رحلة العبدري الحاحي-1- دعوة الحق

من حاحة القبيلة البربرية المصمودية الشهيرة التي كانت وما تزال تقطن ما بين المحيط وسفوح الأطلس في بسيط من الأرض امتاز بوفرة خيراته من الأشجار والمراعي والينابيع – خرج الرحالة المغربي الكبير: أبو عبد الله محمد بن علي بن أحمد بن مسعود –أو سعود- العبدري في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 688 هـ قاصدا الديار المقدسة بالحجاز، مارا على منطقة سوس ما بين الاطلس الكبير والصغير، قاطعا الجنوب المغربي من الغرب إلى الشرق في ثلاثين مرحلة، حتى إذا وصل إلى الشرق أخذ طريق القوافل إلى تلمسان ومنها إلى تونس وليبيا ومصر ثم الحجاز..
وأول ما يتبادر إلى ذهن دارس هذه الرحلة الممتعة النفيسة التي لا تزال في عالم المخطوطات الجديرة بالدراسة والنشر، هو السؤال عن حياة مؤلفها وترجمته وبيئته التي كيفت عقله وثقافته وأخلاقه، ولكن هذا السؤال سيظل بدون جواب مقنع عن حياة هذا الرحالة العبقري، لأن المؤرخين المشارقة والمغاربة – فيما نعلم- قد سكتوا عنه سكوتا عميقا غريبا حتى أنك لتشعر وأنت تبحث عن حياته في معاجم الرجال وكتب الطبقات كأنك تبحث عن مجهول في المجاهيل أو نكرة في النكرات.. على أن الأيام كفيلة بالمفاجئات والاكتشافات في ميدان البحث التاريخي.. فربما يأتي يوم نجد فيه أنفسنا أمام معلومات جديدة تتعلق بصاحبنا لا سيما وهو صديق حميم للمؤرخ المغربي الحافظ محمد بن عبد الملك صاحب الذيل والتكملة، ذلكم الكتاب الذي ما زال مبعثر الأجزاء بين الشرق والغرب.. وشيء آخر يقوي الأمل في العثور على ترجمته وهو اتصاله بكثير من شيوخ تونس وإعجابه بهم وثناؤه العاطر على علمهم وخلقهم ودينهم.. فلا يبعد أن يوجد منهم من يكتب عنه ما يكشف القناع عن ترجمته المجهولة لحد الآن..
والشيء الغريب هو أن المؤرخين المغاربة كانوا على علم تام برحلة العبدري واستفادوا منها ونقلوا عنها الشيء الكثير.. وكانت متداولة بينهم في الأندلس والمغرب منذ القرن الثامن.. لكنهم فيما رأينا لحد الآن من مخطوطات ومطبوعات يذكرون الرحلة ولا يكادون يعرجون على صاحبها..
فالرحالة الأندلسي خالد بن عيسى البلوي الذي خرج من بلاده فتورية بقصد الحج وطلب العلم سنة 736هـ أي بعد رحلة العبدري بنحو 48 سنة يذكر في رحلته (تاج المفرق في تحلية علماء المشرق) أبياتا للعبدري عارض بها أبيات القاضي عياض في (الشفاء) ويحلي صاحبنا بقوله: الشيخ الفقيه الأديب أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد (كذا) بن سعود العبدري الحاحي (1).
وأبو العباس ابن الخطيب القسنطيني الشهير بابن قنفذ (741-810) يختصر رحلة العبدري اختصارا يناسب ذوقه الخاص ويسمى هذا الاختصار (المسافة السنية في اختصار الرحلة العبدرية) (2)وقد قرأت هذا الكتاب عند العلامة الوزير سيدي المختار السوسي وليس فيه شيء جديد عن المؤلف سوى أنه يزيد في تحلية أسمه هذه الكنية (ابن المعلم).. ولكن ابن قنفذ يكتفي باختصار الرحلة ولا يعرج على وفاة صاحبها في كتابه القيم الشهير (شرف الطالب في أسني المطالب) (3) مع أنه استمر في ذكر وفيات الإعلام إلى سنة 807هـ.
والشيخ احمد بابا السوداني في كتابه (نيل الابتهاج) ينقل كثيرا عن الرحلة العبدرية بل أنه ذكرها في خاتمة كتابه كمصدر من مصادره (4) غير أنه لم يترجم لمؤلفها وترجم لكثير من العبدريين: مغاربة وأندلسيين.
وأبو العباس ابن القاضي في كتابه (جذوة الاقتباس) يترجم للعبدري (5) ترجمة قصيرة جدا وهي على قصرها لا تزيدنا شيئا عما كتبه العبدري في رحلته نفسها.. والعياشي ينقل عن الرحلة العبدرية ولا يعرف بصاحبها.
بعد هذا العرض التاريخي نستنتج أن المعلومات التي سجلها المؤلف عن نفسه في الرحلة هي – لحد الآن- كل شيء بالنسبة لترجمته. ويظهر أن السبب الذي من أجله أهمل المؤرخون تسجيل حياة هذا الرجل الفذ هو أولا ما اشتهر به من حدة في الطبع، وإمعان في الانتقاد لأهل عصره بل لا نبالغ إذا قلنا أنه استعمل الهجر المقذع والسب واللعن أحيانا.. ويرجع ثانيا إلى أنه تجنب سكني الحواضر المغربية كمراكش وفاس وسبتي وآثر سكني البادية في حاحة جوار مدينة الصويرة الحالية.. وقد ضاعت تراجم كثير من الشخصيات بسبب ذلك.
بقيت ملاحظة جديرة بالبحث وهي: أن بعض الباحثين ينسبون العبدري هذا إلى مدينة بلنيسة الأندلسية ومنهم صاحب (تاريخ الفكر الأندلسي) الذي يقدم رحلة العبدري كنموذج للرحلات الأندلسية في العصر الغرناطي، ويقول في مؤلفها ما نصه: «أبو محمد العبدري من أهل بلنسية طاف بنواحي المغرب والأندلس في سنة 886هـ 1288م –كذا- وسجل مشاهداته في كتابه «الرحلة المغربية» وقد بدأ رحلته تلك من حاجة في بلاد السوس» (6).
وكذلك الأستاذ عثمان الكعاك في تعليقه على تاريخ الشماع يصف صاحبنا بقوله «الذي أصله من بلنسية» (7).
ولا ندري مصدرهما في هذه البلنسية، والعبدريون كثيرون في المغرب والأندلس وكلهم ينتسبون إلى عبد الدار، على أن هناك عبدريا بلنسيا رحل إلى المشرق وولد سنة 519هـ (8)، وهو غير صاحبنا قطعا كما أن هناك عبدريين آخرين في المغرب نجدهم عند الشيخ بابا السوداني في نيل الابتهاج، وعند ابن الزيات في (التشوف) (9).
وأما كون العبدري أستوطن حاحة ومنها رحل سنة 688هـ وإليها رجع فهذا شيء منصوص في الرحلة نفسها لا مجال فيه للشك.. والرحالة الأندلسي خالد بن عيسى البولي صاحب «تاج المفرق في تحلية علماء المشرق» يعترف بهذه الحاحية في النص الذي نقلناه عند صدر هذا البحث.. وقد اشتهر العبدري عند سكان حاحة بأبي البركات وقبره شهير هناك. وأما كونه عارفا باللهجة البربرية المستعملة هناك فهذا أيضا مما لا شك فيه فإننا نجد في المرحلة نصا يدل على ذلك دلالة واضحة، وقد تعرض العبدري لأخطاء الجغرافي الأندلسي أبي عبيد البكري فقال:
«أنه – البكري- ذكر ببلاد الصحراء بلدا يقال لها تدمكة وترجمها –البكري- فقال معنى تد الهيأة أي أنها على هيأة مكة كما ذكروه، وليس للهيأة اسم في لسانهم البتة وإنما معنى تد هذه، وهي من أسماء الإشارة عندهم يقولون لهذا واد، ولهذين وهؤلاء ويد، ولهذه تاد، ولهاتين وهؤلاء تيد وليس للمثنى عندهم عبارة سوى عبارة الجمع، إلا ألفاظ العدد فمعنى تاد مكة أي مشبهتها (10).
ويجدر بالمؤرخ الباحث إلا يقف عند هذه النصوص ليقطع بنفي الصلة بين رحالتنا العبدري والأندلس.. لأن هناك نصا آخر في الرحلة يدلنا على أنه رأي الأندلس واختبر أخلاق أهلها كما اختبر أخلاق أهل المغرب وبرقة والحجاز والشام.
ويقول العبدري في الرحلة عند كلامه على أخلاق سكان القاهرة ما نصه:
« وما رأيت بالمغرب الأقصى والأندلس على شكاسة أخلاقهم ولا بأفريقية وأرض برقة والحجاز والشام» فهذا النص على اختصاره يدلنا على أن العبدري رأى الأندلس ومعلوم أنه لم يبق منها في عصر العبدري إلا مملكة بني الأحمر في غرناطة وما جاورها في جنوب الفردوس المفقود.. فكيف رأى العبدري الأندلس؟ ومتى رآها..؟
الجواب رهن بما يكشفه البحث في المستقبل..
ولننتقل إلى أسرة العبدري وأصدقائه في المغرب ومصدرنا في ذلك الرحلة، والرحلة وحدها.
فأما والداه فلا تعلم عنهما شيئا.. وكل ما نعلم أنه خرج من بلاده شابا في مقتبل العمر.. كما خاطبه بذلك في القيروان الشيخ عبد الرحمان الدباغ صاحب معالم الإيمان حين أعطاه – أكثر من عشرة أجزاء من فوائده وفوائد شيوخه وفيها رسمهم، وقال لي أنت أولى بها مني فأتي شيخ على الوداع وأنت في عنفوان عمرك ومن حين رأيتك أنغرز حبك في قلبي (11).. ويترك ولده محمدا في حاحة ولا ينفك يطلب له الإجازة من الشيوخ الذين أخذ عنهم في رحلته على العادة المعروفة في ذلك العصر.. كما لا ينفك يراسله نظما ونثرا ينصحه ويتشوق إليه.. وهناك فرد آخر من أسرته وهو أخوه يحيي ذكره مرتين في الرحلة وقد كان مرافقا له.. ذكره عند عودته حينما شاركته في الأخذ عن بعض الشيوخ بتونس.. ويظهر أن العبدري كان عازما على الاستيطان بمكة أو الإقامة بها مدة طويلة صحبة بعض من كان معه من أفراد أسرته فإننا نجده يقول عن شيخه الدباغ:
« وقال مرارا إذا قضى الله حاجتك وحججت فلا تقم في البلاد فإني كثير الشفقة على ولدك وقد أوقع الله حبه في قلبي منذ ذكرته لي». كما نجده يقول في مكة:
«وكنت عازما على المجاورة حسبنا تقدم فتجهزت للمقام واكتريت الدار وصرفت بعض ما كانوا (كذا) معي ليرجعوا إلى المغرب وحصلت أسبابي كلها بمكة».
أما أصدقاء العبدري في المغرب فيظهر أن الباقعة محمد بن عبد الملك صاحب الذيل والتكملة كان أرفعهم منزلة في نفس صاحبنا ولذلك نوه به عند شيخه ابن دقيق العبد في مصر تنويها عظيما وعرف به وبآثاره وكان أبن دقيق العبد يعرف الشيخ أبا الحسن ابن القطان (12) الذي كان من أعلام المغرب الأفذاذ في دولة الموحدين ويعرف كتابه «بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتابه» (13) فأفهمه العبدري ما جد في الموضوع حول هذا الكتاب من تعقيـــب أبن المــــواق (14) على شيخه أبي الحسن أبن القطان وجمع الحافظ أبن عبد الملك للكتابين مع الاستدراك عليهما..
وقد أثمرت هذا التعريف ثمرته الموجودة عند أبن عبد الملك حيث أننا نجده يقول في الذيل والتكملة ما نصه «أخبرني الإمام ألا وحد تقي الدين.. القشيري ابن دقيق العبد مكاتبة من مصر قال:
انشدني المقدسي في تارك الصلاة
خسر الذي ترك الصلاة وخابا
وأبى معاد صالحا ومآبا
الأبيات (15).
هذا ما يمكننا أن نستنتجه من معلومات عن حياة العبدري وأسرته وأصدقائه في المغرب وهو شيء طفيف بالنسبة لما نجهله.. وكان العبدري أدرك بحدسه الباطني ان المؤرخين المشارقة والمغاربة سوف يهملون ترجمته بعد مماته كما أهملوا تقدير علمه وأدبه في حياته، فدون هذه الرحلة الفريدة في أسلوبها ولهجتها وحشر فيها الشيء الكثير من أخبار شيوخه المشارقة والتونسيين.. والشيء الكثير من أحوال عصره الاجتماعية والسياسية والعلمية.. وبذلك ضمن لنفسه الخلود وقاوم عوامل النسيان والإهمال التي سيطرت على كثير من أمثاله ولا سيما في هذه البلاد.
وكما كان القسم الأول من هذا البحث مركزا حول نقطة معينة من الرحلة وهي محاولة معرفة ترجمته من قلمه.. فإن القسم الثاني سيكون – بحول الله- مركزا حول نقطة ثانية معينة وهي محاولة مرافقة العبدري في مشاهداته في البلاد التي زارها وكتب عنها منذ أن خرج من حاحة إلى أن عاد إليها.

(1) رحلة البلوي مخطوطة
(2)جذوة الاقتباس ص 79.
(3) مطبوع بمصر.
(4) ص 361 طبعة مصر على هامش الديباج.
(5) جذوة الاقتباس ص 179.
(6) تاريخ الفكر الأندلسي ص 318.
(7) الأدلة البينة ص 15.
(8) نفح الطيب ج 1 ص 426 المطبعة الأزهرية.
(9) انظر مثلا ص 154 من طبعة الرباط.
(10) رحلة العبدري مخطوطة.
(11) من الرحلة العبدرية
(12) الجذوة ص 298. نيل الابتهاج ص 200. وله ترجمة حافلة في الذيل والتكملة.
(13) أحكام عبد الحق الاشبيلي انظر ترجمة في عنوان الدراية ص20. وصلة الصلة ص4.
(14) سماه ابن عبد الملك في الذيل محمد بن يحي أبو بكر بن خلف وتوفي سنة 642.
(15)ابن عبد الملك في الذيل – مخطوط باختصار.


دعوة الحق

44 العدد



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى