مصطفى نصر - الولــــد..

جو الشقة خانق رغم اتساعها, النوافذ والشرفات مغلقة ومغطاة بستائر ثقيلة, ومصباح بعيد معلق فى آخر السقف العالى, ضوءه الخافت لا يغطى سوى جزء قليلا جدا من الصالة التى تجلس فيها المرأة التى اعتادت الصمت وألفته.
والولد يجلس قبالة أمه, ينظر إليها فى ترقب, يتابعها فى اهتمام شديد. وقطة تعودت الصمت مثلهما, تقفز فوق حجر الصبى. ثم تنزل من فوقه فى هدوء. تنظر إلى وجه المرأة الذى يروح بعيدا.
هى لم تبرح البيت منذ عدة أيام. اشترت أشياء كثيرة تكفيها وأبنها لأسبوع بأكمله, ملأت الثلاجة ونملية الخبز. فهى تريد أن ترتاح وأن تبتعد عن الناس. فلم يتبق لها فى الحياة سوى ولدها الصغير بعد أن ماتت أمها وهجرها زوجها.
تشرد المرأة فى الأيام التى ولت ولا يمكن أن تعود. تابعت صورتها المعلقة فوق الحائط وزوجها يحتضنها وهى تضحك. تدهش هى الآن, كيف استطاعت – وقتها – أن تضحك هكذا, فتفتح فمها عن آخره. الفرحة كانت واضحة فى عينيها, وزوجها يبتسم فى وقار.
لقد أحبته وتمنت أن تتزوجه, وهو أحس بها, اقترب منها دون باقى الزميلات, وأولاها رعايته واهتمامه. لقد أحس بأنها فى حاجة إلى رجل بعد أن وصلت إلى ذلك السن الحرج دون أن تتزوج. وأحست هى أيضا بأنه لن يتزوج إلا هى. فقد كان أكبر من أن يظل عزيا للان, ولن تقبله سواها
عندما اقترب منها مترددا وممسكا بمنديله يمسح عرقه من وقت لآخر, ويتحدث فى أشياء كثيرة غير مترابطة, أحست بما يريد أن يقول, فساعدته ووفرت عليه رحلة عناء طويلة وقالت:
- سأعطيك العنوان لتقابل أمى.
رأى أمها, كانت غير قادرة على الحركة, وإذا تحدثت تعوج فمها إلى اليسار, فتخرج الكلمات متكسرة ومنحشرة بين الشفتين.
أحس الرجل بالخوف. فقد تتحول زوجته – بعد سنوات – إلى حال أمها هذا.
ظلت الزوجة كما هى, لم تفقد القدرة على الحركة, ولم يعوج فمها, كما توقع, لكن الولد جاء معوقا: رأسه كبير, ووجهه ممتلئ, ولا يعى ما يحدث حوله.
أبتعد الرجل عن الزوجة. قال: أنت السبب, انه قريب الشبه بأمك.
تركها وعاد إلى بيت أخواته اللائى لم يتزوجن. وظلت هى فى الشقة الواسعة مع الولد.
اقترب الولد منها, فقفزت القطة فوق قدميه تداعبه. لكنه لم يلتفت إليها. نظر إلى وجه أمه فى إمعان. قالت:
- اسمع يا ولدى . إننى متعبة وسأنام الآن, لا توقظنى مهما كانت الظروف.
أومأ برأسه. أعادت ما قالته ليستوعبه, ثم نامت فوق الكنبة الممتدة فى الصالة وشدت الغطاء حول جسدها: الطعام عندك كثير. إذا جعت كل, لكن لا توقظنى.
أومأ برأسه ثانية, وحمل القطة خشية أن تسبب لأمه إزعاجا.
جلس فوق الكنبة المقابلة لكنبة أمه. تابع وجهها وعينيها المغمضتين. وأشار إلى القطة بأن تجلس بجواره وتكف عن الحركة.
مر الوقت طويلا. دار الولد فى الشقة.عندما كان يمل – مثل الآن – كان يفتح الشرفة ويتابع المارة من خلال حديد الشرفة. لكنه الآن لا يستطيع ذلك.
لقد جاع فأكل وأعاد بقايا الطعام إلى مكانه, وأطعم القطة وأمرها بأن تصمت وأن تتحرك فى هدوء.
عاد إلى الكنبة المقابلة لكنبة أمه. والقطة نامت بجواره. من وقت لآخر تشد ياقة قفطانه بفمها. يأتى والده أحيانا إليهما. يترك نقودا لأمه. لاحظ الولد أن والده عندما يأتى تزداد أمه حزنا. وتحدث أباه فى اقتضاب. يحاول والده أن يداعبه. فتأتى مداعباته ثقيلة. ويقابلها الولد فى جفاء.
00
بحث الولد عن الطعام فلم يجد. كان الطعام كثيرا لكنه نفد, أكله هو والقطة.
ذهب إلى كنبة أمه. نظر إلى وجهها, وجده صامتا, حاول أن يوقظها, فتذكر تحذيرها له, فعاد إلى كنبته. بينما القطة تدور فى الشقة تبحث عن شئ تأكله.
ذهب ثانية إلى وجه أمه ثم عاد إلى كنبته دون أن يوقظها. والقطة عادت من رحلة البحث عن الطعام. ماءت بصوت خافت, ثم ازداد مواءها علوا. فغضب الولد منها. فأمه قد تستيقظ, شدها الولد فى عنف, وهددها بأن يطـردها من الشقة إذا عادت إلى مثل هذا الفعل. فسكتت القطة واستكانت, تمسحت فى ساقيه, فداعب شعرها الناعم بأصابعه.
وأحس بالجوع فقام, فتح باب الشقة, فأسرعت القطة خلفه. ترك باب الشقة مفتوحا, ودق باب الشقة المجاورة لشقتهم, خرجت امرأة يعرفها جيدا, فهى جارة أمه وصديقتها, يتحدثان معا, ومن خلال حديثيهما يعرف أشياء كثيرة لم يكن يعرفها. قال:
- أريد طعاماً.
- - أين أمك؟
- نائمة. وقالت" لا توقظنى "
ارتابت الجارة فى الأمر فقالت: تعال معى لأراها.
دخلا الشقة. تابعتها نساء الشقق الأخرى فى فضول. أشار الولد ناحية وجه أمه. انحنت الجارة. قبل أن تلمس جسد الأم صرخت. فقد كان واضحا أنها ميتة منذ أيام.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى