د. عبد المنعم عبد الرحيم عبد الله - بقرة الحرث..

(١)

بدأتْ بطني في التّمدّد، أحاول تخبئتها، أجعلها دوما مشدودة بقماش؛ حتّى طُبِع عليها أثر واضح، أمنع نفسي عن الأكل، إلّا لضرورة قصوى، أنام عليها لتتبدد، وأستيقظ على تمددها، في كل مرّةٍ تفشل محاولتي؛ ألعن أبي فيها.
شعرتُ بخطورة الموقف، حين أحسست بحركةٍ ما داخل بطني، تزداد يومًا بعد الآخر، شيءٌ يركل بلا ملل، عنيد، عنيف، يقسو عليّ كما أبي، يريد عنوةً أن يخترق جدار بطني.
كُنْتُ أظنُّنِي في حلم، أو أن الأمر لا يعدو مجرّد دهون زائدة، أو ربما "البلهارسيا" الّتي تصيب أهل القرية على الدّوام، تمنّيتُ لو أن كبدي أصيبت بالتّخمة، أو سرىٰ سرطان لعين في أحشائي. في كل مرّةٍ أهرب فيها بمخيلتي، يعيدني بركلة إلىٰ واقعي، إلىٰ لعنتي الأبديّة.


(٢)

تسحقها الشّمس لساعاتٍ طويلة، تحوّر سمرتها ببطء، تجعلها فاحمة. طويلة، سامقة، تبدو كنخلة وسط الزرع، ممتلئة الصدر والفخذين. لها اسم لا أحد يناديها به، وفي مرّات كثيرة يتبدد من ذاكرتها، ولا يحضرها سوى قولهم: "بقرة الحرث".
يأتي أبوها بعودين غليظين فيصالبهما، يربط أحدهما في منتصف الآخر، ثم يربط على العود الطولي قطعة حديد حادة وثقيلة؛ لكي يسهل غرسها في الأرض. هكذا كان حرثهم، تلك الآلة التّقليديّة التي تجرّها بقرتان، ومن لا يملك البقرتين، يستعين بأولاده في جرّها. رُغْم أن لديه بقرة واحدة، لكنه كان يحرث كل عام، مستغلا قوام وبنية بنته الوحيدة، يحكم طرف العود العرضي فوق عنق بقرته، ويضع طرفه الآخر على كتف بنته، ويهشّ عليهما بسوطه.
يهطل العرق من مسامات بشرتها الفاحمة، تنزلق حبيبات العرق من على وجهها، تبدو مرتّبة في انزلاقها، بخطوط متساوية، ولا تتفرّق إلّا عند جرح عميق على خدها، لتتّحد خطوط العرق بعد تجاوزها الجرح، فتصبّ جميعها على صدرها الممتلئ، ويتبلّل، لتغرق هي في ألمها، كما صدرها.
ذاك الجرح على خدِّها، أثر قديم منطفئ، لا يؤلم، هكذا يتبادر للذهن، لكنّها تشعرُ به في قلبها، متقرّحًا، وينفتح أكثر فأكثر عندما تتذكّر تفاصيل وجه أبيها الغاضب، حين شكت له التّعب، ليدفعها نحو آلة الحرث الحادّة.
كانت تطرد فكرة أنّها إنسان، وتستحضر دوما أنّها مجرّد بقرة بطريقة أخرىٰ، خُلقت فقط للحرث.


(٣)

آلام ظهر حادة، غثيان مستمر، وبطني تسهب في تمددها، ضاربة بكل آمالي في اضمحلالها عرض الفراغ، الأشياء بدت واضحة، واستحالة مواراتها أكدت لي أن نهايتي قد اقتربت.
لو كان أبي ليّنًا، أو لو لمرّةٍ صافحني بكف ثقته لما نِمْتُ تلك الليلة مثقلة، حين شعر بالحمى وتركني في الحقل وحيدة، في الحقيقة لم أكن لوحدي، تركني أنا والبقرة، أو بالأحرىٰ بقرتين. وبينما كنت منهمكة في الحرث وفتح جداول الماء، رأيتُ من بعيد عربة عسكرية، لم أعرها اهتماما إذ كانت تلك عادتهم حين يبدأ موسم الزراعة فتوزّع الدولة قوّة لردع الحرب هنا، الحرب الّتي تندلع بسبب الزّرع والسّقيا. اقتربت العربة، وبدتْ ملامحهم واضحة، ثلاثة بالزّي العسكري، وعلىٰ كتوفهم البنادق، كلما اقتربوا غمرني الخوف، خوفٌ لم آلفه قط. يضحكون وهذا الّذي يقتلني، خشخشة نعلهم تصلني بوضوح، وصوت أنفاسهم يخرق أذنيّ، وضعوا السّلاح فوق رأسي، وقالوا: أنّهم لن يترددوا بأن يفجروا جمجمتي إن بدر مني صوت. عن أي صوتٍ يتحدثون وأنا التي لم تعرف الكلم قط؟!
تمّ اصطحابي إلىٰ العربة، وطرأ على ذهني ألف احتمال، إلّا أن يتبادلوني كعاهرة تبرز لحمها للبيع، تركوني وأنا ممتلئة بسمهم، أحمله عنوةً، مغصوبة، مغتصبة، أحمله كشيء يستحيل حكيه، كلعنة أبدية لا أعلم إلىٰ أين تقودني.


(٤)

استيقظ أبوها على غيابها، فراشها خالٍ وغير مرتب، ليست من عادتها أن تسبقه على الحقل، كان حين يستيقظ يجدها جالسة أمام موقد النّار، الّذي وقعت فيه أمها على وجهها، وماتت في الفور. ذهب علىٰ عجل إلىٰ الحقل، يستعجل عقابها، لكنه وجد بقرة واحدة بدل اثنتين. يروح ويغدو بين المنزل والحقل، يبدو كمجنون تطارده فكرة الطيران.
ذاع خبر اختفائها بين بيوت الطين، رُغْم أنّ جلّهم لا يعرفون اسمها، لكن حين يُقال لهم "بقرة الحرث" يتوقفون عن ولادة أسئلة جديدة.
جاء الليل بلا أمل، حمل الجميع مصابيحهم نحو الفيافي، يريدون فقط أن يشبعوا فضولهم، وهي الّتي لم يشعر بها أحدٌ على الدوام.
وجدوها ممدّدة، على مشرع مياه الحقل، هادئة، تبدو نائمة أكثر من أنّها ميّتة، الدّماء تسيل من بين قدميها، بقربها قطعة حديد طويلة، ممتلئة بالدِّماء.





-----------------------------------------
* القصة القصيرة الفائزة بالمركز الثاني في مسابقة القصّة القصيرة، الّتي تنظّمها الرّابطة الموريتانيّة للأدب والثّقافة، عن الدّول العربيّة، في دورتها الثّانيّة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى