لا تسألني عن أحوالي ولا تبادرني:
"مساؤك سكر".
كما هي العادة، فقط تقول لي بصوتٍ خافتٍ جدًا:
"إنت فين؟".
أخبرها أني في البلكونة أشاهد رجلاً عجوزًا يقطع مسافة عشر أمتارِ ذهابًا وإيابًا في وهنٍ يكاد أن يكون له صوتٌ، وعلى مقربةٍ منه، تنتظره، أو تشجعه في تريضه اليومي هذا، امرأةٌ في الثلاثين تقريبًا، ربما تكون ابنته، ربما ممرِّضته، ستسانده بعد ربع ساعةٍ ليختفيا في مدخل العمارة المقابلة. تتنهد بصوتٍ عالٍ وأسمع صوت تقلِّبها في فراشها، فأود لو أضيف أنه عجوز البلكونة المقابلة ذاته، الذي يشرب معي قهوة الصباح منذ بدأ الحجر الصحي، غير أنها تحكي لي، بصوتٍ نعسانٍ، أن النوافذ والبلكونات عندها، بعد أول أسبوعٍ من الحظر، صارت حزينةً جدًا ومقبضةً:
"كأنَّ سكانها ماتوا أو هاجروا".
لا تُفتح الآن تقريبًا، وحتى الثياب المغسولة اختفتْ منها، ليتوحش الصمت، رغم زقزقة العصافير في الصباح وأول المساء لمدةٍ كبيرةٍ، إلا أنه، الصمت، دمج الليل بالنهار، فلم يترك لأيِّ منهما ما يميِّزه، لذلك أهرب من الوقوف في بلكونتي بعد ثالث دقيقةٍ، وأدخل، فلا أجد ما أفعله سوى النوم:
"نومٌ مرهقٌ جدًا يا ياسر".
"آسف".
أردِّدها متألمًا وقد حضرني حديثها عن هذه البلكونات ومهرجان البهجة المتنوعة فيها، كما كانت تسميه، حينما كانت تتابعه طوال النهار وجزءٌ من الليل، حيث كان لكلِّ وقتٍ طقسٌ، يبدأ بالنساء ونشر غسيلهن في الفجر تقريبًا، النساء بثيابهن الخفيفة وزقزقة العصافير وأول ضوءٍ للنهار، ثم يأتي الصباح ليشربن القهوة أو الشاي مع أزواجهن، وأحيانًا ما كان يصاحبهم جدٌ أو جدةٌ، لم تكن تُغلق البلكونات في الظهر رغم خُلوِّها، تبقى مُشرعةً لتبث في الجو أصوات الحياة، وتمتلئ من العصر حتى المساء بالأطفال وألعابهم، إنه وقت المتعة والصخب اللذيذ، ويأتي الليل، فتجتمع الأسر، يأكلون ويغنون، أو يتسامرون كأنهم يغنون.
"كان شكلهم يفرح القلب رغم الخوف".
أقول لها:
"فترة وهتعدِّي".
لا ترد، وأسمع صوت تنفِّسها المنحول.
"ألو".
"معكَ".
أسألها:
"عايزة تنامي؟".
"لا".
تقولها وأسمع صوت تقلِّبها في الفراش:
"عايزة أفوق، عايزة الكابوس دا ينتهي".
أراها بعين خيالي وهي تعتدل، مستندةً برأسها مهوِّش الشعر إلى ظهر السرير، بينما يكون ثوبها، الذي لا أستطيع تخيل لونه، قد انحسر عن ساقها اليمنى، وتسألني:
"عامل إيه؟".
يتهدَّج صوتي وأنا أقول:
"مشتاقٌ لكِ".
تسعل خفيفًا، فأكرِّر:
"مشتاق لكِ جدًا".
"إيه؟".
تقولها ضاحكةً، أو تحاول.
"بحبك".
"إيه؟".
تبهجني محاولة الدلع والبهجة في صوتها، ويُعيدني لأيامنا قبل الحظر، قبل الوباء والحزن الذي يسجننا خلف الجدران.
"رحت فين؟".
"معكِ".
تقول:
"ما تتصل فيديو، عايزة أشوف وشك يا ولد أنت".
"ماشي".
أقولها وأدخل من البلكونة متشوِّقًا كي أفتح الكاميرا.
"مساؤك سكر".
كما هي العادة، فقط تقول لي بصوتٍ خافتٍ جدًا:
"إنت فين؟".
أخبرها أني في البلكونة أشاهد رجلاً عجوزًا يقطع مسافة عشر أمتارِ ذهابًا وإيابًا في وهنٍ يكاد أن يكون له صوتٌ، وعلى مقربةٍ منه، تنتظره، أو تشجعه في تريضه اليومي هذا، امرأةٌ في الثلاثين تقريبًا، ربما تكون ابنته، ربما ممرِّضته، ستسانده بعد ربع ساعةٍ ليختفيا في مدخل العمارة المقابلة. تتنهد بصوتٍ عالٍ وأسمع صوت تقلِّبها في فراشها، فأود لو أضيف أنه عجوز البلكونة المقابلة ذاته، الذي يشرب معي قهوة الصباح منذ بدأ الحجر الصحي، غير أنها تحكي لي، بصوتٍ نعسانٍ، أن النوافذ والبلكونات عندها، بعد أول أسبوعٍ من الحظر، صارت حزينةً جدًا ومقبضةً:
"كأنَّ سكانها ماتوا أو هاجروا".
لا تُفتح الآن تقريبًا، وحتى الثياب المغسولة اختفتْ منها، ليتوحش الصمت، رغم زقزقة العصافير في الصباح وأول المساء لمدةٍ كبيرةٍ، إلا أنه، الصمت، دمج الليل بالنهار، فلم يترك لأيِّ منهما ما يميِّزه، لذلك أهرب من الوقوف في بلكونتي بعد ثالث دقيقةٍ، وأدخل، فلا أجد ما أفعله سوى النوم:
"نومٌ مرهقٌ جدًا يا ياسر".
"آسف".
أردِّدها متألمًا وقد حضرني حديثها عن هذه البلكونات ومهرجان البهجة المتنوعة فيها، كما كانت تسميه، حينما كانت تتابعه طوال النهار وجزءٌ من الليل، حيث كان لكلِّ وقتٍ طقسٌ، يبدأ بالنساء ونشر غسيلهن في الفجر تقريبًا، النساء بثيابهن الخفيفة وزقزقة العصافير وأول ضوءٍ للنهار، ثم يأتي الصباح ليشربن القهوة أو الشاي مع أزواجهن، وأحيانًا ما كان يصاحبهم جدٌ أو جدةٌ، لم تكن تُغلق البلكونات في الظهر رغم خُلوِّها، تبقى مُشرعةً لتبث في الجو أصوات الحياة، وتمتلئ من العصر حتى المساء بالأطفال وألعابهم، إنه وقت المتعة والصخب اللذيذ، ويأتي الليل، فتجتمع الأسر، يأكلون ويغنون، أو يتسامرون كأنهم يغنون.
"كان شكلهم يفرح القلب رغم الخوف".
أقول لها:
"فترة وهتعدِّي".
لا ترد، وأسمع صوت تنفِّسها المنحول.
"ألو".
"معكَ".
أسألها:
"عايزة تنامي؟".
"لا".
تقولها وأسمع صوت تقلِّبها في الفراش:
"عايزة أفوق، عايزة الكابوس دا ينتهي".
أراها بعين خيالي وهي تعتدل، مستندةً برأسها مهوِّش الشعر إلى ظهر السرير، بينما يكون ثوبها، الذي لا أستطيع تخيل لونه، قد انحسر عن ساقها اليمنى، وتسألني:
"عامل إيه؟".
يتهدَّج صوتي وأنا أقول:
"مشتاقٌ لكِ".
تسعل خفيفًا، فأكرِّر:
"مشتاق لكِ جدًا".
"إيه؟".
تقولها ضاحكةً، أو تحاول.
"بحبك".
"إيه؟".
تبهجني محاولة الدلع والبهجة في صوتها، ويُعيدني لأيامنا قبل الحظر، قبل الوباء والحزن الذي يسجننا خلف الجدران.
"رحت فين؟".
"معكِ".
تقول:
"ما تتصل فيديو، عايزة أشوف وشك يا ولد أنت".
"ماشي".
أقولها وأدخل من البلكونة متشوِّقًا كي أفتح الكاميرا.