أحمد رجب شلتوت - سرمدية

كانت تسير شاردة وكنت أتبعها، وكان الخريف يعري الأشجار ليفرش طريقنا بالأوراق التي انتزعها. وكان شعاع الشمس يترقب منتظرًا حدوث فرجة بين سحابتين ليتسلل منها إلى الحديقة.
أبقيت على مسافة بيننا كي لا تشعر بوجودي، لم أكن محتاجًا لتلك المسافة، بدت في مشيها وكأنها لا ترى، أو لعلها تسير وهي نائمة، توقفت حائرًا فاتسعت المسافة ما بيننا لذا لم أتمكن من الحيلولة بينها وبين الاصطدام المفاجئ بشجرة، دفعتها الشجرة بعنف فأسقطتها على الأرض، رأيتها تتناثر، تحاول لملمة نفسها، تلم بعض الأجزاء، وينأى البعض، لا تقدر على استعادته، تصبح ثلاثة.
تنظر بأسى إلى جزئيها الآخرين، تنهض من بينهما، مددت لها يدي، اتكأت عليها حتى وقفت، نفضت عنها التراب وأوراق صفراء علقت بثوبها، عندئذ انتبهت للفراشات البيضاء الصغيرة التي تملأ فضاء ثوبها البنفسجي، ربما تثقله على الجسد النحيل الرهيف، هششتها عن الثوب فبدأت في الطيران، انطفأ البنفسجي، أصبح داكنًا، تابعت الفراشات وهي ترف بأجنحتها، تطير تباعا في جماعات، تتجمع فوق الأشجار، يتجه سرب الفراشات نحو الفرجة بين السحابتين، يدفع كل سحابة في اتجاه، حتى تصبح الفرجة كوة تدخل منها الشمس.
أرى جزئيها ينهضان وكأنهما ينبتان من الأرض، طفلة وشابة كلتاهما ترتدي ثوبًا بنفسجيًا داكنًا، وأراها ترمقهما بدهشة ممزوجة بالفرح.
تغمرني الشمس لكن لا أرى لي ظلًا، رحت أبحث عن ظلي بين الأشجار ولم أجده، سألت نفسي بحزن هل أنا كائن من زجاج يعبره شعاع الشمس دون عائق فلا يخلف ظلًا؟ أم تراني غير موجود أصلًا فلم أمنع سريان الشعاع؟
صامتة تتجه إلي جزئيها، لا تراها الشابة الجميلة، تعبرها لتعانق شعاع الشمس وترقص، تدور حول نفسها بخفة فلا تثير غبارًا.
تحاول الطفلة أن تلحق بها، تناديها:
ــ نولا
لا تسمع لها، تغضب الطفلة وتزوم، تصدر أصواتًا كأنها زقزقات منغمة، عندئذ تنتبه الشابة، فتأتي مهرولة من بين الأشجار، تهتف:
ــ نولا
يتردد صدى الصوت، تبتسم السيدة:
ــ أينا؟
يتردد الصدى بكثافة تصيبني بدوار، أسمع السيدة تقول:
ــ كلنا نولا
تحتضن الطفلة وتغنى، صوتها مفعم بالأسى، وهي تدور حول نفسها، فتهب الريح تباعد ما بين الأغصان وتزيد من وتيرة سقوط الأوراق.
تميل الطفلة نحو الشابة، تمد يديها، تسلمها السيدة للشابة، تتهيأ لاحتضانهما معا، لكن الشابة تبتعد.
راقبت الشعاع، رأيته يستريح على وجوههن التي استضاءت وزاد جمالها، رأيت أحداقهن تضيق، وأوسطهن ما زالت تدور بالصغرى وتغني، تدور في دائرة هي مركزها، وقدمي الطفلة ترسمان محيطها، تظل تغني وتدور وتبتعد حتى غابتا خلف الأشجار التي فرشت أرض الحديقة بأوراقها، غابتا عن عيني السيدة فنادت بجزع:
ــ نولااااا
هرعت السيدة إلى حيث اختفتا، تعثرت فزامت الريح، فلحقت بها، أمسكتها قبل أن تقع، لكنها تصر على استعادتهما، تنفلت من بين يدي، تغوص في بحر من أوراق الأشجار، أحاول أن أرفعها، وهي تغوص، يشتد هبوب الريح التي كانت تكنس الأوراق المتساقطة عن أرض الحديقة، تجرفها باتجاهنا، أغوص معها، يتشبث كل منا بالآخر، بينما سيل الأوراق يغطينا.
https://sonata.news/%d8%b3%d8%b1%d9%85%d8%af%d9%8a%d8%a9.../
قد يكون فن ‏‏شجرة‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى