ألف ليلة و ليلة عبده جبير - ألف ليلة وليلة.. *محاولة لتحليل جوانب الجمال في حكايات المقدمة

توضيح:

وأنت شاب، أحيانا، تتخيل أنه بإمكانك أن تقوم بالمعجزات (هكذا ببساطة)!.

تصور: لقد قررت في يوم ما من أيام العام 1979م أن أقدم قراءة جمالية (حسب ما أسميتها) لألف ليلة وليلة، كلها (تصور الجنون) لكن ما أن وصلت لليلة الأولى من الليالي، أي مجرد تخطي العتبة (التي هي المقدمة) بليلة واحدة حتى وجدت أنني كتبت ثلاث مقالات طوال، ما يعني أن الاستمرار في هذا العمل الخرافي، يعني (ثاني مرة) أن علي أن أكتب ثلاثة آلاف مقالة، لأصل لهدفي المعتوه!

تصور.

طبعا توقفت عند المقال الثالث، لأنه بالقطع لم يكن من الممكن أن أتمكن من إتمام هذا العمل الجنوني،حتى ولو عشت مائة عام، ولم أفعل أي شيء آخر سوى كتابة هذه القراءة الجمالية المعتوهة.!

وهاك الحصيلة.

تمدنا الأصوات المتعددة في الملحمة الشعبية «ألف ليلة وليلة» بخبرات عميقة يمكننا الاستفادة منها في بناء أدبنا العربي عامة، وشق طريق للرواية العربية المعاصرة بشكل خاص. طريق له ملامحه المميزة، ومغامراته المشروعة في سبيل بناء أدبنا الجديد. وعلى الرغم مما قيل في أصل هذا العمل، وما إذا كان واضعه واحدا أو جماعة، وهو ما انشغل به الدارسون الغربيون كثيرا، وانشغلنا به قليلا، فإننا سوف نحاول (بعد تجنب هذه المسائل الأكاديمية البعيدة عن موضوعنا) سنحاول استخلاص جوانب البراعة الفنية التي جاء عليها النص المطبوع (طبعة بولاق) والتي توصف بأنها «أهم طبعة لهذا الكتاب» (د. سهير القلماوي ـ ألف ليلة وليلة ـ دار المعارف ـ ص 14)، وعلى حد علمنا فإن ما كتب عن ألف ليلة وليلة بالعربية، لا يعدو عددا من المقالات المتفرقة، وبعض المحاضرات الإنشائية، ودراستين أكاديميتين صدرتا في كتابين، أولهما: الدراسة الرائدة التي كتبتها سهير القلماوي وحصلت بها علي درجة الدكتوراه، وثانيتهما: دراسة الأستاذ أحمد محمد الشحاذ والتي نال بها درجة الماجستير وصدرت بعنوان «الملامح السياسية في حكايات ألف ليلة وليلة» عن وزارة الإعلام والثقافة العراقية (**).

وعلى حد علمنا أيضا، فان دراسة مستوفاة لهذا الجانب الجمالي الذي نتناوله هنا، لم تكتب من قبل: وكان ممكنا أن تغني عن هذه المحاولة التي جاءت كقراءة جمالية أكثر منها أي شيء آخر. ولكنها تطمح أن تثور بها الدعوة للاهتمام الجاد بهذا الأثر الخالد، الذي اهتم به الغربيون، دارسون ومبدعون، اهتماما يندي له جبين أبي عربي، وليس دليلا على ذلك أقوى من أن كتابا كبارا مثل «هملتون» و«ليسنج» و«ديدور» و«بومارشيه» و«بيير لويس» وغيرهم، استفادوا منه. بل يمكن القول بأن بعضهم بني علي أساس الليالي أعماله، منها استمد الطبيعة والروح، وتعلم الكثير من الأداء والتكنيك هذا علاوة على المسرحيات والسيمفونيات والقطع الموسيقية وحكايات الأطفال والأولاد واللوحات الفنية والأفلام والمسلسلات التي استوحت ألف ليلة وأخذت منها. والدراسات التاريخية والأكاديمية تكاد لا تحصى.

إن هذا التأثير الضخم، لا بد له من أسباب، وهذا الإعجاب، لا يمكن أن يكون إلا نتيجة لبراعة من نوع ما، وعلى الرغم من أن حكايات الليالي تبدو ساذجة أحيانا إلى حد كبير (تلك السذاجة التي تكون محببة أحيانا، ومبتذلة في قليل منها) إلا أن السؤال يبقى معلقا: فيم إذن يكمن سر الإعجاب بهذا العمل؟ إلى حد جعل الدكتورة سهير القلماوي تكتب في حماس:

«لسنا نبالغ إذا قلنا أن ألف ليلة وليلة كانت الحافز الأهم لعناية الغرب بالشرق عناية تتعدى النواحي الاستعمارية التجارية والسياسية، بل لسنا نبالغ إذا أرجعنا كثيرا من قوة حركة الاستشراق وانتشارها إلى ما ترك هذا الأثر في نفوس الغربيين، فقد تاق الأدباء من قبل ظهور هذا الأثر ومن بعده كثيرا إلى زيارة هذه البلاد الشرقية». وتضيف:

«هذه كانت الآثار غير المباشرة، فهل كانت هناك آثار مباشرة؟ هذا مما لا شك فيه أيضا، وقد كان أثرها من هذه الناحية متشعبا متفرقا. فأولا: تأثر ـ أي الغرب ـ بالناحية الخيالية والشعرية الغامضة السحرية التي تكشفت عنه بفضل هذا الأثر، وأصبح الكتّاب الغربيون في كثير جدا من الأحيان، يتجهون إلى هذا الأثر وإلى تعبيرات خاصة به وصور مأثورة عنه، كلما أرادوا أن يفصلوا في أدبهم كلاما عن السحر الخارق أو البذخ الشرقي بوجه عام. وثانيا: تأثر بهذه الصور العديدة التي كشفت عنها الليالي من حياة الشرق، مما أغني الأدب من ناحيتين هامتين: في ناحية الوصف فاستفادت بذلك القصة الغربية آفاقا جديدة وميادين جديدة لحوادثها وعواطفها، وفي ناحية المناظر المسرحية، فغنى المسرح بفضل ذلك غنى هائلا وأصبحت صناعة المناظر المسرحية تعتمد اعتمادا قويا في إبراز الأدب المسرحي الشرقي على هذه الصور التي أوحت بها الليالي». على أي الأحوال، فإن الإجابة عن السؤال السابق تبقي مجرد اجتهاد، والاجتهاد الذي نقدمه هو التالي:

إن سببا أسياسيا، على الأقل، وراء هذا الخلود الممزوج بالإعجاب يكمن في «الأداء» في «البراعة الفنية» في الأصوات المتعددة التي تظهر وتختفي بإيقاع سيمفوني خلاب، في الإيقاع المروي بطريقة الحكاية المتواترة. أي في «التكنيك» الفني لهذا العمل.

وإليكم الدليل: في مقالي هذا سأحاول أن أتلمس خيوط التكنيك في حكايات المقدمة، التي تستحق منا وقفة طويلة، أو بمعنى أصح، هي التي تفرض علينا، بحكم تكوينها، هذه الوقفة؛ فمن الواقع العملي يمكن القول أن بداية أي عمل فني هي أصعب مراحله (وإن كانت جميع المراحل لها أهمية بنفس الدرجة، فالعمل الفني لا يتجزأ) ربما لأن وضع الأساس يتوقف عليه وضع الطوابق أو المراحل الأخرى، لأنها في الأساس توضح لنا: من أي زاوية سيتناول الفنان حقائق الحياة، بأي لغة، وبأية طريقة. فوضع الكلمة الأول، يعني أن الكلمات التالية ستكون من نفس الفصيل، والانتهاء من الجملة الأولى معناه أن خيطا هاما من إيقاع العمل قد امتد، وما علينا إلا أن نتابع فشل أو نجاح «الراوية» ومدى براعته في التلاعب بهذه الخيوط. إن قاعدة عامة، هي صحيحة حتى الآن، يمكن أن تكون دليلنا لاستخلاص إيقاع الليالي. هذه القاعدة تقول: «إن لكل عمل فني قوانينه الخاصة به، وإن دراسته، أو محاولة فهمه، أو بمعنى أدق، محاولة الوصول إلى إيقاعه، يجب أن تتبع من تلمس هذه القوانين». والآن، ما علينا إلا أن نجيب على السؤال التالي: كيف بدأت اللحظة الأولى، أو الحركة الأولى في هذا العمل؟

تبدأ قصص المقدمة «حكايات الملك شهريار وأخيه الملك شاه زمان» بطريقة الرواة الحكائين (بعد المدخل التقليدي الذي يبدأ بالحمد لله والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والمرجح كما كان سائدا أنه من وضع الناسخ) تبدأ بسطر واحد ما نلبث أن ننساه بعد لحظات: «حكى والله أعلم أنه كان فيما مضى من قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، ملك من ملوك ساسان بجزائر الهند والصين صاحب جند وأعوان وخدم وحشم له ولدان».

ثم يدخل علينا الملكين الأخوين شهريار وشاه زمان، ويختفي الأب المذكور في الجملة السابقة تماما، ليظل الأخوين معنا طوال حكايات المقدمة، بطريقة سيسلكها طوال العمل، طريقة بارعة حقا في استعمال «الأصوات» أو «الشخصيات».. كثيرا ما سنرى اختفاء أو عدة شخصيات ببراعة وبساطة شديدتين، حتى لا تكاد العين تتوقف عندها، دون أن نشعر بغيابها، بل إن هذا الغياب يعطيها وجودا خاصا كاختفاء آلة من الأوركسترا السيمفوني تنسحب في هدوء إلى الصمت، لكن صداها ما يزال يتردد. هذا هو الصوت الأول (الملك الأب) يختفي بعد الجملة الأولى، ليظهر الأخوان: «أحدهما كبير والآخر صغير».. هكذا يمهد لاحتلال الأخ الأكبر «شهريار» حيزا خاصا في ذاكرتنا: «وقد ملك البلاد، وحكم بالعدل بين العباد وأحبه أهل بلاده ومملكته». ثم يستطرد في وصفهما، ويبين لنا أن كلا منهما كان حاكما لمملكة بعيدة عن الأخرى، فيشتاق الملك «شهريار» لأخيه «شاه زمان» فيرسل وزيره في طلبه، وبالفعل فها هو شاه زمان يستجيب لنداء الأخ «وتجهز للسفر وأخرج خيامه وجماله وبغاله وخدمه وأعوانه» وإلى هنا نشير إلى أنه على الرغم من أن الراوية كان يتحدث عن شهريار الأخ المشتاق إلا إنه جعل الآخر في حضور جديد ويفاجئنا: «فلما كان في منتصف الطريق تذكر حاجة نسيها «هكذا يقطع الاستطراد بجملة اعتراضية تنساب خلال السرد في هدوء ودون نشاز، ليدخل علينا بعنصر درامي جديد. عنصر الخيانة الزوجية الأولى: «فرجع ـ أي شاه زمان الأخ الثاني ـ ودخل قصره فوجد زوجته راقدة في فراشه معانقة عبدا أسود من العبيد فلما رأى هذا اسودت الدنيا في وجهه وقال في نفسه إذا كان هذا الأمر قد وقع وأنا ما فارقت المدينة فكيف حال هذه العاهرة إذا غبت عند أخي مدة ثم أنه سل سيفه وضرب الاثنين في الفراش ورجع من وقته وساعته وأمر بالرحيل «هكذا تظهر الزوجة والعبد في هذا المشهد الغرامي القصير، ثم يخرجان من الكادر بضربة واحدة من سيف الملك، فالراوية يعتمد هنا على المخزون الثقافي الشرقي الذي يعتبر أن هذا القتل أمر طبيعي في حالة خيانة من هذا النوع. خيانة الحرة مع العبد، وبالذات زوجة الملك. وينتهي المشهد، بعد كل هذه الدماء، وكأن شيئا لم يكن لنتابع لقاء الأخوين: «وسار إلى أن وصل إلى مدينة أخيه ففرح أخيه بقدومه ثم خرج إليه ولاقاه وسلم عليه ففرح به غاية الفرح وزين له المدينة وجلس معه يتحدث بانشراح «ولكن شاه زمان ظل في باطنه جرح ولم يستجب للفرحة التي أقامها أخوه، وأخفى عليه أمر الخيانة، فأراد شهريار أن يروح عنه (بعد ما «ظن في نفسه أن ذلك بسبب مفارقته بلاده وملكه)» برحلة صيد «لكنه رفضها بحجة حزنه.. لكن الحقيقة أن طبيعة الراوية أرادت ان تعيد لنا المشهد، مشهد الخيانة الزوجية.. وهذه المرة، مع الأخ الأول شهريار، في ترديد متعمد، وفي مشهد أكثر اتساعا وقوة، حتى نشعر بدراما الحدث الجديد شعورا أعمق. «فسافر أخوه وحده إلى الصيد وكان في قصر الملك شبابيك تطل على بستان أخيه (شهريار) فنظر (شاه زمان) وإذا بباب القصر قد فتح وخرج منه عشرون جارية وعشرون عبدا وامرأة أخيه تمشي بينهم وهي في غاية الحسن والجمال حتى وصلوا إلى فسقية وخلعوا ثيابهم وجلسوا مع بعضهم واذا بامرأة الملك قالت يا مسعود فجاءها عبد أسود (أيضا) فعانقها وعانقته وواقعها وكذلك باقي العبيد فعلوا بالجواري ولم يزالوا في بوس وعناق ونحو ذلك حتى ولى النهار. فلما رأى ذلك أخو الملك قال والله أن بليتي أخف من هذه البلية وقد هان ما عنده من القهر والغم وقال هذا أعظم مما جرى لي». هكذا، الحدث يتكرر، ولكن، بإضافات جديدة؛ وسوف يتكرر ذلك كثيرا في الليالي.

وفي كل مرة نشعر بطعم الجدة والطزاجة والحيوية، لأن كل مرة جديدة يضيف راويتنا تنويعات دقيقة جديدة.

على أي الأحوال، يعود الملك شهريار من رحلة صيده، (وهنا نتذكر أن الخيانة الأولى قد تمت عندما خرج الملك في رحلة أيضا) ويجد أن حالة الكدر التي كانت متلبسة أخاه قد ولت، فيسأله عن السبب، فيمتنع عن الإفصاح في البداية، لكنه يصارحه أخيرا. (ونلاحظ أيضا أن شاه زمان، الشاهد هذه المرة، ما هو إلا حيلة فنية قصد بها الكشف، ومع هذا فإننا نشعر طوال الوقت بقصته المشابهة). وحتى يتكرر المشهد مرة ثالثة بنظارة جديدة وبحلة جديدة، يقول لنا الراوية: «فقال شهريار لأخيه شاه زمان أن أنظر بعيني فقال له أخوه شاه زمان اجعل إنك مسافر للصيد والقنص واختفي عندي وأنت تشاهد ذلك وتحققه عيانا فنادى الملك من ساعته بالسفر فخرجت العساكر والخيام (كذا)! إلى ظاهر المدينة وخرج الملك ثم أنه جلس في الخيام وقال لغلمانه لا يدخل على أحد ثم أنه تنكر وخرج مختفيا إلى القصر الذي فيه أخوه وجلس في الشباك المطل على البستان ساعة من الزمان وإذا بالجواري وسيدتهن دخلوا مع العبيد وفعلوا كما قال أخوه «هكذا يرى شهريار المشهد الكبير بعينه، المشهد الذي يتكرر للمرة الثالثة لتتسع دائرة احتواء المتلقي من جهة، وليتكامل البناء بهذا «الترديد» الذي لولاه لتعرت الحكاية عن سذاجة متناهية. لكن نهاية الحدث هنا تختلف، فلم يقتل شهريار زوجته بنفس السرعة، (وهو الذي قتل فيما بعد كل فتيات المدينة) بل يصاب بحالة تقزز من الملك والقصر المليء بالخيانة فيرحل، يقول راويتنا:

«وقال لأخيه شاه زمان قم بنا نسافر إلى حال سبيلنا وليس لنا حاجة بالملك حتى ننظر هل جرى لأحد مثلنا أولا فيكون موتنا خير من حياتنا فأجابه لذلك ثم أنهما خرجا من باب سري في القصر ولم يزالا مسافرين أياما وليالي إلى أن وصلا إلى شجرة في وسط مرج عندها عين ماء بجانب البحر المالح فشربا من تلك العين وجلسا يستريحان». وبعد هذا المشهد الرومانسي الأخاذ، ونحن نشعر معهما بالهدوء وبالسكينة (على الرغم من أن مصير زوجة شهريار ومملكته يبقي معلقا في أذهاننا) يدخل بنا الفنان إلى مشهد خيالي آخر، سيتكرر فيه الحدث السابق، وتتكرر «فلما كان» التي استعملها في الصفحات القليلة الماضية عديدا من المرات بصور مختلفة، وعلى الرغم من أن البالغيين يسمون تكرار «كان» «كنكنة» ويعيبونها، ألا أن فناننا يستعملها طوال الليالي ببراعة شديدة، لتصبح أداة إبداعية وجمالية لا عيبا بلاغيا: «فلما كان بعد ساعة مضت من النهار إذا هم بالبحر قد هاج وطلع منه عمود أسود صاعد إلى السماء وهو قاصد تلك المرجة قال فلما رأيا ذلك خافا وطلعا إلى أعلى الشجرة». من هو الذي قال؟ إن الراوية خشي أن ينكسر الإيقاع فأضاف الكلمة حتى تصل الجملة بالكلام. فالحس الجمالي لا يفارقه.

«فلما رأيا ذلك خافا وطلعا إلى أعلى الشجرة وكانت عالية وصارا ينظران ماذا يكون الخبر وإذا بجني طويل القامة عريض الهامة واسع الصدر على رأسه صندوق فطلع إلى البر وأتى الشجرة التي هما فوقها وجلس تحتها وفتح الصندوق وأخرج منه علبة ثم فتحها فخرجت منها صبية غراء بهية كأنها الشمس المضيئة».

ها هما صوتان جديدان (وبالصبية يلعب الفنان بعواطفنا) سرعان ما سيختفيان بعد أن يتكرر حدث الخيانة للمرة الرابعة، وتكون الحركة الأولى من السيمفونية قد تمت. ينام الجني فتكشف الفتاة مكان الرابضين فوق الشجرة. فتأمرهما بالنزول وتطلب منهما أن يمارسا معها الحب وإلا أيقظت الجني، فيترددا ولكنهما يفعلان في النهاية. «فلما فرغا قالت لهما قفا وأخرجت لهما من جيبها كيسا وأخرجت لهما منه عقدا فيه خمسمائة وسبعون خاتما فقالت لهما أتدرون (كذا) ما هذه فقالا لها لا ندري فقالت لهما أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة قرن هذا العفريت فأعطياني خاتمكما أنتما الاثنان الآخران فأعطياها من يديهما خاتمين». وإذا عدنا لنستعيد حادث الخيانة نجد أنه في المرة الأولى قد حدث بين شخصين، بين زوجة شاه زاد وعبدها، وفي المرة الثانية حدث بين عددين، بين جواري شهريار وزوجته وعبيده ومسعود، ويتكرر هذا المشهد في المرة الثالثة، ثم هذه المرة الأخيرة، حيث يتكرر بين الملكين وهذه الفتاة وفي حضور الجني ؛ وهذا ما أسميناه تكرار اللحن بصورة مختلفة كل مرة، وما دفعنا لتشبيه هذا العمل بميلودي السيمفوني. وعلي أي الأحوال فإن كل هذا مجرد تمهيد، تمهيد لحكاية شهريار الأساسية، حتى نتقبل ما فعله بعد ذلك، بعد أن آمن بأن كل امرأة هي خائنة، وحتى يكون منطقيا، (من السياق) أن يأتيه وزيره كل يوم بفتاة، «كل ليلة، يقضي بكارتها ثم يقتلها» وحتى يكون منطقيا أن تدخل إلينا شهرزاد لتأخذ مكانها من الملحمة.

يقول الراوية: «فلما سمعا منها هذا الكلام تعجبا غاية العجب وقالا لبعضهما إذا كان هذا عفريتا وجرى له أعظم مما جرى لنا فهذا شيء يسلينا ثم أنهما انصرفا من ساعتها عنها ورجعا إلى مدينة شهريار ودخلا قصره ثم أنه رمى عنق زوجته وكذلك أعناق الجواري والعبيد «ويختفي» «شاه زمان» من الكتاب كما اختفى أبوه من قبله في بساطة ويسر شديدين. يختفي صوت آلة من الأوركسترا الشعبي حتى يتجدد اللحن بدخول جديد.

ـ 2 ـ

تدخل إلينا شهرزاد من قصة أخرى غير قصتها الشخصية..

فأبوها هو وزير الملك شهريار المكلف بإحضار فتاة كل ليلة، بعد أن عزم الملك عل الانتقام من جنس النساء. يقول راويتنا: «وصار الملك شهريار كلما يأخذ بنتا بكرا يزيل بكارتها ويقتلها من ليلتها ولم يزل على ذلك مدة ثلاث سنوات فضجت الناس وهربت ببناتها ولم يبق في تلك المدينة بنت تتحمل الوطء ثم إن الملك أمر الوزير أن يأتيه ببنت على ما جرى عادته فخرج الوزير وفتش فلم يجد بنتا فتوجه إلى منزله وهو غضبان مقهور خائف على نفسه من الملك وكان الوزير له بنتان ذاتا حسن وجمال وبهاء وقد واعتدال، الكبيرة اسمها شهرزاد والصغيرة اسمها دنيا زاد». ولنلاحظ هذه «المقابلة» التي تشكل أحد ملامح أسلوب فناننا. فنتذكر مما سلف أن «الوزير» هنا، يقابل «الملك» الأب والد شهريار والابنتان تقابلان الابنتين. وكما اختفى الأب هناك، سيختفي الأب هنا، وإن يكن بعد وقت. وكما اختفى الأخ الأصغر «شاه زاد» هناك ستختفي الأخت الصغرى «دنيا زاد» هنا أيضا بعد أن تكون قد أدت مهمتها كشخصية شاهدة أي مجرد عامل مساعد سيتخلص منها الفنان بعد وقت، بعد أن تكون دائرة ترديد الأصوات قد اكتملت، بعد تبادل أصوات بارع الأداء. تدخل شهرزاد بقولها لأبيها: «مالي أراك متغيرا حاملا الهم والأحزان» ثم تسرد له بيتين من الشعر (نلاحظ أنها كانت قد قرأت الكتب والتواريخ كما قال لنا من قبل) عن الهم والأحزان، فيحكي لها حكايته مع الملك، فقالت له بالله يا أبت زوجني هذا الملك فأما أن أعيش وإما أن أكون فداء لبنات المسلمين» فيرفض قائلا: «أخشى عليك أن يحصل لك ما حصل للحمار والثور مع صاحب الزرع، فقالت وما الذي جرى لهما يا أبت». وهنا تدخل قصة جديدة من قصص المقدمة، هي قصة الحمار وصاحب الزرع. فهل لهذه القصة ضرورة فنية؟. هل هي مبررة؟.

وكيف وضعها الراوي في السياق؟ إننا سنرى بعد قليل. قال الوزير: «اعلمي يا بنتي أنه كان لبعض التجار أموال ومواشي وكان له زوجة وأولاد وكان الله تعالى أعطاه معرفة سن الحيوانات والطير.. وكان عنده في داره حمار وثور فأتي يوما الحمار إلى مكان الثور فوجده مكنوسا مرشوشا وفي معلفه شعير مغربل وتبن مغربل وهو راقد مستريح.. فلما كان في بعض الأيام سمع التاجر الثور وهو يقول للحمار هنيئا لك ذلك أنا تعبان وأنت مستريح.. وأنا دائما للحرث والطحن» فنصحه الحمار بأن يمتنع عن الأكل حتى يمرض ويتحايل بذلك عن عدم خروجه إلى العمل، ولكن الصاحب كان يستمع فأمر بأن يستبدل الحمار بالثور ليعمل في الحقل مكانه، وندم الحمار أشد الندامة على نصيحته، وتحايل مرة أخرى قائلا للثور: «قد سمعت صاحبنا يقول إن لم يقم الثور من موضعه فأعطوه للجزار ليذبحه ويعمل جلده قطعا.. فلما سمع الثور كلام الحمار شكره وقال في غد أسرح معهم، كل ذلك والتاجر الذي أعطي سر معرفة لغة الحيوان يسمع ما يجري. فلما رأى الثور يخرج إلى الحفل ضحك حتى استلقى على قفاه. وهنا تتدخل زوجته: فقالت له.. من أي شيء تضحك؟.. فأبى أن يحكي لها فيكشف عن سره ويموت. ولكنها بكت وأصرت. فتحير وأحضر أولاده وأرسل أحضر القاضي والشهود استعدادا للموت من أجل خاطر زوجته. «لأنه كان يحبها محبة عظيمة» كما يقول الراوية، وقد حاول الأهل والأصدقاء أن يمنعوها من استماع الحكاية حرصا على حياة زوجها، لكنها أصرت، فاستسلم التاجر لقدره وذهب ليتوضأ حتى يموت طاهرا، و.. كان عنده كلب وديك ضاحك، فسمع التاجر الكلب يقول للديك أنت فرحان وصاحبنا رايح يموت، فقال له الديك والله إن صاحبنا قليل العقل أنا لي خمسون زوجة أرضي هذه وأغضب هذه وماله إلا زوجة واحدة ولا يعرف صالح أمره معها فما له إلا يأخذ لها بعضا من عيدان التوت ثم يدخل إلى حجرتها ويضربها حتى تموت أو تتوب» فسمع التاجر هذا الاقتراح ونفذه على الفور.

وهذه هي حكاية الحمار والثور مع صاحب الزرع التي حكاها الوزير البنته شهرزاد، ولا يجد قارئ الليالي مبررا منطقيا ومعتدلا يجعل شهرزاد تقتنع بنصيحة أبيها عن طريق هذه الحكاية، لأن دلالتها لا توحي بذلك، وهي وإن دلت على شيء فإنما تدل على أن المرأة لا يستقيم حالها إلا بالضرب بأعواد التوت، ومع ذلك تظل براعة الفنان الشعبي في «القطع» و«الوصول» و«دخول» الشخصيات والحيوانات إلى أرضية القصة بارعة، والانتقال من مكان إلى آخر ومن زمن إلى زمن ومن لحظة في الذاكرة إلى لحظة أخرى من مقدمات أدواته ومن الأسس التي تجعل الاستماع إلى مثل هذه القصص محببا إلى النفس، ولكننا قد نكون مخطئين، فربما كان الوزير يهدد ابنته بالضرب، وربما كان قصد الفنان أن يوضح لنا بهذه الحكاية درجة الإصرار لدي إبنة الوزير لأن تذهب وتتحدى الملك، وتخلص بنات جنسها من سطوته.. أو.. ربما كانت مجرد استطراد، مجرد لعبة تكنيكية لتعبيد الطريق وتمهيده للوصول إلى الليالي. وافق الوزير أخيرا أن تذهب ابنته شهرزاد، التي «أوصت أختها الصغيرة وقالت لها إذا توجهت إلى الملك أطلبك فإذا جئت عندي ورأيت الملك قضي حاجته مني فقولي لي يا أختي حدثينا حديثا غريبا نقطع به السهر وأنا أحدثك حديثا يكون فيه الخلاص».

وهكذا فإن فناننا يطلب منذ البداية الخلاص لشهرزاد ولبنات جنسها بالتالي، بكل الثمن، مضحيا بالمنطق العادي الذي يتمسك به البعض نفاقا، فكيف يمكن أن ينام الملك مع شهرزاد وأختها تحت السرير مثلا؟. إن هذا قد لا يكون واقعيا، ولكن الفنان يريد الوصول إلى الهدف، فوجود الأخت الصغرى تحت السرير مبرر بأنها هي التي ستطلب الاستماع لحكاية يقطعون بها السهر، فلا بد أن الفنان قد فكر في سخف أن تطلب شهرزاد نفسها من الملك أن تحكي له حكايات. لأنه، جريا على عادته، لم يكن يفكر إلا في فض بكارة الفتيات وقتلهن، أي الانتقام من الخيانة. وهكذا يجبرنا السياق على أن نفكر بأن هذه الحيلة البارعة قد اخترعها الفنان من أجل التخلص من هذه الموقف أو المأزق، وربما أراد أن يؤكد الحيلة التي لجأت إليها شهر زاد بالتخلص من روح الانتقام التي تتأجج في روح الملك. من أجل ترويضه من سيطرة عادة استمرت ثلاث سنوات، كي يعود إنسانا سويا، فحادثة الخيانة، نعم، لم تكن سهلة ويسيرة كي ينساها، وكان من الصعوبة بمكان حبك خيوط العمل بدون حيلة فنية كهذه، وبالفعل، فبعد أن أخذ الملك بكارة شهر زاد جلسوا يتحدثون: «قالت لها أختها الصغيرة بالله عليك يا أختي حدثينا حديثا نقطع به سهر ليليتنا فقالت حبا وكرامة ان أذن لي هذا الملك المهذب فلما سمع ذلك الكلام وكان به قلق ففرح بسماع الحديث».

وإلى هنا تنتهي حكايات المقدمة، لتبدأ حكايات الليالي، بعد الحركة الأولى من السيمفونية الشعبية التي تشعبت بنا بين حكايات متعددة وأصوات متقابلة لتبدأ الليلة الأولى، بحركة جديدة، وأصوات أخرى. إن ألف ليلة وليلة هي بالفعل رواية أصوات، يجب علينا نحن الروائيين العرب أن نتعلم منها الكثير.

***
حكاية التاجر مع العفريت

بداية ذي بدء، لا بد أن نلاحظ ونحن نقرأ الأسطر الأولى من الليلة الأولى، أننا أصبحنا ـ بعد حكايات المقدمة ـ داخل إطار الليالي نفسه، فنحن لا ننسى أننا نقرأ ألف ليلة وليلة التي تحكيها شهر زاد للملك شهريار، وأنها مجموعة من الحكايات المختلفة، وأن براعة الراوية تتمثل في بساطته المتناهية في القطع والوصل والدخول والخروج من حكاية إلى أخرى، وقد وضع أمامه هدفا أساسيا: أن تستمر شهرزاد في الحياة، وهي تحكي، مسيطرة على وجدان شهريار، حتى انتصرت في حربها ضد روح الانتقام، وما أنبله من هدف إنساني. ومنذ الآن يتحدث الراوية، في الأغلب الأعم، على لسان شهر زاد، وإن كان يطل برأسه عند نهاية كل ليلة وبداية أخرى، ثم لا نشعر به كثيرا إلا عند لازمة: «وفي ليلة رقم كذا قالت بلغني أيها الملك السعيد ـ» وعند نهاية الليلة حيث يقول الراوية: «وأدرك شهر زاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح». يجب أن نذكر ذلك الإطار ولا ننساه ونحن نتدارس هذا التكنيك البسيط، الذي استخدمه رواة القصص الشعبية طوال العصور الوسطى، ولكن أسلوب الليالي يدخل بها إلى قلب التاريخ دون منازع، فجاءت عندما دونت علي هذه الصورة التي نراها الآن على درجة كبيرة من الحرفية والذكاء واللماحية والانضباط، حتى في عصرنا الذي تقدمت فيه أساليب الكتابة تقدما هائلا.

ها هي ذي حيلة شهر زاد وقد نجحت، ونحن نضع ـ معها ـ أيدينا علي قلوبنا حتى فترة متقدمة من الليالي، فاستجاب الملك لرغبة الأخت الصغرى في الاستماع إلى حكاية، «لأنه كان عنده قلق» فأخذت شهر زاد تحكي والأخت والملك يستمعان.. ونلاحظ أن الأخت هنا مجرد حيلة فنية أيضا، سوف تخرج من الصورة، وبالبساطة المعهودة دون أن نشعر، وها هي ذي شهر زاد، في النهاية، توجه حديثها للملك: «ففي الليلة الأولى قالت بلغني أيها الملك السعيد أنه كان تاجر من التجار كثير المال والمعاملات في البلاد وقد ركب يوما وخرج يطالب في بعض البلاد فأشتد عليه الحر فجلس تحت الشجرة وحط يده في خرجه وأكل كسرة كانت معه وتمرة فلما فرغ من أكل الثمرة رمى النواة»..

يقينا أننا لا يمكن أن نتجاهل هذه المقابلة بين كون التاجر، كثير المال والمعاملات، وبين أكله كسرة وثمرة، الأمر الذي لا يمكن أن يكون منطقيا إلا في سياق رغبة الراوية في استحضار الحدث، فالراوية يريد من التاجر أن يلقي بالنواة، وهذا كل ما في الأمر. «رمي النواة وإذا هو بعفريت طويل القامة وبيده سيف فدنا من ذلك التاجر وقال له قم حتى أقتلك مثل ما قتلت ولدي فقال له التاجر كيف قتلت ولدك قال له ما أكلت الثمرة ورميت نواتها جاءت النواة في صدر ولدي فقضي عليه ومات من ساعته». فنحن إذن مع التاجر والعفريت، ولا ننسى عفريت حكاية الخيانة الماضية، وتحت شجرة أيضا، وفي حكاية جديدة، حيث ننفصل عن الحكاية الأساسية، بين شهريار وشهر زاد، لندخل في حكاية جديدة، تدخل هي أيضا في حكاية أخرى كما سنرى.

حتى ننفصل عن وجودنا كله تحت عدة طبقات.

ماذا يفعل التاجر في موقف كهذا؟. ليس أمامه سوى الاستسلام، لكنه قال: «إعلم أيها العفريت أني عليّ دين ولي مال كثير وأولاد وزوجة وعندي رهون فدعني أذهب إلى بيتي وأعطي كل ذي حق حقه ثم أعود إليك ولك علي عهد وميثاق أني أعود إليك فتفعل بي ما تريد».. فأستوثق منه الجني وأطلقه فرجع إلى بلده وقضى جميع تعلقاته وأوصل الحقوق إلى أهلها وأعلم زوجته وأولاده بما جرى له فبكوا وكذلك جميع أهله ونساءه وأولاده وأوصى وقعد عندهم إلى تمام السنة ثم توجه وأخذ كفنه تحت إبطه وودع أهله وجيرانه.. وأقيم عليه العياط والصراخ فمشى إلى أن وصل إلى ذلك البستان وكان ذلك اليوم أول السنة الجديدة «وهنا يدخل علينا شخص جديد، فالرواية لا يريد لأنفاسنا إلا أن تتواصل، شيخ كبير يقبل على التاجر ومعه غزالة مسلسلة ويسأله عن سر جلوسه في هذا المكان الموحش وسبب بكائه فيخبره بما جرى له مع ذلك العفريت. فتعجب الشيخ صاحب الغزالة وقال والله يا أخي ما دينك إلا دين عظيم وحكايتك حكاية عجيبة «ثم أنه جلس بجانبه حتى ينظر ما يجري له مع ذلك العفريت وإذا بشخص آخر يدخل الحكاية» شيخ ثان أقبل عليهما ومعه كلبتان سلاقيتان من الكلاب السود فسألهما بعد السلام عليهما عن سبب جلوسهما في هذا المكان وهو مأوي الجان فأخبراه بالقصة من أولها إلى آخرها فلم يستقر به الجلوس حتى أقبل عليهم شيخ ثالث ومعه بغلة زرزورية فسلم عليهم وسألهم عن سبب جلوسهم في هذا المكان فأخبروه بالقصة من أولها إلى آخرها. وهكذا يتأكد أسلوب التكرار، تكرار ورود الأشخاص بالتتابع انتظارا للحدث، وتكرار الجمل التي تعيد على الذاكرة بداية الحكاية كل مرة بإلحاح، وفي هذا ما فيه من التأثير على الذاكرة التي تظل متوترة ومترقبة للحدث القادم. إنه أسلوب للتمهيد على الرغم من بساطته إلا أنه نافذ المفعول إلى حد كبير، لكنه، من جهة أخرى، أسلوب خطر، فهو يقف بالفنان على حافة الإملال، الذي يتجاوزه فناننا ببراعة وانضباط. ونستمر فإذا «بغبرة هاجت، وزوبعة عظيمة قد أقبلت» وهنا نتذكر:

ـ تلك الزوبعة التي هاجت عندما ظهر العفريت الأول في قصة شهريار وأخيه شاه زمان عندما رحلا يبحثان عما إذا كان قد حدث لغيرهما مثلما حدث لهما.

ـ ونتذكر تلك الشجرة التي جلسا تحتها.

ـ ونتذكر مرة ثالثة أنهما كانا راحلين وأن التاجر كان راحلا. أي أن هناك ثلاث تيمات متشابهة في الحكايتين، إنه تعامل مع تكرار أجزاء من القصة تطورت أو تحورت في المرة الأخرى، والمقصود في كل الأحوال هو التعامل مع الذاكرة كما سيتضح لنا طوال القراءة. «فانكشفت الغبرة وإذا بذلك الجني وبيده سيف مسلول وعيونه ترمي بالشرر فأتاهم وجذب ذلك التاجر وقال له قم لأقتلك مثل ما قتلت ولدي وحشاشة كبدي فأنتحب ذلك التاجر وبكي وأعلن الثلاثة شيوخ بالبكاء والعويل والنحيب فأنتبه منهم الشيخ الأول وهو صاحب الغزالة وقبل يد ذلك العفريت وقال له يا أيها الجني وتاج ملوك الجان إذا حكيت لك حكايتي مع هذه الغزالة ورأيتها عجيبة أتهب لي ثلث دم هذا التاجر قال نعم أيها الشيخ إذا حكيت لي الحكاية ورأيتها عجيبة وهبت لك ثلث دمه». وإلى هنا يكاد المرء يتوقع النهاية، نجاة التاجر مثلما نجى التاجر صاحب الثور والحمار الذي كان هو أيضا قد تهدده الموت فهؤلاء ثلاثة رجال سيوهب كل منهم ثلث دم التاجر وينتهي الموقف بنجاته. ولكن، وهنا يتأكد لنا الأسلوب الذي بدت ملامحه تتضح أكثر فأكثر ـ لا يدعنا الراوية نلتقط الأنفاس حتى يدخل بنا إلى قصة جديدة. هي قصة صاحب الغزالة: ويحكي الشيخ صاحب الغزالة: إعلم أيها العفريت أن هذه الغزالة هي بنت عمي ومن لحمي ودمي وكنت تزوجت بها وهي صغيرة السن وأقمت معها نحو ثلاثين سنة فلم أرزق منها بولد فأخذت لي سرية فرزقت منها بولد ذكر كأنه البدر إذا بدا بعينين مليحتين وحاجبين مزججين وأعضاء كاملة فكبر شيئا فشيئا إلى أن صار ابن خمس عشرة سنة فطرأت لي سفرة إلى بعض المدائن فسافرت بمتجر عظيم وكانت بنت عمي هذه الغزالة علمت السحر والكهانة من صغرها فسحرت ذلك الولد عجلا وسحرت الجارية أمه بقرة وسلمتها إلى الراعي ثم جئت أنا بعد مدة طويلة من السفر فسألت عن ولدي وعن أمه فقالت لي جاريتك ماتت وابنك هرب ولم أعلم أين راح فجلست مدة سنة وأنا حزين القلب إلى أن جاء عيد الضحية فأرسلت إلى الراعي أن يخصني ببقرة سمينة فجاءني ببقرة سمينة وهي سريتي التي سحرتها تلك الغزالة «فيذبحها ولكنه لم يجد بها شحما ولا لحما فيأتيه الراعي بولده المسحور عجلا ولكنه يبكي بين يديه فتأخذه الرأفة به، ونتابع النص: «وقلت للراعي ائتني ببقرة ودع هذا وأدرك شهر زاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح فقالت لها أختها ما أطيب حديثك وألطفه وألذه وأعذبه فقالت لها وأين هذا مما أحدثكم به الليلة القابلة إن عشت وأبقاني الملك فقال الملك في نفسه والله ما أقتلها حتى أسمع بقية حديثها ثم أنهم باتوا تلك الليلة إلى الصباح متعانقين فخرج الملك إلى محل حكمه وأطلع الوزير بالكفن تحت إبطه ثم حكم الملك وولى وعزل إلى آخر النهار ولم يخبر الوزير بشيء من ذلك فتعجب الوزير غاية العجب ثم انفض الديوان ودخل الملك شهريار قصره. وعلى الرغم من أن النص يقول لنا (عند الوقفة المفاجئة في المكان الذي تعمدت أن تقف عنده شهر زاد وحتى يشتاق الملك إلكمال القصة وهو مكان مختار بعناية) يقول: «وأدرك شهر زاد الصباح» فنظن أن الصباح قد طلع وانتهت الليلة الأولى، لكنه يعود فيقول: «ثم أنهم باتوا تلك الليلة إلى الصباح متعانقين» وفي هذا ما فيه من التناقض الواضح إلا أن المرجح أن المقصود بالصباح في هذه المرة الأولى هو ظهور الخيط الأول من الضوء، والمقصود بالصباح في المرة الثانية انتهاء الصباح كله، وقد لا يكون هذا التبرير كافيا حقا إلا أن القارئ يمر على هذا التناقض دون أن يحس به، الأمر الذي سيتكرر كثيرا طوال الليالي، والأهم أننا نظل في إطار هذا العالم الخيالي الرحب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*من كتاب (البستان والراديو)/ عبده جبير.

**كتبت هذه القراءة عام 1978م ومن بعدها نشرت العديد من الكتب الدراسية لألف ليلة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى