د. علي خليفة - مسرحية الشقيقات الثلاث للكاتب الروسي أنطون تشيكوف «1904 - 1860»

هذا الإيقاع البطيء الذي نستشعره عند مشاهدة مسرحيات تشيكوف الأربع الطويلة وعند قراءتها – يتناسب تمامًا مع ما يقصده تشيكوف من هذه المسرحيات، فهو يرى فيها أن الحياة ذات إيقاع بطيء، وأن من يعيش فيها يتألم كثيرًا، وبطء حركتها يعبر عن شدة الشعور بقسوة كل لحظة فيها.
وأبطال تشيكوف في هذه المسرحيات الأربع الطويلة هُم – في الغالب – أناس عاديون، ويعيشون فترات من حياتهم في أوهام، ثم تتكشف لهم، فيلفظهم الواقع الذي يحيونه، كحال فانيا وكثير من الشخصيات في مسرحية "الخال فانيا"، أو هم أشخاص مرضى بالكآبة والحزن، وتتسبب كآباتهم في تدمير أنفسهم ومن حولهم، كحال إيفانوف وبعض الشخصيات الأخرى في مسرحية "إيفانوف"، أو هم أشخاص تعثرت الحياة بهم، وعجزوا عن تحقيق أحلامهم في الشهرة والمجد، فصاروا كالموتى، كحال النورس المذبوح الذي حُرِمَ من الطيران والتحليق بصيده وقتله، ويشبهه بعض الأشخاص في مسرحية "طائر النورس".
أما عن مسرحية "الشقيقات الثلاث" فإننا نرى الشخصيات الرئيسة فيها تتهاوى أحلامها وآمالها أمامها، ويضاف لهذا أنها تُقْهَرُ على أن تعيش واقعًا لم تكن تتصور أنها ستعيش فيه، ولا تملك في النهاية غير أن تستسلم لذلك المصير، وتدور في فلك تلك الحياة المملة التافهة التي لم تكن ترغب في أن تعيش فيها.
وهكذا نرى أن أبطال تشيكوف في مسرحياته الطويلة هم أشخاص قُدِّرَ عليهم الشقاء، وتهاوت كل أحلامهم، واستسلموا للحياة الكئيبة المملة التي كانوا يظنون أنهم لن يصلوا إليها أبدًا.
وتلك الكآبة التي يستشعرها المشاهد لمسرحيات تشيكوف الطويلة والقارئ لها تنعكس – كما قلت – في إيقاعها البطيء، فكأن تشيكوف يريد من المشاهد – والقارئ – لهذه المسرحيات أن يعيش بوجدانه في قلب الواقع الكئيب الذي تعيشه تلك الشخصيات، من خلال جو الكآبة الذي يغلفها، ومن خلال الإيقاع البطيء فيها.
ولا عجب لذلك أن يستثقل بعض الجمهور مشاهدة هذه المسرحيات
أو قراءتها، ولكن الجمهور صاحب الذوق السليم يستطيع أن يتذوق هذه المسرحيات، ويدرك الجماليات التي بها، والرموز التي فيها، ويمكنه أن يجمع الخيوط التي تبدو مبعثرة فيها، ولكنها – مع ذلك – ممزوجة بإحكام فيها من خلال العلاقات التي تجمعها والرموز التي توحدها.
وفي مسرحية "الشقيقات الثلاث" نرى ثلاث شقيقات وأخًا لهم، وكلهم منذ بداية أحداث المسرحية يعانون ويتألمون، ويرون بصيصًا من الأمل أمامهم، ويتمسكون به، ولكن كل آمالهم تتهاوى في النهاية، ويخضعون لمصيرهم الصعب، ويرون أنهم يمكنهم أن يتحملوا قسوة الحياة من خلال العمل الذي ينسيهم أنهم فقدوا القدرة على تحقيق كل أحلامهم، وهذا هو نفسه ما انتهى إليه الخال فانيا وسونيا ابنة أخته مع نهاية مسرحية "الخال فانيا".
ونعود لمسرحية "الشقيقات الثلاث"، فنعرف من حوارها في الفصل الأول أن والد هؤلاء الشقيقات الثلاث كان لواء كبيرًا في الجيش الروسي، وكن يعشن في حياته مع أخيهم حياة مرفهة لا سيما في الفترة التي عشن فيها في موسكو، ولكنهن قد تبدل حالهن بعد موت ذلك الوالد.
فنرى أولجا الأخت الكبرى – وهي أقلهن جمالاً – قد اقتربت من سن العنوسة، ولم يتقدم لها أحد، وهي تقول لأختها إيرينا: إنها ستتزوج من أي شخص يتقدم لها لو كان طيبًا حتى ولو لم تحبه، ولكن لا أحد يتقدم لها
في تلك البلدة الصغيرة التي تعيش فيها مع أختيها وأخيها، وبعض الجيران، وهي ترجو مثل باقي إخوتها أن تعيش في موسكو؛ لتنعم بالحرية وحياة المدينة المثيرة، وأيضًا لتكون لها فرص أكبر في الزواج، ولكنها مع نهاية المسرحية تجبر على أن تكون ناظرة في المدرسة التي تعمل فيها في هذه البلدة، وتتهاوى كل آمالها في الانتقال للعيش في موسكو، وفي وجود فرص لتقدم أشخاص للزواج منها.
وإيرينا الأخت الوسطى هي أجمل إخوتها، ولديها رقة واضحة، وهي تطمع أن تشعر بمشاعر الحب نحو رجل – كما قرأت عن علاقات الحب في الروايات والكتب التي تقرؤها – ولكنها لا تستشعر تلك العاطفة نحو كل الرجال الذين حولها، ومن بينهم إيفان الذي يحبها بشدة، ويعرف أنها لا تعبأ به، ويهددها بأنه سيقضي على أي شخص يحاول أن يأخذها منه، وقد نفذ كلامه، فهو قد بارز البارون الذي وافقت إيرينا على الزواج منه رغم عدم حبها له،
وقد وافقت عليه؛ لأنه شخص محترم ومهذب، وسيذهب بها لموسكو التي تحلم بالعيش فيها.
وقبيل اليوم الذي ستتزوج فيه إيرينا من البارون يتبارز إيفان مع البارون ويقتله، وتشعر إيرينا أن كل أحلامها قد تحطمت، وتخضع لحياتها المملة الشاقة، خاصة في عملها في المجلس المحلي، وتقتنع بأنها لن ترى موسكو التي فيها ستتخلص من سجن تلك البلدة الصغيرة التي تشعر أنها حبيسة فيها، كما أنها تتوقع أنها يمكن أن تكون عانسًا مثل أختها أولجا.
والأخت الصغرى هي ماشا، وقد تزوجت وأنجبت طفلاً، وهي أيضًا تشعر بالتعاسة، فزوجها الذي تزوجته اكتشفت بعد زواجها منه أنه شخص عادي، وليس فيه مواهب الشخص الذي تخيلته فيه قبل زواجها منه، وتتعرف على ضابط متزوج وعنده أولاد، وتشعر بعاطفة نحوه، ويبادلها هو نفس العاطفة، خاصة أن زوجته مريضة وتحاول الانتحار كثيرًا، ويتألم في عيشه معها، ولكنه يغادر تلك البلدة في نهاية هذه المسرحية مع الفرقة العسكرية التي كانت تعسكر فيها فترة، وجاء الأمر لها بمغادرتها، وتعود ماشا لتنحصر في عالمها الذي هي مكرهة عليه، ولا ترى أي سعادة فيه.
وأندريه شقيق هؤلاء النساء هو كذلك شخص تهاوت أحلامه واستسلم للكآبة، فكان يأمل أن يعمل في الجامعة محاضرًا، ولكنه لم يستطع ذلك، وصار يعمل في وظيفة بسيطة، لا يوجد فيها ما يتناسب مع طموحه، وكذلك اكتشف أن نتاتشا زوجته التي تزوجها عن حب هي امرأة سوقية، في كثير من الأحيان، ولا تفهمه، بل إنها أعاقته كثيرًا عن تحقيق أحلامه.
هذه هي الشخصيات الرئيسة في هذه المسرحية، وهي تعاني من عجزها عن التعايش مع الواقع الذي لا يتناسب مع أحلامها، والأمر لا يقتصر في المعاناة على هذه الشخصيات، فهناك شخصيات أخرى ثانوية تعاني فيها؛ لعجزها عن تحقيق أحلامها والتعايش مع الواقع الذي ترفضه، مثل إيفان الذي يحب إيرينا بجنون، ولكنها لا تعبأ بحبه، ويوصله شدة حبه لها لمبارزته للبارون الذي كان سيتزوج من إيرينا، ويقتله في تلك المبارزة.
وكذلك نرى في هذه المسرحية الطبيب العجوز إيفان الذي أحب والدة هؤلاء الأشقاء في شبابه، ولكنه لم يستطع أن يتزوجها، ولم يحب أي امرأة بعدها، وعاش وحيدًا، واستشعر ثقل هذه الوحدة ومرارتها في شيخوخته.
وكذلك نرى في هذه المسرحية المربية فيرابونت التي عاشت مع أسرة هؤلاء الإخوة قرابة الثلاثين عامًا، وكانت تخدم كل أفرادها، ولكنها بعد أن وصل سنها لما فوق الثمانين صار بعض من في هذه الأسرة يرغب في التخلص منها؛ لأنها صارت تحتاج إلى من يعينها لا أن تعين هي أحدًا، وتعاني تلك المرأة العجوز من معاملة بعض أفراد هذه الأسرة السيئة لها خاصة نتاتشا، ولكنها في نهاية هذه المسرحية تبدو الوحيدة فيها التي تحقق حلمها البسيط بأن تنتقل مع أولجا التي تحبها لبيت تابع للمدرسة التي صارت ناظرة لها، وترى أنها قد ضمنت الاستقرار فيما تبقى لها من حياة.
وهكذا نرى أن الآمال والأحلام تتهاوى عند شخصيات هذه المسرحية، ويجبرون على الحياة التي لا تتناسب مع طموحاتهم، ويأملون في النهاية أن يكون حال الأجيال التالية أفضل من حالهم، وأن يشعروا بالرثاء لهم لذلك الحال الذي كانوا عليه، وهذه صيحة تشيكوف على وضع الناس الذين التحم بهم في عصره – لا سيما من البسطاء – وحالهم – غالبًا – لا يتغير من عصر لعصر آخر، ومن مكان لآخر.

د. علي خليفة





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى