د. محمد عبدالله القواسمة - "سماء أودبتي رؤاي": إطلالة من الخارج

" سماء أوديتي رؤاي" يظن لأول وهلة من يقرأ هذه الجملة منفردة أنها لأحد المتصوفين، أو لأحد الشعراء المحدثين في شطحاتهم الميتافيزيقية كأدونيس، أو محمود درويش، أو خليل حاوي، وأنها من المستبعد أن تستخدم في إغواء القارئ بأن تكون عنوانًا لعمل أدبي، لما فيها من غموض، ودقة في التركيب، وقوة الفكرة، وخصبها التخييلي، ودلالتها على أهمية الرؤية العرفانية للذات في توجهها لفهم الوجود والحكم عليه. لكن هذه الجملة في الحقيقة جاءت عنوانًا للمجموعة الشعرية التي نهض بها الشاعر زهير توفيق، وقد صدرت هذا العام في عمان عن دار أزمنة.

والشاعر زهير توفيق كاتب وأكاديمي منشغل بالفكر والفلسفة وله مؤلفات عدة في هذا الحقل، منها: "أديب إسحق مثقف نهضوي مختلف" 2003، و"خطاب العلم والتقدم"2006، و"المثقف والثقافة" 2013، و"إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر"2015، و"النقد الفلسفي" 2016، و"النهضة المهدورة، مراجعات نقدية في المشروع النهضوي العربي وبناه المعرفية"2018، و"الفلسفة للمبتدئين" 2021 . أما في الشعر فليس له غير ديوانين: الأول "أضواء ليلى في بحار السندباد"2003، والثاني "سماء أوديتي رؤاي" 2021م الذي نتوقف عنده الآن.

وإذا كان العنوان الخارجي، بوصفه العتبة الأولى، يلفت انتباهنا عندما يتخطى وظيفة من وظائفه الرئيسية في جذب المتلقي فتوجد عناوين أخرى تستدعي الانتباه والاهتمام؛ منها العناوين الرئيسية للقصائد الأربع التي يتكون منها الديوان، وهي: معراج جلجامش، وفي شارع السبعين، ودمشق باب الرؤيا، وهجرة السنونو. وهي عناوين، كما نلاحظ، تتناغم مع العنوان الرئيسي، بما تشي به من فكر فلسفي يهتم بالخلود، ومعرفة الوجود المتعين كالمنفى، والهوية، وحركة الزمن التاريخية. كما جاءت عتبة أخرى تتقدم هذه القصائد تحت عنوان "فاتحة" ضمن هذا الفكر الفلسفي الميتافيزيقي الذي يسعى لفهم الوجود بما هو موجود، كما يرى أرسطو.

أبطأَتْ في حُلمي الخُطا، حتى أرى سقف الوجود

ولن أعودَ من المَدى

والمُنْتَهى

وأُبدي ما تَيسَّر من علامات التَّعجُّبِ والشُّرود

ومن العناصر المحيطة، أو العتبات النصية كما يسميها منظر السرد الناقد الفرنسي جيرار جينيت التي تحيط بمتون القصائد الأربع عتبة الإهداء، فتوفيق يهدي ديوانه إلى الشاعر اللبناني خليل حاوي "شاعرًا وملهمًا في ذكراه المئوية(1919-1982)" فهو يعترف بتأثره بهذا الشاعر الذي امتاز شعره باستخدام الرموز المتنوعة، والثقافة الواسعة التي حظيت بها إبداعاته الشعرية، مثل: "نهر الرماد" 1957، و"الناي والريح" 1961، و"بيادر الجوع" 1965، و"الرعد الجريح "1979.

ولا يكتفي الشاعر بتلك العناصر والعتبات، بل يتعداها إلى تقديم ديوانه باستهلال يتناول فيه العلاقة بين الشعر والفلسفة، كما يحدثنا عن طبيعة الشعر والنقد الأدبي وطريقته الخاصة في تشكيل القصيدة. إنه استهلال يقترب من دراسة فلسفية عميقة، تمددت على مساحة نصية واسعة، أكثر من خمس عشرة صفحة.

ومن العناصر الأخرى اللافتة في هذا الديوان استخدام الحواشي والإحالات الكثيرة؛ لشرح بعض المفردات والتعريف بالشخصيات والأحداث التي وردت في متون القصائد، وجاءت القصيدة الأولى "معراج جلجامش" مثقلة بالحواشي والإحالات أكثر من غيرها لموضوعها الميتافيزيقي الصوفي.

من الواضح كثرة استخدام العتبات النصية والحواشي في هذا الديوان كثرة قلما نجد مثيلًا لها في مجموعات شعرية أخرى، ولعل هذا يشير إلى إدراك الشاعر بأنه توغل كثيرًا في استخدام اللغة العقلية المحكمة، والمجازات البعيدة، وتناول موضوعات فكرية وفلسفية؛ فلجأ إلى الإفاضة في الاستهلال والتوسع في الشروح والتوضيحات، في رغبة ملحة في أن يخضع المتلقي إلى رؤاه، ويضعه في واديه، وتحت سمائه.

هكذا من خلال هذه الإطلالة الخارجية على ديوان "سماء أوديتي رؤاي" للشاعر زهير توفيق نستطيع القول إننا إزاء عمل شعري مهم يتناول موضوعات فكرية فلسفية تتعلق بالوجود، وحركة الإنسان في التاريخ والواقع، بلغة جادة، وعاطفة قوية متزنة، ومجازات تحافظ على أبعادها الجمالية والفنية. إنه عمل تمتزج فيه الفلسفة والشعر، ليقدم رؤية عميقة للوجود والحياة والطبيعة والمجتمع، وليجسد الفهم الحديث للعلاقة بين الفلسفة والفن وبخاصة الشعر التي تقوم على التوافق وليس الصراع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى