عصري فياض - وَطَــــــــنْ

أرخى الليلُ ستاره الثقيل على مخيم الامعري الواقع جنوب رام الله،فَسَكنتْ البيوتُ المتراصة المُتعبة من شقاءِ الحياة وضنكِ العيش،ونامت الأجساد ُ المنهكة طلباً للراحة،لتصحوا بعد سويعات على يوم لجوءٍ جديد،وفصلٍ من العذابات التي بدأت رحلتها قبل سبعة عقود،ولم تنتهي بعد....
بيتٌ منزرعٌ في قلبِ المخيمْ،مكونٌ من غرفتين ومطبخ متواضع ومُلحَق وفسحة صغيرة،إحدى الغرفتين ينبعث منها أنين طفلة،وتمتمات أمٍ داعية،وخريرُ ماءٍ ساخن،يهرب من عَصّر قطعة قماش بيضاء،ما انفكت تُغَطَّسُ بآنية فيها الماء و تُنْتَشَلْ...تَعْصِرُ الام بيدها وقلبها القلق على وَجَعِ طفلتها الذي لا يتوقف،فَتَلْصِقُ قطعة القماش على جبينها،لعل حرارتها تنخفض،وتتمكن من ألنوم...الطفلة تسأل والدتها بصوت ضعيف :- أمي... أمي...
الام :- نعم يا حبيبتي؟؟
الطفلة : لماذا تأخر أبي الى هذا ألوقت؟؟ ... متى سيعود ؟؟ أنا محتاجة إليه...
نظرت ألام إلى الساعة المعلقة في صدر الغرفة شبه المعتمة،فأدركت أن عقاربها تشير لمنتصف ألليل،وأن تأخير زوجها في العمل هذه المرة يبعث على القلق....فردت قائلةً:- دقائق وسيعود ... لا تقلقي يا إبنتي...
وحتى تكسر الانتظار القاتل،تعود الام تكرر حالها ،فتحرك ُبيدها قطعة القماش من آلانية، الى العَصّرِ، إلى جبين الطفلة ،وشفتيها تتمتم بالدعاء والأذكار...
يُفْتَحُ الباب،ويدخلُ الاب العائداً من العمل،...شاب ثلاثيني متوسط القامة،مكتنز الجسم،أسمر البشرة،تحمل قسمات وجهه التعب المغموس بقسوة العيش،يعتمر الكوفية ويحمل على كتفه حقيبة العمل،... يشاهد زوجته وهي تضع قطعة القماش على جبين إبنته،فيدرك أن طفلته مريضة... يخلع حقيبته من كثفه، ويسرع نحوها قائلا :-
وطــــن .. ما بها ؟؟ هل أصابها مكروه ؟؟
ترد ألأم:- لقد أفاقت صباحا على ارتفاع في درجة الحرارة،ومنذ ذلك الوقت لم تتحسن
الأب :- ألم تأخذيها الى عيادة المخيم ؟؟
الام :- أجل،وقد صرفوا لها الدواء تناولت منه وجبتين، لكنها بقيت كما هيَّ...
الاب وهو يضع يده على جبينها ويحنوا عليها ويقبل خدها :- حبيبتي وطن...لا بأس عليك
ألأم:- قلي،ما الذي أخَرَكَ لهذا الوقت...؟؟
الأب:- لقد عملت ساعات إضافية... ولم ننهي إلا قبل ساعة...
الأم :- حسنٌ، هل أعد لك طعام العشاء ؟؟
الأب:- لا... لا أُريد......... لقد هزني ما أصاب وطن ... سأذهب بها غداً الى ألقدس... أعرف طبيباً ماهراً هناك مختص بالأطفال... لا بد أن نطمئن عليها...
الأم :- القدس !! ولكن كيف ستدخل القدس وأنت لا تملك تصريحاُ ؟؟
الأب: سأدبر أمري... لا تقلقي..
*
ليس بعيداً عن حاجز قلنديا،أحد عُقَدْ الخنق التي أقامها الاحتلال حول المدينة المقدسة،وقف الاب مع إبنته صباحا ينتظر شيئا ما...دقائق جاءه شخصٌ فأقترب منه...وتبادلا أطراف الحديث، فإستل أبو وطن من جيبه مبلغا من المال،وأعطاه للرجل،ثم أومأ الرجل بيده لوالد وطن أن يتبعه،فتبعه على عجل محاولاً الموازنة بين خطوات الرجل المتعجلة وبين خطوات ابنته ألبطيئة فلم يستطع،فرفعها من على الارض ووضعها بين ذراعيه، وساروا بعض الوقت حتى وصلوا منطقة تبعد عن الحاجز مئات الامتار شرقاً... هناك أحضر ذلك الرجل سُلّمَاً طويلا، ونظر يسارا ويمينا،ثم نصب السُلّمَ على الجدار الفاصل وثبته، وأمر أبو وطن بالصعود بعد أن تحدث بجهاز إرسال لشخص آخر يبدو انه داخل الجدار من الجهة المقابلة..فاستجاب أبو طن، وبدأ يصعد السُلّم بحذر وهو يضع إبنته على عاتقيه...
صعودُ بقصد العبور إلى ألقدس،كان يصعد بحذر ومن تحته الرجل يحثه على الاسراع،وهو مرتبك يتأرجح بين نقل قدميه،يحاول التوازن بين وزنه،وحِمْلِهْ،وأوامر ألرجل،حتى بلغ الدرجة الاخيرة علواً، وقلبه يزداد نبضا من شدة خوفه على وطن...أطل على القدس فتنسم نسيماً متلهفاً.. وترأت له بعض ملامح المدينة المقدسة ... رفع قدمه المرتجفة على درجات السلم المقابل،بعد أن وضع طفلته على سيف ألجدار، نزل بقدمه الثانية على أعلى درجة من السلم الجديد ، وتناول طفلته ووضعها على عاتقيه مرة أخرى في لحظة تحبس الانفاس،ثم بدأ ينزل بحذر ومن تحته رجل آخر يمسك له السلم بقوة ويحذره من التسرع والارتباك،فنزل خطوة خطوة،حتى وطأت رجليه الارض.... وقبل أن يعانق طفلته فرحا ً بالنجاة من هذا العبور المخيف، صارح أحدهم :- الشرطة ...الشرطة ...
ففر الجميع من المكان،ومنهم أبو وطن الذي ذاب بإبنته في الاحياء العربية القريبة.
*
خلع الطبيب سماعته الطبية عن أذنيه،واستدار نحو مكتبه ليكتب الوصفة الطبية،في حين أسرع الاب في إنزال ابنته من على السرير بعد انتهاء الفحص، الاب عاجل الطبيب بالسؤال المعتاد : "طمني" يا دكتور...؟؟
الدكتور وهو يدقق فيما يكتب يرد قائلا :- لا تقلق... شيء بسيط يصيب الاطفال دائما،لا يوجد ما يدعوا للقلق...
سلمه الوصفة وتابع.. :- هذه وصفة طبيبة لثلاثة أيام،وستعود إن شاء الله كالغزال
إنفردت أسارير الأب،وأطلق لسانه بالشكر والثناء للطبيب،ودفع "الكشفية" وإنطلق.
*
حدق أبو وطن في باب العامود طويلا،وكأنه يقرأ فيه تاريخ المدينة العربي الإسلامي،كان خياله يعبر الازمان وهو يرى المواطنين الذين يَلِجُونَ اليه ويخرجون،وكأنهم من ذلك الزمان الذي كانت فيه القدس ملكٌ كامل ٌ لأهلها... لكن ظهور الغرباء من أصحاب القبعات السوداء،والذقون الطويلة غير ألمهذبة، والخيوط المتدلية من على يسار ويمين الوسط ،أو أصحاب القلنسوات المُحْكَمًةَ بـ"الكباسات"، أو التحدث باللغة العبرية، تلوث الصورة... إنها محتلة، حزينة،بائسة ، منتظرة... يال حالها...
أفاق من شرود ذهنه على سماع إبنته تناديه... بابا...بابا..
أجاب سريعا :- نعم يا حبيبتي
قالت:- أين يقع المسجد الاقصى ...؟؟
رد قائلا :- خلف هذا الباب الكبير ..هناك في عمق البلدة القديمة...عبر طُرِقْ الالام
قالت :- دعنا نذهب هناك
قال مترددا :- ولكن يا ابنتي،الجنود منتشرون بكثافة ... وأخشى ..
تقاطعة ببراءة وهي لم تفهم ما قصد،وتقول:-لا شأن لي...أريد أن أرى الاقصى
إنصاع الوالد مكرها لرغبة طفلته...فأمسك بيدها،وتحرك نحو المسجد عبر البوابة الماثلة أمام عينيه.. يقطع الطريق العابر من الشمال الى الجنوب،ثم ينزل المدرج،وعيناه تحاولان استيعاب صور كل من يزين باب العمود من باعة ٍومارّة..مفارش الكعك،والمَلّبَنْ،وبسطات ألأبْ من نعناعٍ وبقدونسٍ وفجلٍ وخسٍ وقزبرةٍ وجرير، ومنظر بائع العرق سوس بزيه التراثي اللافت... يتقدم،ويعبر الباب،ويدخل للطريق العتيق المؤدي للحرم،والذي تفوح منه رائحة عبق التاريخ،سواء كان ذلك في بلاطه،أو جنباته،أوحوانيته القديمة....فجأة،تراكض بعض الشبان هرباً من الاسفل إلى الأعلى... شاهد مجموعة من ما تسمى بشرطة "حرس الحدود" يركضون خَلْفَهُمْ.. شعر بالخوف،فإنبرى نحو تجمع من بعض الناس التفوا حول صوت دَلّالٍ ينادي على بضاعة ما،إنبرى بقصد الابتعاد عن سؤال اولئك الهمج... فصرخ أحدهم بصوت غليظ :- تعالى الى هنا..
ظن أبو وطن الذي ما زال ممسكا بيد طفلته أنه هو المقصود بالنداء،فَوَلَجَ داخل التجمع ليختفي فيه،وبين صعوبة اللحاق بوالدها،وشدّ يدها مع يد أبيها،إنفلتت يدها من يده...لحظات من التدقيق في منظر المطاردة المخيف بالنسبة لوطن،شعرت بأنها فقدت والدها،ولم تعي الي أين ذهب، فسارت نزولا في الطريق العتيق... وتواصلت السير عميقا نحو الحواري القريبة باتجاه الحرم .. هائمةً باكيةً بصمت تتصفح الوجوه باحثةً عن وجه والدها.. أما هو فبعد دقائق من ألمشهد، إنفض الجمع،ورحل الجنود من المكان،فخرج يبحث عن طفلته،فلم يجدها،فراح يهرول نزولا هو أيضا وهو ينادي بعالي الصوت وَطَـْـــنْ ... وَطَـــنْ
يسأل المارة هل رأيتم وطــــن ؟؟.. وطن مهجة قلبي؟؟... لقد ضاعت مني وطن..
كان بعضهم ينكر،والبعض الاخر يضرب كفاَ بكفٍ ظنناً منهم أنه شاب ُ مصابُ بلوثةٍ من الجنون...
ظلت وطن تسير لساعات تائهةً حتى أرهقها المسير،فدخلت طريقاً هادئاً قليل المارة،فسقطت على مسامعها ألحان ربابة ينبعث من احد ألحوانيت،إقتربت،واقتربت أكثر فأكثر... شاهدت رجل سبعيني يلبس اللباس التراثي الشعبي يجلس في حانوته وهو يحتضن الربابة ويعزف عليها بانسجام عميق..وقفت وهي تتأمله وتتأمل حانوته الممتلئ باللات الموسيقية التراثية من ربابات وأعواد ومزامير وأراغيل، فعرّجت وتقدمت منه،وجلست عند قدميه بعد أن أسرها هذا الصوت الرائع الجميل.. لم يأبه العجوز العازف بها إلا من تحية بابتسامة هادئة شقت تجاعيد وجهه الوقور،فتركها تجلس وواصل عزفه..........
أما الاب المُلتاع،فما زال يدخل طريقا،ويخرج من آخر .. يمسح دموعه بطرف كوفيته وهو ينادي : وطن من رأى منكم وطن .. أريد وطن ... حتى دخل نفس الطريق،فسقطت على مسامعه هو أيضا الحان العزف على الربابة ذاتها،فشعر بشيء من ألارتياح وكأنها مياهٌ باردةٌ أثلجت صدره الملتهب، تقدم بقدميه المتعبتين حتى أصبح أمام الحانوت الذي يرسل الالحان..فوقع نظره على طفلته التي ما زالت تجلس أمام قدمي ذلك العازف،وهي تكاد ان تغط في النوم..فأسرع نحوها صارخا : وطـــــــــــــــــــــــــــــــــــــن
أفاقت وطن من سهوتها على صوت أبيها،فوقف وإنبعاث الفرح في عينيها:- أبــــــي
فعانقها بشدة ولهفة،وما زال العازف يكمل سمفونيته رغم ما يجري حوله.. إلتف الاب وهو يحمل ابنته بين ذراعية وخرج من الحانوت...
سألت وطن والدها : الى أين نحن ذاهبون يا أبتي ؟؟
فقال والابتسامة تلمع في عينية الدامعتين : الى الاقصى... ومن ثم سنعود .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى