فاتن فاروق عبد المنعم - الجدة رن

يجلس بجانبها بالمستشفى يقرأ القرآن بصوت عال، يشعر أنها تحتضر، جدته لأبيه الذي لم يره، توفي ووالدته في حادث سيارة، كان عمره أربع سنوات وأخته عمرها سنة، مروان وسندس، أراد الله أن يخطوا خطواتهما الأولى بين يدي جدتهما، فتعودا على لباسها الأسود، وقولها بين خاصتها "ولاد الغالي" ومن آن لآخر قد يريا إلتماع عينيها بالدموع وقد لا تستطيع كبحها فتفيض، في مواقف كثيرة لم يدركا في حينها لماذا هذه الدموع السيالة، وبقدر ما فاضت عليهما من حب ورعاية وعطاء بقدر ما كانا يريا أن الله في السماء وهي في الأرض.
تفتح عينيها، يقطع استرساله ويقول لها "عايزة حاجة"
بصرها اليوم حديد، نظراتها صامتة مبهمة، يمسح العرق عن جبينها الذي تفصد، وبسرنجة يسحب من كوب العصير ويقطر في فمها، ابتلعت بعض القطرات، وتوقفت عن المزيد، فسالت القطرات من فمها وقام بمسحها بالمنديل، عاد يقطر في فمها الماء، ابتلعت بعض القطرات ثم أحجمت، كان الطبيب قد أخبره أنها النهاية وعليه أن يأخذها إلى البيت ولكنه آثر البقاء بالمستشفى خشية معاودة آلامها المبرحة وهو ما لا يطيقه، قد تمتليء عيناه بالدموع من طول مراقبتها وشعوره بأنها ليست إلا وقتا قصيرا وستغيب الغياب الأبدي، تلك التي كان حنانها كلأ قلبيهما العطشاوين، بيده سيواريها التراب ويعود لينام بحضن زوجته في فراشه الوثير، يبعد عنها يوليها ظهره ليمسح ما فاضت به عيناه، هذه هي المرة الأولى التي سيضع بيده شخصا، لم يعرف من الحياة الدنيا سواه على كثرتهم، لكنها هي من لازمتهما طيلة حياتهما التي جعلتها غناء بوجودها.
سطح بيتها ملبيء بالطيور، يصعد ليجمع البيض وكان ذلك من اللحظات السعيدة جدا له في بدء تفتح وعيه عندما كان دون العاشرة، ثم تكسر بيضة نيئة بكوب اللبن وتقول له إشرب، يستجيب وتحجم سندس التي كانت تتقلص ملامحها اشمئزازا، وعندما أصبح بالمرحلة الإعدادية استشعر تأثير كبر السن عليها، رق قلبه الغض لها فأنشأ يقول لها في حماس أنا كبرت وأستطيع أن أشتري لك ما تريدين وأنا عائد من المدرسة.
تقول له باسمة: هات ورقة وإكتب.
يشتري لها ما تشاء ويشترك مع إخته في حمل الأكياس.
يمسك بقدمها، باردة في شحوب وجفاف نبع الحياة فيها، إيذانا ببدء النهاية، الحقيقة التي تحيط به وغير قادر على دفعها بعيدا عنه، كيف يهل عليه يوم لا تكون فيه، كم هو ثقيل من مجرد تخيله، كان أباه وأمه يقطنان في الطابق الذي يعلو بيت جدته، فلما توفيا احتفظت الجدة رن ببيتهما بكامل محتواه، فلما حان زواجه اقتسمت محتواها له ولأخته، كانت أولى كلماته لزوجته، أسرع طريق لقلبي هو رضا جدتي، هي دائما على حق، تحيني مواضع رضاها، من لا يعاملها بود هو عدو لي أيا كان درجة قرابته مني.
ولما علم أن زوجته حامل ببنت، قال لها:
إسم ابنتي رانيا على إسم جدتي، وسوف نناديها رن كما هي تماما.
تبرمت واعترضت، تريد أن تسميها لي لي.
فقال لها هذا قرار لا رجعة فيه، فتركت له البيت إلى بيت أبيها لتصعد اعتراضها بينما هو ثابت على موقفه ولا نية لديه للتراجع، هدأ والديها اللذان ثمنا بره بجدته النار المستعرة فعادت إليه قابلة بإسم ابنتها التي لا تستسيغه.
عندما نجح في الثانوية العامة وكان الأول على مدارس الإدارة التابعة لها مدرسته فرحت باكية وأخذت تردد ابنك الأول يا محمد، وقف يقبل رأسها ويديها ويقول "طلعت الأول كما أردت"
ضمته إلى صدرها ليعمها سعادة مشوبة بالألم، كأن فقد ابنها سهم دائم الطعن في قلبها.
تلك الجدة والدها كان معلم لغة عربية ومحفظ للقرآن، رزقه الله بأربع بنات، كانت أسمائهن منتقاة بعناية، رانيا واختصرها نطقا رن، أسماء واختصرها أسما، لمياء اختصرها لاميه، ثم نفحات التي توفيت وهي في الثلاثين من عمرها.
حان ميعاد فرح سندس فأرادت الجدة رن أن تقيم الفرح على طريقتها، فقامت بإخبار أسماء ولمياء أن يساعدنها في فرح سندس، تجهيزها كعروس، وعمل الكعك بالبيت بالسمن الطبيعي.
حيث قالت لهما تحضرن ببناتكن وتقيما عندي قبل الفرح بأسبوع، كل جميل تعملوه لبنت محمد.
اعترضت أسماء ولمياء اللتان قالتا معا، لم يعد تجهيز العروس بالبيت، العرائس الآن تذهبن لمركز تجميل قبل الفرح بشهر يفعل لها أفضل مما نعمله، والكعك إشتريه جاهز كما كل الناس الآن.
اعترضت بشدة وقالت: أنا عايزة أفرح ولن أفرح إلا إذا تم كل شيء أمام عيني، ثم تتمطق وتلوي شفتيها معترضة وتقول على آخر الزمن أشتري كعك العلب، سوف أشتري جوال دقيق مائة كيلو لعمل كعك وبسكويت وغريبة وبتيفور بالسمن الطبيعي.
هالهما ما سمعا فقالا معا جوال دقيق مائة كيلو بسمن طبيعي، هذا خراب ديار وافتراء.
قالت الجدة الطاعنة في السن أعطي لها ولحماتها وأنا أوزع على حبايبي.
قالا معا: كبرنا وعزت العافية ولا نقدر على ذلك.
قالت غاضبة: لا أريد منكما أي شيء، فرح بنت محمد سيكون كما أريد.
فقالا لها، هاتي فاطمة(متخصصة في عمل الكعك) تعمل لك الكعك.
قالت: وتجهيز سندس.
هنا تدخلت سندس التي تعيش زمانها وقالت هوني عليك يا جدتي، مركز التجميل سيكون أفضل، أنا حجزت دوري وسوف أتابع معهم من اليوم.
صمتت الجدة رن مضمرة امتعاضها واعتراضها وعدم اقتناعها، ثم قالت، لكن الكعك سيكون هنا على عيني.
قام مروان بالاتصال بفاطمة ليعرف ما ستحتاج إليه كي يشتريه، فاستشعر كلفته الباهظة والتي تفوق إمكاناتهم فلم يتردد أن يأتي لها بالمكونات التي طلبتها كي يسعد جدته، واضطر للإستعانة بجزء من المبلغ الذي كان ينتوي دفعه لتغيير السيارة وسوف يؤجل تغييرها حتى يتمكن من استعادة ماتم اقتطاعه، فجن جنون زوجته الذي نهرها لأنها اتهمته بالجنون هو وجدته وقام والديها برأب الصدع.
وأخذ في التحايل على جدتيه أسماء ولمياء كي تحضرا عمل الكعك وبناتهما وتعيش الجدة لحظات الفرح بسندس على طريقتها.
فقالتا معا: لم يعد لدينا صحة لفعل ما كنا نفعله زمان، والبنات تعملن وأخريات طالبات ولا يتوفر لهن الفراغ لعمل الكعك فضلا عن كونهن يتأهبن للفرح بالبحث عن الفساتين والذهاب لمركز تجميل ومنهن من تتبع نظام غذائي معين كي تقلل وزنها، رن تعيش في زمن من خمسين سنة.
جاءت أسماء ولمياء وبناتهن في وجود فاطمة التي استدعاها مروان لعمل الكعك كي يسعد جدته.
قامت الجدة تغني أغانيها التي كانت في زمانها وتطلب من أختيها التفاعل معها، استجاب لها وقمن بترديد الأغاني القديمة التي تفضلها رن بينما البنات الصغيرات انتحين جانبا وبأيديهن الهواتف تسمعن أغاني زمانهن، وفاطمة ومساعدتها تؤدين دورهما في عمل الكعك.
لم يمض كثير من الوقت حتى أخذتها سنة من النوم، بينما هن متطلعات إليها، أيقظتها أختيها ليأخذا بيدها إلى السرير فبدت عليها بعض الأعراض من عدم القدرة على الكلام وثقل في الذراع والساق، فهاتفت سندس مروان الذي حضر ونقلها إلى المستشفى، ليتغير مسارها وتبدأ مرحلة جديدة، رافقها أختيها وسندس وأقارب كثر، وفدوا للإطمئنان عليها وإن منع عنها الزيارة، تعافت من الجلطة واستفاقت لبعض الوقت توصيهم ألا تؤجلوا فرح سندس التي كانت مائلة أمامها وهي تقول نؤجل حتى تتعافين ولكنها أصرت ألا يؤجل زفافها، بقيت معها أختيها وذهب مروان لحضور عقد القران بالمسجد، ثم عاد إليها وقال لجدتيه أسماء ولمياء، إذهبا لتكونا مع سندس وسأبقى أنا بجانبها، ثم غابت عن الوعي، تستفيق دقائق ثم تعود لغيبتها القصرية، جاءت إليها سندس وزوجها بفستان الزفاف، احتوت جسدها المنحول وقبلتها وحاول مروان إفاقتها لترى سندس بفستان الزفاف، أومأت بلفتة خاطفة بلحظها الفاتر ولا يعرف إن كانت واعية أم في غيابها القصري.
الآن مروان فقط هو من في حضرتها مع الملائكة، نفد رزقها ولم تعد تقبل قطرات الماء، أدت الأمانة الملقاة على عاتقها، سلمت الروح لبارئها ليبقى الجسد المنحول، يحتضنها للمرة الأخيرة بعد أن أدى الملائكة عملهم، ولم يتلفظ بما يسوءها أو يسوءهم، وإنما مفردات التسليم بقضاء الله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى