عمر حمداوي - من أمر بضعهما في الزنزانة

جمع حقيبته وتوجه نحو السوق الأسبوعي لعرض بضاعته أخرج كل مافيها من أشياء يمكن بيعها للزبائن ظل جالسا في مكانه يرتقب المشترين الذين عز جلبهم إلى المكان كان يرقب تصرفات الناس وانهماكهم في المشكلات التي تخصهم كل شخص يتحرك بدافع ماسيعود عليه بالمنفعة لكل طريقه الذي لا بد عليه أن يجتازه حسب المصلحة هذه أكبر ملاحظة إستطاع أن يكتشفها في مهمة الدخول إلى السوق قضى وقتا طويلا دون أن يقبل عليه أحد أو يسأله عن ثمن ما يعرضه من بضائع لم يشعر بالغضب ولم يحز في نفسه شيئ من هذا القبيل الذي غالبا ما ينزعج منه من لم يرزق حكمة الصبر وكان بقربه تاجر يبيع اللوز في أكياس كل كيس به صنف مختلف الحجم صغير وكبير حلو ومر وعلى قدر الجودة المعروف بها يكون الثمن أيضا وكان الرجل ممتعضا مكفهر الوجه ظاهر عليه الغضب رغم أن صورته لا تجعلك تكون عليه هذه الفكرة المتعصبة القلقة إشترى من الفلاحين أكثر مما باع
كانوا يأتون إليه بأكياس يزنها ثم يفرغها ويكومها على بساط واسع ونظيف ظل حتى الظهر ولم يسعد بالأرباح طيلة ذلك اليوم اشتكى من تدهور حال التجارة وأستطيع أن أقول أن ذلك الإحساس كان يراود الجميع دون إستثناء كانت الحالة معدية أصابت التجار في مدخولهم مما نفرهم و كرههم في العمل الذي يزاولونه من دون الحصول على فائدة خاصة وأن منهم من يأتي إلى السوق مع الفجر أو قبله فكيف يحتمل التقلبات ومنهم من تفسد بضاعته إذا لم تنفق في ظرف يوم أو يومين فترى علامة البؤس بادية على وجههم من أثر فداحة تكلفة الخسارة المترتبة جراء التلف الذي سيصيب منتوجهم إلى غير ذلك من مثل هذا الكلام الذي تسمعه كثيرا منهم جميعا حتى يصيبك الحزن الذي يصيبهم مهما ادعيت عدم المبالاة لأي شيئ
عاد إلى نفسه ووجد مشكلته أكبر منهم ولكنه لا يتسرع إليه الضجر مثلهم فهو مختلف عنهم في قبول و رفض مشاعر الهزيمة لأنه مولع بالتحدي ويعتبر أن مهمة الإنسان الأولى تقع في مواجهة كل ما يعترض سبيله وأن عليه ألا يكون سلبيا حتى لا يقع في الضعف الذي يستنزف منه قوته وجهده تقول لك إبتسامته أن لا وجود لأي مشكلة صعبة في حياته فهو قادر على تخطي وتجاوز وقطع المراحل بكل شجاعة وثبات ويقين صفاة لا يعلم من أين إكتسبها المهم أنها ألهمته ما يسعفه ويساعده على التحكم في ذاته وأن الهزات المزلزلة لا تضعضع كيانه لقد طور من نفسه حتى بدى متماسكا وما زال يأمل الأفضل في المستقبل وإن كانت الظروفه المعقدة تنبئ أنها لا تسمح بذلك ولن تسمح بالإنفراج قريبا غض طرفه وساير زمانه وساق الأمثال الساخرة من وضعه ووضعهم وتغنى في سريرته بضرورة التشبث بالأمل وحتى وإن ظهر للعيان جثمانا ميتا في صورة هامدة وبينما هو منشغل بالتفكر في مثل هذه الأمور إذ بصديق له قديم يسلم عليه فيرد عليه التحية بأحسن منها وينشرح صدره أكثر بالتحدث إليه سافروا إلى أزمنة بعيدة وعبروا بحورا ودولا و شرحوا مجتمعات واتفقوا على أن البلاد لا يمكن أن ترقى حقوقيا واقتصاديا من دون عقول ناضجة تحكمها فالتسيير يحتاج إلى عقول غنية بالعلم كما قال بذلك فلاسفة اليونان القدماء
وهذا غير موجود الآن على الساحة العربية كلها وبينما هم مهتمين بالحوار فيما بينهما وكان الوقت قد أوشك على مغادرة السوق و بدأ يعلن عن إنفضاضه شيئا فشيئا إذا في تلك الأثناء تتوجه نحوهم سيارة رباعية وتصعد فوق الرصيف على مهل وبهدوء ويطلب منهم السائق أن يسمحا له بركنها تحت ظل الشجرة التي هم تحتها قعود وهو يعرف أنهما يستغلان ظلها من مدة وخاصة التاجر الذي لولاها لما استطاع مزاولة عمله في جو مريح تبسما في وجهه لأنه شيخ طاعن في السن ورأسه الكثيف الشعر إشتعل شيبا وانصرفا من مكانهما وفسح له المجال وعندما هم بالنزول من سيارته قال له التاجر أهلا بك ياشيخنا إعلم أنه لو لم تشفع لك سيارتك الجميلة الباهضة الثمن لما سمحنا لك أو لها بأخذ مكاننا فهذا الإنسحاب تم لأجل ذوقك الممتاز الرفيع أفرج الشيخ من شفتيه عن نصف إبتسامة و تكلم بسرعة قائلا أنا أعتذر لم أقصد إزعاجكما واستطيع العدول عن رأي قد أكون أخطأت فيه ولم أشعر إلا بعد فوات الأوان من الممكن إصلاح الخطأ ضحك التاجر وقال لا تأخذ القضية بالجدية لا نعني ما قلناه إلا على سبيل المزاح فعرفهم بنفسه وزكاها وشكر ها كثيرا وأظهر تاريخ طيبوبته في حسن التعامل مع المواطنين وذكر زمن توليه المسئوولية بمصلحة خدمة الضرائب لم ينكرا عليه ما أبداه من أدب وإن أحسا أنه جاء متأخرا في غير محله وفي غير وقته
لعلمهما أن كل موظف حين يحال على التقاعد يقول مثلما قال صاحبنا دون زيادة أ و نقصان هي أسطوانة تتكرر عبر الأزمان خرج الشيخ من سيارته وترك زجاج النافذة مفتوحا وقد ظنا أنه سوف يتركه ويمضي فقال له التاجر هل تنوي أن نحرسها لك سوف نسرق كل ما في داخلها من أشياء جميلة وثمينة إن وجدت طبعا أخرج الشيخ كرسيه وبدأ في طيه وهو يردد لا لا مازلت قاعدا هاهنا بعض الوقت أغلق النافذة وجلس بقرب السيارة يستريح لم يكفيه الجلوس على مقعد السيارة الوثير فقرر القعود على كرسي على الأرض قال له في نفسه هل نأتيك بقهوة لتشعر بنشوة النصر ربما لم يكفك نهب المال العام الذي حصلته بممارستك للسلطة فقررت نهب كل شيئ تقدر عليه بواسطة لسانك المتلون و المتقلب في كل إتجاه قال لدي أصدقاء في السوق أريد رؤيتهم لم يطب ولم يطل الحديث معه فدخل السوق وفي يده كيس صغير من البلاستيك دليل على ذهابه لملئه بالخضر فاليوم يوم سوق
عاد في أقصر مدة وجد التاجر منهمك في جمع أشيائه المعروضة للبيع وضع الخضار في مؤخر السيارة وجلس على الكرس ليرتاح وليتأمل المشهد أمامه بنفس واثقة مطمئنة أسدى بعض النصائح وبدأ يتقبل الكلام الصبيان المتفكه بروح متفهمة عرف كيف يتعايش مع المرح والهزل رغم أن علامات الحرص و الوقار كانت بادية عليه ولكن فلسفة الحوار لتجديد الطاقة هي أيضا تحتاج إلى من يسردها على من حوله حتى تتجدد العزيمة وتنشط فالقلوب تمل من الجدية التي لاتعرف أي توقف
هكذا فسر له التاجر قبل فراقه ورحيله من المكان الذي ترك فيه الشيخ تحت الشجرة لوحده
ولكن المفاجأة أن الشيخ إختفى في طرفة عين واختفت معه السيارة مما دفعهما إلى إستغراب الموقف حمل التاجر الحقائب في سيارته وأردف بجانبه صديقه ثم قصدا مركز الشرطة صعدا الدرج ودخلا بهوا وجد عليه مقاعد للإنتظار جلسا حتى طلب منهما احدى رجال الشرطة معرفة سبب ما جاءا من أجله قال صديق التاجر ياسيدي حصلت معجزة في زمننا لم تكن متوقعة قال الشرطي و ما هي وما نوعها بالتفصيل والتدقيق من فضلك قال كنت أنا و صديقي في السوق نتناقش في حوار بيننا فإذا بشيخ جاء في يقود سيارته ونزل وطلب منا إخلاء المكان فاستجبنا له ونزل في صورة آدمية وحدثنا باللغة العربية التي نعرفها وإذا به بعد فترة قصيرة جدا لم نجده أمامنا قال الشرطي يعني ماذا طار قالا نعم إختفى لم نعد نبصر شيئا كأننا كنا نحلم أو هكذا خيل إلينا قال لهما إجلسا لي معكما كلام سوف أستدعي الشاف في الحال ليستمع إلى أقوالكما وانصرف ثم أن شرطيا آخر كان يقلب في الأوراق على المكتب المجاور يسترق السمع ولا يهتم أو يبالي للحديث المروع الذي يقصان على زميله في المهنة أتى المسئوول الكبير استمع إليهما وأمر بزجهما في الزنزانة حتى ينظر في المسألة دخلا خلف القضبان وهما يتعجبان مما يجري وفي تلك اللحظة أبصرا الشرطيان ورئيسهما يختفيان عن أبصارهما فرك عينيهما غير مصدقين ما يجري كاد يتهمان يعضهما بالجنون فخافا وصمتا إلى حين بعد برهة جاء رجال شرطة آخرين لمزاولة عملهم في صورة عليها الوقار والإنضباط تفقدوا مكاتبهم وساروا جيئة وذهابا من مكتب لآخر دخل الناس لقضاء أغراضهم أو لتقديم شكاياتهم نشط المكان نساء وأطفال ورجال كل شيئ يبدو عاديا كما في كل الأوقات السابقة التي عرفا جوها المطمئن سألهم عميد الشرطة ما سبب وضعكما هنا في الزنزانة قالا له أصدقائكم ياسيدي قررا إحالتنا إلى هنا حتى ينظرا في شأننا ثم تركونا وذهبوا إلى حال سبيلهم من غير إخبارنا بأي شيئ حتى جئتم أنتم ونحن نرجو العفو عنا وإطلاق سراحنا طلب ممن كانت نوبته في المراقبة وتسيير العمل فوجدوه نائما في مكتبه موصدا باب مكتبه صرخوا عليه لينهض لم يسمع فاضطروا إلى تحريكه من كتفيه ورأسه لينهض وفعلا تثائب وكأنه في بيته على سرير نومه تفاجأ لما شاهد العميد يقف أمامه قال له من أحضرك إلى غرفة نومي ياسيدي ما ذا تفعل هنا دون إخباري بزيارتكم حتى أكون على علم وعلى إستعداد للقائكم اسمحلي أفق يا أحمد نحن لا نتواجد ببيتك أنت هنا في المركز كيف تنام وتترك عملك ماذا تقول لست أفهم ما يجري أنا في بيتي أم أحلم يا عم أحمد وهذان الخشصان ما سبب وضعهما في الزنزانة قال لا أديري ولا أعرف عنهما أي شيئ طلب من الشرطة إخراجهما وإحضارهم فورا ومعهم الشرطي ليتقابلوا مع معضهم سردا عليه القصة من بدايتها حتى اللحظة التي هم فيها الآن تعجب كل رجال الشرطة وقالوا هذا أمر عجيب لا يصدق وتكلم الشرطي عم أحمد بكلام مطابق لأقوالهم وقال طيلة الوقت وأنا أتعامل مع من يشبهونكم بينما في الواقع لم يكونوا أنتم كانوا غيركم إنهم رجال الفضاء و ربما يخططون لغزو الأرض علينا أن نكون على أهبة الإستعداد لما يراد بنا
خرجا الصديقان عادا ناحية السوق فوجدوه فارغا لا أحد فيه وكان قبل قليل يضج بالناس الآتون من كل حدب وصوب أوصل التاجر صديقه إلى حد باب منزله ثم ودعه و توجه بدوره إلى بيته وهو يخمن في ما وقع ويحمد الله في نفسه على أن حفظهم الله من كل المخاطر دون أن يتعرض أي فرد منهم إلى ضرر أو سوء فالكل على ما يرام لحدود الساعة وبدأ يفكر كيف يحكي قصته هذه التي لن يصدقها من لم يشهد الوقائع ولم يمر بتجربة ذاتها .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى