلى لهوه كُلّما حانت منه هنيةٍ ، يجوبُ القُرى يغشى الموالد ، يتردّد ذِكره فوقَ كُلّ لسانٍ كابنٍ من أبناءِ الحظّ .
على ما يضطرم نفسه من نوازعِ بيد أنّه يعود قويا وإن لم يهتد لطريقٍ ، يعرض نفسه على كُلّ صنعةٍ ، قال عنه " عثمان " المراكبي : إنّه شيطان رجيم ، يعرف القرد أين يخبئ أولاده ، عند كُلّ صباحٍ تطرق باب منزله طوائف شتى ، اتَخذَ صنعة التداوي بعد أن جَلَبَ صندوق خاله الذي سبقه إليها ، دهن القط لإخراج الأشواك من القدم ، لحم الثعابين لعلاجِ لدغ الحيات ، شوك القنافذ وجلدها بخورا للحمى ، مراهم للدمامل ومسّة لصَديدِ الأُذن ، عصابة البيض والملح والدقيق جبيرة للكسورِ ، والهندية لرَمدِ العين ، ماء الورد يُعيد الوعي ويجلي الذهن ، عقد أحجاره الملونة دواء يشفي التهاب اللوزتين ، مجمرته النّحاسية العتيقة لم تترك بيتا ، تفوح منها روائح المستكة ولبان الذِّكر والشّب لدرء عين الحَسود المتربّص بالبيتِ وأهله وماشيته ودواجنه ، يتقاضى نظيرها قروشا يسيرة لا تعدل ما يُكابِد من مشاق ، وهو مع كُلٍّ محموما بنشوةِ الفرح ، ممتلئا بالبهجةِ كمن لا يَصلهُ من عَجيج ِالحياة شيء يُزعجه ، في رمضان تنبعث خشخشة الراديو عالية وحده من يُميّز صوت المقرئ ، دقائق وينطلق ابنه الصّغير في تصايحٍ ، يُعلن انتهاء صيام النهار ، وإمعانا في تأكيده يتوسّط " أبو العرِّيف " الدَّرب وفِي عينيهِ بريقٌ أخاذ ، يُخرِج ساعة جيبه الفضية ، يُحَدِّق في الفضاء ووجهه يَشعّ بنورِ الثّقة ، قائلا : الآن .. صوما مقبولا .
تمادى " أبو العُرِّيف " في سبك حيله ، يظهر من المهارةِ أعجبها ، فتراهُ مُتربعا وسط النّساء أمامِ الأفرانِ ، يجسَّ العجين ويقرّر المقادير ، يوبّخُ الرّعناء التي فسد طحينها ، يتلقى في انبساطٍ اللّوم والتقريع مسبوكا بالنكاتِ اللاذعة ، يتمايل غير مبالٍ ليقرص فتاة ناهد في فخذها، أو يقذف امرأة بقرص " جلة" وقد تناسوا أن بينهم رجلا ، فلا مانع أن يتخففن من ثيابهن ، وهو مع هذا لا يكف عن تقديم وصفاته المجرّبة لفلانةٍ التي تطلب مقادير البسكويت ، وعلانة التي تثور بقرتها ساعة حلبها ، فوق المصاطب تربّعَ مزهوّا ، يتسمّع شكاوى القوم ، عن صلافةِ عمال الرّي ، فيدلهم على موظف كبير صاحب سلطة ونفوذ ، لا ينتهي نهاره دون مشورة أغلبها شراء جهاز عروسة ، " أبو العُرِّيف " يعرف تجار الأقمشة والأثاث المستعمل ، كما يعرف مكاتب المحاماة وعيادات الأطباء ، هي سهلة كأسماء شهور السنة القبطية وبدايات الفصول ، ما أصفاه كطفلٍ غرير يشارك الفتيان صيد الفئران ، وشوي الزرازير وسنابل القمح ، يتباهى بأنّه الوحيد الذي يهاجم أعشاش الغربان ينتزع فراخها ، يقول في نهمٍ : هي ألذُّ من الديوك الرُّومي ..
مضت أيامه في تلهّي ، لا يُزاحِمُ الدُّنيا أهلها ، حتى دارت عليهِ كؤوس المنية ، لم يتحمّل عَسف خسارته ، باع القطن وبعدَ أسبوعٍ ارتفع السعر أضعافا مضاعفة ، لم يتحمل فإلتاث عقله ، لحقته رثاثة البلى ، ليغادر في صمت .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى