هالة البدري - نخيل الخمر الصحراوي

فتنتها الصحراء شعراً وتصويراً، عشقتها بعين الشعراء العرب، وكاميرات المصورين، وأفلامهم عنها، لكنها أجلت زيارتها كثيراً خوفاً من أن تصدمها مواجهتها، فضلت أن تحبها في خيالها عن بُعد، على أن تكتشف سرها بنفسها، لكنها هذه المرة، لم تستطع أن تقاوم دعوة صديقها المصور إلى رحلة عبر الصحراء الغربية إلى الوادي الجديد إلى مدينة “موط” حيث البئر المعدني الشهير الذي يشفي الأوجاع المستحيلة، اتفقت مع المصور على أن يقيما معرضاً قائماً على التصوير والشعر معاً، على أن تختار بعض لقطاته لتكتب عنها، أي أن يزاوجا بين اللغة والصورة، فكثيراً ما رسم المصور أغلفة دواوينها، وآن الأوان لكي يعملا معاً على نص واحد.

وصلا إلى مدينة أسيوط في المساء بالقطار، تجولا قليلاً ثم استسلما إلى نوم مبكر، وجاءت السيارة قبل الفجر مع سائق خبر دروب الصحراء، تركوا المدينة وراءهم وانحرفوا باتجاه الغرب بعيداً عن النيل، كانوا يعلمون أن الفجر يستعذب نسج غمامة فوق الصحراء ليروض شراستها قبل أن تظهر الشمس بصهدها اللاسع، أراد المصور أن يحصل على صور كثيرة لمناطق خبرها جيداً، وعرف منها أن في متاهة العراء الرخوة، ترسم الرياح تدفق الرمال الأبدي الذي بلا بد اية أو نهاية، فتستعيد لها البكارة كل لحظة وتمسح عنها آثار الكائنات، وأنه يستطيع في كل زيارة لها أن يصور صحراء أخرى غير التي كانت.

قطعت السيارة الطريق وسط الصحراء الصلبة المغطاة بالحجارة والحصى، والصخور العالية التي تشبه جبلاً مفتتاً إلى جبال صغيرة، ظهرت حجارة ملساء، بنية اللون، بيضاوية الشكل، صلدة، تلمع، كأنها بيضات كائن خرافي ألقى بها إلى العراب، وتركها لرعاية الزمن، تبادلا النظرات، طلب المصور من الساق أن يتوقف ترجلا من السيارة، تركته يصور ما يشاء، وراحت تستوعب المشهد الكلي للأفق الممتد، والفضاء الصحراوي المتروك، دارت حول الصخور، تتحسس بيضات الزمن كما أسمتها، توغلت بينها حتى وصلت إلى صخرة كبيرة وحيدة فاجأها تشكيلها، وقفت تتأملها، ثم صاحت على المصور لكي يأتي ويشاهد ما تراه. كانت الصخرة تشبه فراشة تهم بالطيران، نحتت الطبيعة أحد أجنحتها على شكل “بروفيل” لوجه امرأة، ابتسم المصور وقال:

في جنوب “سيناء” قرب شرم الشيخ” نحتت الطبيعة فوق الجبل وجه “جون كيندي”.

لمست جبهة المرأة، ومررت أصابعها فوق أنفها، وشفتيها وقالت:

ستكون هذه اللقطة، موضوعي الأول سأسميها الصخرة والريح.

قال: لماذا لا نسميها الفراشة؟

قالت: لأن الريح هي البطل.

هيأت لنفسها مقعداً من الحجارة وجلست أمامها وكتبت:

قالت الصخرة، والألم يطيح بها من ضربات الريح: رويدك آذيتني. لا يمر يوم دون أن تمّزع بدني، وتصفر بقوة في قلبي، تطمر مني أجزاء، وتحفر حولي غيرها، حتى عريت جذوري، إلى متى هذه القسوة؟ ألا تعرفي الرحمة؟

أجابت الريح: آلاف السنين بيننا، ولم تتعلمي أن لكل مخلوق إبداعه، وأنك أنت تحفتي، كنت حجارة حرقتها شمس الأزل، فوهبتك أجنحة فراشة، وسط مروج التبر الرملية.

قاطعتها الصخرة: للفراشة كل ألوان الزهور الجميلة تختار لأجنحتها بتلات مفعمة بالعشق وتبدلها مع كل ميلاد.

أنت لا تصبرين، تركتك تمتصين من طقوس ميلاد الشمس ألوانها، وتتعلمين من طقوس احتضارها روح الانعتاق.
تعلمت أن ألتف حول نفسي لأتمتع بالهيبة والصلابة، سأشكوك لرب العباد، تشق جسمي لأنشطر إلى حواف يزحف عليها الجفاف واليباب، وتقولي اصبري!!
كنت أمسح كل يوم عن أطرافك مالا تحتاجينه، أشذبها لأصل إلى الجوهرة، يا صغيرتي لا ميلاد في الحياة بدون ألم، والصحراء تأبى إلا يكون التحدي هو لغتها الوحيدة، في هذا الصمت العميق تبدع عالمها. وها هو وجه امرأة ينبثق من طرف جناحك. يوشك أن ينزعك من الأرض الراسخة ويطير، ألا تدركين الهبة التي ميزتك عن الجميع.

مشت نحو السيارة قال المصور:

أريد أن أخذ بيضة.

قالت: لماذا تريدها؟

قال: هذه صخور بركانية نادرة، أريد أن أحتفظ بها في حديقتي.

قالت: مكانها هنا، وقيمتها أيضاً وسط عالمها.

لم يقتنع، اختار واحدة بدقة شديدة، زحزحاها معاً بصعوبة. جاء السائق ودحرجها معهما، حتى وصلوا إلى السيارة، ثم نقلوها بصعوبة أشد، وانطلقوا إلى الطريق.

بعد وقت خفت قساوة الأرض، وبدت أكثر رخاوة.

تناثرت أمامهم أشجار سدر، وطلح، ورتم. عاش اخضرارها بعض الوقت على ماء الصحراء النادر، الذي زخته السماء يوما على السهل، توقفوا مرة أخرى، راح المصور يلتقط الصراع بين الحياة والجفاف، ثم عادوا إلى الطريق يقطعونه ببطء دون أن يتوقفوا عن التسجيل بين وقت وآخر، كل بأدواته، سألهما السائق: هل ندخل الواحة الخارجة لتستريحاً قليلاً، قبل أن ننطلق إلى الداخلة؟

قال المصور نعم.

قالت: ما زال الوقت مبكراً على الراحة، لماذا لا نذهب إلى سجن الواحات أولاً؟ أريد أن أزوره كي أرى أعمال “حسن فؤاد” التي رسمها فوق حوائط الزنزانة.

قال المصور: لم يعد سجناً، تحول إلى حظيرة على ما أذكر.

أكد السائق على حديثه، وهو يستدير في اتجاه السجن، تدافعت في رأسها ذكريات كثيرة عن حكايات فتحي خليل أستاذها في الصحافة عن المزرعة التي شيدوها لكي يضيعوا الوقت في عمل ينتفعون من إنتاجه، ويأكلون خضاراً طازجاً، تذكرت فتاة رأتها من خلال عينيه، كانت تظهر للسجناء عن بعد. لم يعرفوا من هي هل هي زوجة المأمور، أم ابنته، أم الخادمة؟ حلموا بها جميعاً، ورسموا ملامحها من مخيلاتهم، فكانت رائعة مثلت لهم الحياة وسط العراء ا لفاجع المحيط بهم والظمأ الأبدي للحرية “كثيرا ما قررت أن أكتب قصة عن هذه الفتاة التي عرفتها من خلال الحكي، وتخيلتها عبر خيالهم، وأوهامهم، ما أكثر المشاريع المؤجلة.

دخلوا إلى المزرعة، تهدمت الأسوار التي سمعت كثيرا عن هيبتها احتلت الأرض زراعات بسيطة، بحثت عن البناء، فلم تجد أمامها غير غرف صغيرة هزيلة، اصطفت في انتظام رغم تداعي جدران بعضها، ووقوع معظم نوافذها التي كانت حديدية يوما، سألت عن رسوم حسن فؤاد، أشار لهم الموظف نحو إحدى الغرف، تقدموا نحوها، فتحت الباب، تقافزت الأرانب من حولها، رأت رسوم الفنان الكبير فوق الحوائط، وقد أكلتها السنون، وسوء الاستخدام ولطختها القذارة، بكت وهي تستعيد كلمات فتحي خليل عن سنوات اعتقال رجال الفكر، والفن والسياسة في الستينيات – سيبكي “محسن الخياط” بعد أيام حين تحكي له ما شاهدته وسيشاركها بعض التفاصيل الأخرى عن سنوات سجنه – سحبها المصور من يدها، اتبعته كأنها طفلة بلا إرادة، خرجوا من المكان بعد أن دونت كلمات قليلة قالت إنها ستعود إلى الكتابة عنها يوماً، وسيمضي وقت طويل قبل أن تعود بالفعل، ركبوا الطريق مرة أخرى، أشرفوا على وادٍ، تزاحم فيه الكلأ والأعشاب البرية، وبدت لهم أعشاب المنحدرات أكثر عنفوانا ونضارة، كان تزاحمها يشبه رسالة احتشاد، قبل أن تنقطع الخضرة تماماً عند أقدام بحر الرمال الأعظم، ظهرت الغرود اللولبية في موجات متدافعة نحو الأفق، لاحظوا أجزاء من الطرق الأسفلتية التي أغرقها فيضان الرمل، تساءل المصور .

من يستطيع أن يعاند الصحراء بكبريائها الحتمي؟

قالت: بالصبر. الصبر هو مفتاح هزيمة الغرود.

اندفعت أنهار السراب تفرش الأفق الممتد أمامهم. تحول لون الصحراء القاحل الأبدي إلى سحر الفضة المضيئة، بدت الأنهار. وكأنها ماء يرتفع عن الأرض ليقف بين الرمل، والسماء، توقفوا ليسجلوا أسطورة الماء المراوغة، قبل أن يستدير الطريق ليبتعد عن مزاحمة موجات بحر الرمال، ساد سكون وسط الكثبان التي تتدفق عليها الشمس بغزارة حتى اختفت تماماً، وبدت الأرض عارية إلا من الصمت، والعناد وترقب الكائنات التي هجعت في جحورها مستجيرة من الهجير.

ظهرت عن بُعد رؤوس النخل المتجاورة بدت في عليائها متجاوزة عما يحدث حولها ، فلما اقتربوا رأت الكاتبة جرارا مربوطة إلى أعناق النخل شعرت باختناق وانقبض قلبها دون أن تعرف لماذا؟ وخيّل إليها أنها تسمع أنيناً وحواراً مسكوناً بالخوف فأمسكت بالقلم وسجلته.

قالت الغرود: أسمع أنين النخلة، تحمله الريح ليستقر بعض الوقت فوق بدني، قبل أن يطير مع الرمل، وينتشر في اليباب، سمحت لها بالعيش معي لأنها تستحق الحياة بكبريائها المسحور، عرفت أسراري وأين أُخبئ الماء في ممراته المدفونة في الأعماق. أرسلت جذورها تبحث عنه دون كلل، فلما وجدته أعلنت حبها لي، ارتفعت نحو السماء تختال في مرونة ودلال متحدية العاصفة، دعت الكائنات إليها، أرشدتهم إلى سر الماء، فاطمأنوا وحفروا أباراً سالت حتى غيرت وجه الرمل، قبٍلَ الرمل دعوة النخلة إلى البقاء، ولم يعد يهاجر معي، غفرت لها، وأنا أرى بذرتها تنفجر في ثناياي عن عود أخضر حاد يبحث عن الضوء، ويشق الأرض لينعم بالحياة، تعالت النخلة لكنها ألقت تمراً يذيب قسوة الصحراء من فرط حلاوته، فما بالها اليوم تبكي ويدمي أنينها القلوب؟

ظهرت واحة باريس بكامل تفاصيلها بقعة ضوء خضراء فوق رقعة الأصفر، تشابكت بيوتها القليلة المبنية بالحجارة كمبنى واحد كبير قرب النبع، وفي الجهة المقابلة وقف بناء شامخ حديث لمدرسة بنيت من الطوب الوردي، بدى فضفاضا على تلاميذه الذين لا يتعدون العشرات، تقدم من السيارة بعض الرجال الذين كانوا ينتظرونهم، دعوهم إلى شرفة ظليلة بجوار المكتبة، وقدموا لهم تمرا صغير الحجم ذهبي اللون، قالوا إنه فخر إنتاجهم.

سألت عن الجرة الموضوعة في رقاب بعض النخلات فنكس المعلم رأسه، ثم قام يدعوهم لمشاهدة المكتبة حتى بعد الغداء، انشغلت بسؤالها وجوابه الذي لم يصلها، رغم فرحها باتساع المكتبة ونوع ما تضمه من كتب، ورغم أنها لم تسمع منذ فترة طويلة أحد أمناء المكتبات يتحدث عن عدم قدرته على الوفاء باحتياجات القراء الذين أنهوا الاطلاع على ذخائرها عدة مرات.

انتهت الزيارة بسرعة، وعادوا إلى الصحراء يلتقطون الصور، رفضوا عرضا بالمبيت في واحة أخرى، وقرروا أن ينصبوا الخيام حيث يأخذهم الطريق بعد غروب الشمس، لم يفتها أن تلاحظ جراراً أخرى قد علقت في أعناق النخل لكنها هذه المرة لم تسأل أحداً، كانت قد سمعت عن خمر النخيل في تونس حاولت أن تسترجع المعلومات التي قيلت لها، لكنها لم تستطع أن تستحضرها ولم تعرف إن كانت هذه الجرار لها علاقة بذلك أم لا، ولم تستطع أيضا أن تمنع قلبها من الانقباض كلما رأت المشهد، أجلت الحديث إلى سؤال مباشر لمن يجيبها مباشرة في واحة “موط”.

سألت السائق: هل نبلغ في رحلتنا هذه الصحراء البيضاء؟

قال السائق: لا، هي في اتجاه آخر، نحتاج إلى وقت أطول في رحلة قادمة إن شاء الله.

في متاهة العراء الرملي حين رحلت الشمس، واكتفوا من التصوير أصبح للظلام سطوة، وللصمت رهبة، وقسوة، ولاحظوا وهم يبحثون عن مكان للخيام ضوءً يظهر ويغيب عن بعُد، فلما اقتربوا اكتشفوا إنه لفانوس صغير معلق في خيمة، قلبّوا أنوار السيارة عدة مرات، ثم توقفوا، خرجت سائحتان في العشرينيات من عمريهما. سألوهما إن كانتا في حاجة إلى شيء، واستأذنوا في نصب خيامهم بالقرب منهما فوق موجة من موجات الغرود في بحر الرمال الأعظم، وافقتا، شيدوا وسادات من الرمل ثم استلقوا فوق الأديم البارد.

في الصباح المبكر شربوا شاي جماعياً، وهم يتحدثون عن سحر الصحراء الغربية، وشغفهم بها، ثم عادوا إلى السيارة في طريقهم إلى “موط”، قابلوا قطعانا من الإبل، والغنم تسعى إلى الكلأ في صمت، وخايلهم الرعاة عن بعد، ضرب السراب الصحراء، وأسرعت أنهاره بالهرب كلما توغلوا في الطريق، وامتد الخلاء يعاند النهاية، وبدا وكأنهم قد وقعوا في شراك متاهة أبدية تطوقهم من كل الاتجاهات ولولا إشارات هزيلة تحملها يافطات من الصفيح ترشدهم إلى الطريق لتصوروا أنهم ذهبوا ضحية العراء الفاضح.

أمسكت أوراقها وراحت تكتب والمصور يلتقط اللحظة في حين عزفت الريح سيمفونية بدأت بحركة بطيئة، ثم تصاعدت حين وصلت إلى الذروة احتموا بالسيارة.

قال السائق: لا تخشوا شيئا سنتوقف قليلاً ثم نعاود الرحيل، بعد أن ينقشع العجاج.

كتبت تقول: تمادى الجفاف، عشقت الأرض أن ترسم للماء صورة، وهبها الظل لون البحر، فأبدعت السراب، متمنية أن تنعش عروقها بالمياه السرية التي لا يدرك كنهها غيرها، جاءت الرياح بغتة، كما اعتادت أن تجئ، ارتعش الرمل فوق رقاب الهضاب، وفر السهل الممتد، المسترخي تحت سطوة الأفق الصحراوي، الممتد من ألسنة الشمس، وهي تهرب إلى الأفق الرحب. حدثت الرمال نفسها:

أين تختفي في هذا الخلاء الفسيح؟ لا شجرة ولا سدرة، أو حتى حجر؟ هل تقاوم الرياح؟ ولماذا تقاوم؟ لماذا لا تتمطى أجنحتها! وتتصالح مع القدر الذي كتب لها هجرة أبدية؟

أهذا تخل عن الكبرياء؟

لا. بل هو إدراك للناموس. قد يأتي يوم ترمي بها الرياح إلى صخرة وماء إلى التحام ما.

وأتخلى عن الخلوة والخلاء، عن السكينة؟ بل اتركي نفسك لها. ارقصي. لا أعرف في الحياة كائنا واحدا لا يلعب، لا يبدع رقصته الخاصة.

رق الرمل ولان، وسقط في الوجد، راح يهفو إلى الرحيل في شكل موجة ليخلق عالماً آخراً، تسكنه كائنات جديدة، عانقت الرياح، وتحركت بها في إيقاع بطيء تاركة خطوطًا ناعمة، وقبلات هشة فوق السطح الأملس، ثم علت الحركة كأنها سيمفونية طبيعية، حتى احتدم الرقص، حفرت الرياح علاماتها العميقة، تعرجات عبقرية في روح الصحراء، مقتلعة في طريقها كل من نسى أن يجذر وجوده بقوة، فلغة الصحراء، ومشيئتها لا تعرف الضعف، ولا تقبل اللعب، إلا مع ند قوي خشن لتهبه قلبها.

وصلت الحركة إلى الذروة، وانقلبت الموجة في بحر الرمال الأعظم، ثم راحت تنحسر رويداً رويداً، حتى سكنت بهدوء تاركة في كل خطوة بصمة، دون أن تلتفت لتعرف ما وهبته من سعادة ومن ألم، وبعد أن زرعت وراءها الأمل في عودة قادمة، تصحب فيها من نذرته للانتظار، والالتحام القادم في الجسم الأم، فالكينونة في هذا الخلاء داخل الكتلة، والموجة الساكنة الآن المتحفزة لحركة قادمة تنداح فيها لتبدل من شكلها العظيم، كأنها جناح طائر خرافي من طيور الحواديت.

انقشع العجاج فجأة كما جاء فجأة، كان قد استنزف قوة الضوء دخل ظلام أصفر اللون، لا تبرق فيه نجمة، وتحتل سماؤه ألوان قوس قزح، انقشع بعد أن دحرجت الريح كل ما استطاعت أمامها، وهيلت بعض الكثبان، لملمت العاصفة أحبال رمالها، وعقود حصاها، وكتمت صريرها في بطن الوادي، فرحوا برحيل الصوت الحاد، الذي مزق سكون الخلاء الرحب، فرض الصفاء وجوده على المشهد الجنوني، وكأن شيئا لم يحدث، عادوا إلى الطريق.

قال السائق: الحمد لله، هي مجرد عاصفة بسيطة، فالعواصف عندنا تستمر أياماً.

قال المصور: هل تكون هذه الريح بداية لعاصفة قادمة؟

قال السائق: لا. تحافظ الصحراء على عهودها معنا للعواصف مواعيد في شهور محددة، والاستثناء نادر، ومدمر أيضاً.

قالت: ليست خائنة إذاً، كما يشاع عنها.

قال: بل لها منطقها ومن اتبع قوانينها عاش فيها، وأطلعته على سرها، وعلى شروطها أيضاً، لهذا لا يستطيع الصحراوي أن يعيش في المدن، أو يقبل بالاستقرار، وما زال معظم البدو، يرحلون وراء قطعان الغنم والماعز، أما الذين يسكنون في واحة الداخلة، أو الخارجة فهم على الأغلب من الموظفين والإداريين وفي المستقبل ربما يجذب المكان المشاريع السياحية العلاجية والله أعلم.

لاحت أرض حمراء تحول الماء فيها عند العيون إلى سيل من الدم، وصلوا إلى مشارف واحة الداخلة، توقفت السيارة، تفقدوا المكان، اختار المصور رأس نخلة بدت وكأنها قد وضعت فوق تبه، واتجه إليها، وراحت هي نحو الماء، أمسكت بقبضة من رمل أحمر وتحسستها في باطن يدها.

قال السائق: هي أرض غنية بالحديد والمعادن، لهذا فإن الآبار تشفي العديد من أمراض العظام والجلد، ويأتيها الناس من كل مكان.

عادوا إلى السيارة، وانطلقوا إلى استراحة الملك التي أعدت لاستقبالهم، هناك سلمها الموظف مفتاح غرفة الملك ومضى معها ليوصلها، وهو يحكي لها عن تاريخ البناء، وحب الملك فاروق للصيد ومغامراته مثل أبيه الملك فؤاد، تأملت البناء الصحراوي المتواضع، قبل أن تغلق عليها باب الحجرة، وتساءلت “هل يتغير شعور الإنسان إذا ما نام على سرير ملك؟”.

أعجبتها بساطة الأثاث، وذوقه، كان يتخلص من الفخامة، والبهرجة التي تحيط به في قصر عابدين إذاً، لا بأس، على الأقل كان يستطيع أن يختار متى يبذر، ومتى يتقشف، حصلت على دش سريع وتمددت فوق السرير الملكي لمدة خمس دقائق، مغلقة عينيها على شعور جميل بالراحة بعد التعب، ثم عادت إلى رفاق الرحلة، وطلبت أن يسرعوا بزيارة البئر، وأن يحصلوا على طعامهم هناك بعد أن ينزلوا إلى الماء.

قال المشرف على الاستراحة: نستطيع تدبير الطعام هناك لكن الفائدة من نزول البئر تكون في الصباح الباكر، وبعد أن تحصلوا على وجبة إفطار غنية من البيض: لأن الماء ثقيل جداً وسنوفر لكم البطاطين اللازمة.

لماذا البطاطين؟
لأن الماء ساخن جدا ولفجر الصحراء برودة خاصة.

على الطريق رأت عن بُعد ينبوعاً تحيطه غابة من النخل. دققت النظر إلى أعناقها، رأت جرة متوارية، وحين تحلقوا حول البئر يشربون الشاي بعد الطعام سألت أحد المضيفين عن سر الجرار المعلقة وما إذا كان لها علاقة بالخمر قال:

نعم: يصوبون سكيناً إلى قلب النخلة، ويرشقون أنبوباً يمتص رحيقها قطرة، قطرة، نعم هو “النبقي” خمر النخل.

قالت: هل تعيش النخلة بعدها؟

قال: لا.

تدافعت أصوات الجماعة تعلن عن غضبها قال واحد:

هو فعل ضد القانون، لكنهم يتذرعون بأن النخل من أملاكهم ويفعلون ذلك سراً بالطبع.

قال آخر: يتم هذا في الأماكن البعيدة عن العيون.

ساد صمت، ونزل الليل سريعاً، ذهبوا إلى الاستراحة يطلبون نوماً مبكراً من أجل استيقاظ مبكر كي يعودوا إلى البئر، لم تستطع أن تنام قبل أن تكتب عن أوجاع النخلة أمسكت بالقلم.

أقلق نزيفها الليل، دون أن يرق لها قلب، سألت رب العباد أن يأتيها بمن يرحمها، ليغلق الشق بعجينة من الرمل، ويلف جرحها بالخيش حتى يندمل، تردد بكاؤها في الدروب السرية للصحراء وتعلق سؤالها بالأفق.

لماذا؟

أغلقت القلم ونامت.


هالة البدري


* من مجموعة قصر النملة




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى