د. جورج سلوم - إنعاشُ نعش

جاءكَ الموت قبل أن تحزمَ حقائبك وتربط سيور حذائك .

قبل أن ترتّب سطح مكتبك ، وتصنّف أوراقكَ المبعثرة ، وقبل أن تنجز أولوياتك المبرمجة .

وقد نسيتم جميعاً أن تضعوا الموت في أولوياتكم ومخططاتكم ، لكنه يندخل بها رغماً عنكم ، فلا أولويات أمام الموت لأنه الأوّل والآخِر .

جاءك الموت على حين غرّة ، لصّاً داهمَك ، كان يتلصّص عليك كأفعى تنتظر بدهاء ، ولها فيك لدغة واحدة ولكنْ ، قاتلة !

رحلتُكَ بدأت الآن ، وما سبق من حياتك الدنيا كان استعداداً وتحضيراً للمواجهة الكبرى.

أنت الآن مسجّى بين الجموع ، بين الدموع ، نعش ٌ مرفوع .

ويلفّك ضباب السجائر ينفثه الصامتون والمطأطئون أرضاً ، والمنتظرون.

قائمةٌ سوداء ، وستلفّها الأكفان البيضاء ، وأنتم السابقون ، وأنتم ، أنتم اللاحقون ، فهل تتّعظون ؟

أنت الآن محمولٌ إلى المقبرة ، مكتّفٌ بأكفانك ، مسيرة ٌجنائزية صامتة . ملفوفٌ بكفنٍ لا لون له ، لم ترقَ لمنزلة الذين التفوا بأعلام الوطن ، أعطوكَ أكثر من دقيقة صمت ، يحترمونك ويحملونك على أكتافهم ، وهم يمشون. كم كنتَ تشتاق لأحدٍ يحملك على كتفه أثناء حياتك ، ويحمل معك همومك ؟

هذا هو قبرك ، فاغرٌ فاه ، ومعدٌّ سلفاً لك ، ولأمثالك .

هيا انزِلْ ، دركاً إثر درك

اضطجِعْ ، في رقدتكَ الأخيرة

ودّع النور ، فها هو التراب ينهالُ عليك ، ثقيلاً ، بارداً

رفشاتٌ و حفنات ، من كلّ الجهات

سبق أن نثرتَ على إحداهنّ الورد ، ورششتَ أحدهم بالرّز ، والآن يردّون جميلكَ فينثرون عليكَ ،التراب .

ضاقت فسحة الرؤيا ، وبدأ الظلام يحلّ عليك رويداً في وقت الظهيرة ، وبدأت أصواتهم تتخافت ، حتى امّحت كلياً ، فصلوك عن مجتمعهم بلا عودة ، ولا يفصلك عنهم أكثر من متر !..لكن إلى أسفل .

أصبحتَ الآن نزيل القبر

طيّب ، لا اعتراض على مشيئة القدر

لكن ، لماذا يقيّدون يداي على صدري ؟ لماذا يكتّفونني بأكفاني ، هل يخافون أن أهرب من موتي فأعود إليهم ؟

لماذا يدكّون فمي بالقطن ، لماذا يربطون فكي السفلي فلا يتدلى ، ألا يكفيهم صمتي في حياتي ؟ هل يخافون من صراخي في القبر ؟

لماذا يعرّونني قبل الموت ؟ وقد شبعتُ عُرياً

لماذا يغسلونني بالماء البارد ، وقد هدّ عظامي البرد في حياتي ؟؟

لماذا يدحشونني في القبر وحيداً ؟ أنا الذي عشت وحيداً ، وغريباً

احشروا معي أحداً ما ، قد نلعب النرد ، ونغني مواويل الليل ، في زمن الويل الآن عرفت لماذا تغنّى فولكلورنا بالليل ، والويل ، فيصيحون ، آه يا ليل ، وويلي لو يدرون ، أظنها استغاثات من مقابر الأحياء !

الموتُ انفصالٌ عن الواقع ، لكنه انفصالٌ حقيقيّ ودائم ، لأنه انفصال عن الحياة !

لماذا تضجّ وكالات الأنباء لاكتشاف مقبرة جماعية ؟

أليس الموت واحداً؟

على الأقل في المقابر الجماعية تتلاصق الجثامين ، ولو كانت جيَفا ً

لا يعرّونها ، لا وقت لديهم ، فالقتلُ الجماعيُّ يتمّ على عجل ، والمطلوب دحش الأجساد كيفما اتفق لإخفاء الجريمة ، أو التخلص من روائحها ، من صرخاتِ عارها

لا وقت لدكّ أفواههم وربط أياديهم وتكتيفهم بالأكفان البيض ، لا مجال لغسلهم فهم معمّدون بالدم ، والموت أتاهم جمعاً ، هي فلسفة الموت يقصف الأعمار ، زرافاتٍ ووحدانا .

قبري هذا أكثر رقيّا ً، قطاعٌ خاص وليس منازل شعبية كالمقابر الجماعية . حجرة أو حفرة خاصة ، معمولة على مقاسك ، وفوقها شاهدة ، لوحة إعلانية في شوارع المقبرة ، تدلّ عليك وتستوقف العابرين ، يقرؤون فاتحتهم

ويحجزون لهم مكاناً

إلحق نفسك ، واحجز لك قبراً تريح فيه جسدك ، أهمّ من أن تحجز موقفاً تركن فيه سيارتك .

في المقبرة الجماعية التي اكتشفوها ، وهللوا لها ، نفضوا عنها تراب الليل ، ودماء الويل

تركوا الجثامين تحت الشمس تلفحها قليلاً ، تطهّرها ، وتحت الهواء يخفف رائحتها ويروي حكاياتها

وتحت كاميرات التصوير ، سبقٌ صحفي ، وخبرٌ عمودي في أفقيات الجرائد ، وشريط أنباء يهرول في قاعدة الشاشة

وبعد أن شبعوا من الخبر ، وندّدوا ، وحللوا ، فصلوا الأحبة عن بعضها ، وارتقوا بها ، أو أنزلوها ، إلى حفرٍ خاصة

لماذا فصلتم الطفل المقتول عن حضن أمه ؟ سيبكي كثيراً في حفرته الخاصة ، سيبرد ، سيجوع

اتركوهما سوياً يلتحفان بعضهما دفئاً ، ويلعقان دماءهما الجافة

قد يرضع الطفل القتيل من أمه القتيلة حليباً مجففاً ، كالذي تبيعونه في السوق !



شيءٌ ما يتغلغل في خياشيمي ، دبِقٌ ، لزِجٌ ، يدغدغني

لماذا كتّفتموني بأكفاني ؟ لماذا قيّدتموني ؟ كنت مددتُ يدي لأحكحِك أنفي على الأقل

آه....آهٍ من هجوم الدود عليك يا جسدي في غياهب القبر ، بدأ يتآكل لحمي ، وتتعرّى عظامي

حتى أنتم يا دوداتي تبدؤون قضمي بدءاً بلساني كي لا أتكلم ، بعيوني ، كي لا أرى ، لديّ أعضاء أخرى لم أستعملها في حياتي إلا للبول ، عليكم بها أولاً.

أيقظتني تربيتته على كتفي ، فأفقتُ من غفلتي وشرودي في خيمة التعزية ، قال:

-لقد انتهى العزاء ياسيدي ..وشكر الله سعيك ..ماقصّرت معنا في حياة المرحوم ..وما قصّرت معنا بعد وفاته ..جزاك الله خيراً ولا أفجعك بعزيز .

مسحتُ العرق الذي يجللني ، حمدت الله واستعذت به و استغفرته

حررت أقدامي من الأكفان ، ويداي من القيد ، ورفعتهما إلى أعلى

نفضت الدود عن وجهي ، ولفظت القطن الذي يسدُّ فمي ، لا تعجب من ذلك ، فبيوض الدود موجودة الآن على وجهك وتنتظر الزمن المناسب لتفقس وتتحرك ، والقطن أنت تدحشه في فمك يومياً عندما يعلمونك أن السكوت من ذهب!!!!! ...

قلت وقد علا صوتي فجأة :

-اللهم آنسْه في وحدته ..وفي وحشته ..وفي غربته ..اللهم أنزله منزلاً مباركاً واجعل قبره روضة من رياض الجنة ...اللهم قهِ فتنة القبر وعذابه ..وانقله من مواطن الدود وضيق اللحود إلى جنات الخلود .. اللهم ارحمنا إذا حُملنا على الأعناق ..وبلغت التراق وقيل من راق ..وجاءت لحظة الفراق.. والتفت الساق بالساق ..اليك يا ربّنا يومئذ المساق .

خرجتُ من مجلس العزاء ، لم ألتفِتْ خلفي .

كان أهل الميت مذهولين من دعائي ، فلم يعرفوني شيخاً أو داعية ، ولم أقل في حياتي جملة مفيدة ، ذلك الدعاء سمعته كثيراً من قبل ولم أتفكّرْ به ولم يكن يعني ليَ شيئاً.

وما زلت حتى الآن أسير ، باحثاً عن مثواي الأخير

حاملاً نعشي ، إن عاش أنعشته ، وإن جاء الإيعاز له بالسقوط ، أسقطته وإن مال للستر ، سترته ، بكفنٍ مازال بلا لون ، وإن كنت أطمح أن يتلوّن يوماً بألوان علم الوطن .

*******************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى