فاتن فاروق عبد المنعم - المقصورة..

تلك العيون الرانية، تتصدر رؤوس تلتوي تجاهنا حيث نكون، متطلعة إلى ألق، منذ أن كان يتقدم على مهل، ألقاه الله علينا من لدن حكيم خبير، نحمل الرسالة نجوب بها الأرجاء مبشرين ومنذرين، نتكيء عليها كما كل حاملي مشعل الهداية، فكانت لنا صولات وجولات أقضت مضجعهم، هم الذين كانوا يهدون الناس سبل رشادهم ولا يريهم إلا مايروا، فهبوا على قلب رجل واحد لينقضوا علينا فكنا لهم بالمرصاد ووقعنا باسمنا في صفحة الأمجاد، لفحت شموسنا وجوههم، وأحرقتهم فردوا مدحورين.
وفي غفلة منا تسللوا ينبشون القبور ويقلبون أرضنا الزاخرة، ليضعوا أيديهم على موطن قوتنا، بعد أن رأوا طريقتنا المثلى في التدوين، بأن نلقي فسطاطنا حيث حطت أقدامنا بهدي متن إلهي، كأننا نمتطي الريح لنصبح في الصف الأول، فبهرنا العدول الذين أشادوا بفعلنا، وأوغرنا صدور الحاقدين لتضطرم النار فيها، فعزموا على وجوب حلولهم بيننا.
وفي غفلة أشد وأنكى، بعد أن ميلنا إلى الدعة والاسترخاء وخالفنا هدي الأول تكدرت سمواتنا ورانت الظلمات على قلوبنا فأسملت عيوننا وضللنا فإذا استفقنا وحاولنا رد الصائل ألفينا أنفسنا في مرج التيه.
نبحث عن باب الخروج، والمزلاج بأيديهم، أرهقهم التدافع، تركوا المزلاج ليفتح الباب على مصراعيه، ليقودنا من صنعوهم على أعينهم، أبواقهم بيننا، اطمئنوا لكونهم سيبثوننا كل ما أرادوا، رسلهم بيننا، فعلوا بنا ما لا يخطر لهم ببال، تلك المسوخ، في ظاهرهم منا وماهم منا.
بنورة شفيفة، مكعبة تبين ما بداخلها في واجهة المتحف بالخارج فوق قاعدة حجرية كبيرة عالية ليراها الكل في غدوهم ورواحهم، لتأصيل محتواها في داخلنا، صنعوا الشخوص الممثلة داخلها على أعينهم، عنوا بتكوينهم كما أرادوا، كأنهم ارتسموا سمت كل منهم بالشكل الذي يرضيهم.
كأنها متحف مفتوح، متاح للكل، هؤلاء الذين رحلوا بأجسادهم فقط بينما هم مليء السمع والبصر، سيرتهم تحفل بها مختلف الشاشات والإذاعات والكتب المدرسية، والقائمين على هذه الوسائط مذعنون، ليحفرونهم داخل البراعم والطلائع، فيمتزجوا بمكونهم فلا ينفصلون عنهم أبدا، صانعهم يراقب المشهد ويصيخ السمع خشية الانفلات من قبضته.
ونحن دائما مفتنون بصنعة الآخر، لأنها الأجود، حتى البشر، كل منتجهم مرغوب فيه، النساء تتوق للبشرة البيضاء والعيون الملونة والشعر الأشقر، فتلفظن ألوانهن الطبيعية وتلجأن لما يحقق لهن مبتغاهن.
الصانع يرانا كما أراد فيطمئن داخله، كلما لاح له من بعيد ما يشير إلى انفلاتنا أسرع لتدارك الأمر.
ثبات الأحوال يشي بالاستقرار المأمول لهم، مازال الكيانات التي صنعها في بلادنا ترقد بين الثريا زيفا وعنوة، أطلق عليها كنيات نرددها ونرتضيها.
عكس السائد يصرحون بالحق والحقيقة، فيراهم الصانع العبد الآبق، والآبق لابد من عقابه، فيقبر حيا وميتا ولكن هيهات هيهات، يأبى الله إلا أن يتم نوره.
هيئة الأرصاد تعلن عن حرارة الجو الخمسينية في الظل وتحذر من الخروج وقت الظهيرة أو التعرض لأشعة الشمس لساعات طويلة.
البنورة المغلقة تحيط بها الشمس من كل الجهات والشمس بمكونها الهائل فضاحة، البنورة تحبس الحرارة ولا تسربها، تماثيل الشمع تبدأ في الانصهار التدريجي حتى تسوى بالأرض، بألوان كثر متداخلة، خمس وستون فقط هي درجة حرارة انصهار الشمع، صنعة الآخر رديئة، هذه أول مرة يدرك فيها العامة والدهماء أن صنعة الآخر رديئة يمرون من أمام المقصورة مذهولين، جحظت عيونهم وفغروا أفواههم غير مصدقين.
قام العمال بحمل أقراص الشمع مختلطة الألوان والتي تجمدت ليضعوها في سلال القمامة ثم هرعوا إلى تماثيل أخرى بالداخل بين الجدران والأبواب المعتمة، لا يراهم أحد ولا يعرفهم العامة والدهماء، مصنعون من معادن مختلفة، متدرجون في الجودة والقيمة، يتراوحون بين النحاس والبرونز والذهب والفضة وقليل من الماس، يعلوهم التراب لتغيبهم القسري.
قاموا بمسح الأتربة فتجلى بريقهم للعيون، هذه الكيانات صنعت على عين أجدادنا الذين خرجوا من أرضنا الخصيبة، الرحم الأول.
الصانع ممتعض، صرحه ممرد يشف عن ما بداخله، لم يكن بحاجة لأكثر من خمس وستين درجة ليتهاوى، الشمس هي أصل الحياة على الأرض، والأصيل لا يتبنى الأكاذيب.

فاتن فاروق عبد المنعم _ مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى