فاتن فاروق عبد المنعم - ورقة سيلوفان

اليوم أسيرُ كالفراشة الزاهية الألوان ، أقطفُ من بساتين البهجة ، أزهى ورودها ، تخفَّفْتُ من سنوات عمري السبع والعشرين ، منها عشر سنوات ، مكبَّلَة بهذا القيد ، الذي يربطني من أعلى نقطة في رأسي ، إلى أطراف أصابع قدمي ، مفردات جديدة أنثرها على جسدي ، الذي ظَلَّ محتجباً عن العيون، لم تعد لكلمات معلمتنا ، ذلك الأثر الذي كان يملأ علىَّ خواطري : " الحجاب يحجب الجسد والشعر ، عن الطبيعة القاسية ، التي تلقي بظلالها علينا ، فتظلين وضيئة ، مهما تقدم بك العمر" سرت في الشارع في طريقي إلى عملي، نعم أشعر كأنني أسير عارية ، تعتريني لبرهة ، رهبة من بعض العيون المتلصصة من حولي ، شيئاً فشيئاً تخلصت من هذا الشعور ، بجرأة لم أكن أتصورها من قبل . لم أستطع أن أتخلص ، من رنين هذه الكلمات في أذني : " يابنات الحجاب أمر إلهي لابد أن تمتثلن وتذعنَّ لأمر الله ، فالحياة قصيرة ، ومتاعها زائل " . فلم أبالي ، الآن وملابسي مكتنزة، أستمتع بأنوثتي ، - تلك التي كانت مقموعة - ، بقوامي الممشوق المنسق، بنظرات العيون التي تكاد تلتهمُني . كنتِ مطفأةً ، قالها المدير ، وهو يتطلع في كل جزء من جسدي ، وفي جرأةٍ لم أعهدها منه من قبل : "الحجاب يطفيء المرأة ويقتل الإبداع" . والآن أمضي متألقة، متأنِّقة ، تتحرش بى العيون تارة ، وتلذعني الألسن تارة أخرى ، وكأني الأنثى الوحيدة ، في هذا العالم ، سيارتي الخاصة، كانت سياجاً ، منع الأيدي من أن تنال من جسدي ، رأيت الجوع النَّهِمَ ، في المتلصصين على نهدىَّ ، الرجراجين ، الذين يشبهان ، قطعة من الجلي ، على مائدة في قطار سريع ، والأرداف البارزة ، المحشورة بقسوة داخل بنطالٍ ضيقٍ ، أذعنَ لتعرجات قوامي ، كأنما هو جلدي بلون آخر ، وخصري الذي نحتته الملابس الضيقة ، وشعري المنساب ، يداعب وجهي ، من كل اتجاه ، أبتسم في سخرية ، وأنا أتذكر : " يا بنات : ما من رجل ينظر إلى امرأة بشهوة ، إلا وتخيلها عارية تماماً ، وعلى قدر مايتبدى منها، يستطيع أن يتخيل ما حجب عنه ، وتحملين وزره ووزر نفسك" تتحول الابتسامة إلى ضحكةٍ هازئة : ولو ! ، لن تبتزني نفوسهم المريضة، ولا نظرات كانت تقتلني فيما سبق ، ناضجة أنا بما يكفي ، مزهوة بجمالي ، لا أخجل منه ، مستمتعة بأنوثةٍ ، حُرمت منها لأكثر من ثلث عمري .
كَوْنِي فنانة تشكيلية ، جعلني قريبة من مجتمع المثقفين والفنانين ، أحضر ندواتهم ، استمع إليهم ، أحاورهم دون وسيط ، كتاب مستنيرون، وكاتبات جئن بحجابهن ، من الأقاليم ، فخالطن مجتمع المثقفين ، وأدركن أن الحياة ليست بهذه النظرة الضيقة ، فالألوان كثيرة ، وقابلة للتعايش ، ولا يوجد بها حدود هندسية جامدة، تخففن شيئا فشيئا مما اعتدن عليه ، وخلعن الحجاب وتحدثن وكتبن عن "الفكر الوهابي السلفي ، الذي نشر الظلام والجهل في مصر" ومواجهة المجتمع الذكوري ، وعلمن أن جواز المرور ، يتمثل في : كسر التابوهات ، كالكتابة في الجنس ، والدفاع عن الأقليات ، واتهام الإسلام من طرف خفي ، أو معلن ، بأنه سبب كل مانعانيه ، فانطلقن وتحولن إلى كاتبات مستنيرات ، تفتح لهن كل الأبواب.
إنها نبوءة رئيس لجنة التحكيم الأوروبي ، في مسابقة( ملكة الجمال ) والتي اشتركت فيها لأول ، مرة فتاة من تركيا ، بعد سقوط الخلافة العثمانية
" أوروبا كلها تحتفل اليوم بانتصار النصرانية ، لقد انتهى الإسلام ، الذي ظل يسيطر على العالم ، منذ ١٤٠٠عام، إن ( كريمان خالص ) ، ملكة جمال تركيا ، تمثل أمامنا المرأة المسلمة ، ها هي حفيدة المرأة المسلمة المحافظة ، تخرج أمامنا بالمايوه ، ولابد لنا من الاعتراف ، أن هذه الفتاة هي تاج انتصارنا." . ذات يوم من أيام التاريخ ، انزعج السلطان العثماني ( سليمان القانوني ) ، من فن الرقص ، الذي ظهر في فرنسا ، عندما جاورت الدولة العثمانية ، حدود فرنسا ، فتدخل لإيقافه خشية ، أن يسري في بلاده ، ها هي حفيدة السلطان المسلم تقف بيننا ولا ترتدي غير المايوه وتطلب منا أن نُعجب بها"
قلت لنفسي : وليكن، هذا تضخيم لحدث لا يستحق هذا التوصيف والتضخيم.
أتذكر كيف كان يقالُ لي : كيف تكونين فنانة ، وترتدين هذا الزي ؟ ، أنت تناقضين نفسك ، الفن والدين نقيضان، المرأة هوس يصيب البعض ، ألم تكن جدتك غير محجبة؟ وعاشت حياتها بصورة طبيعية ، ألا ترين حفلات أم كلثوم ؟ ، وهى تمتليء بهوانم ، برزن من علٍ لهذا العالم ، لم يكن قد ظهر مهوسون بعد ، فهل هؤلاء جميعهم سيلقون في الجحيم؟ ، أنت تدفنين نفسك ، وبهذا المظهر ، ستبقين في زجاجة مغلقة، الفن تمرد على كل شيء، دون التمرد لن تصبحي فنانة.
بادرني أحدهم ، بعد ما خلعت الحجاب : "وحجبتِ عنا كل هذا الجمال، أنا متأكد أن إبداعك سيكون مختلفاً ،الآن تحررت ، والفن لا يولد إلا من رحم الحرية"
وهذا يداعبني : " أنت نفسك أجمل بورتيريه رأيته، تمتعي بجمالك وأمتعينا ، أنت لست عورة ، ولا قطعة لحم بحاجة إلى غطاء، انفضي عن رأسك كل الوساخات ، التي ترسبت داخلك " ، تذكرينني بمقولة ( محمد عبده ) : "
إن كان لي حظٌا من العلم الصحيح ، فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين ، أكنس من دماغي ماعلق فيه من وساخة الأزهر ، وهو الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة"
أما هذا فراح يدغدغ مشاعري العطشى :
"مقاييس جسمك مثالية، قصيدة شعر تسير على الأرض، وأنا من سيكتبها" .
والكاتبة التي داست حجابها في مشهد ، منذ أعوام ، أقبلت متهللة :
"أخيرا ألف مبروك ، يدي بيدك نعمل ثورة على فتاوى التخلف ، ونقود مسيرة لكي تدوس كل امرأة هذا الحجاب ، الذي ألقاه عليها شيوخ الصحراء ، فحجب عقلها ، وروحها وشبابها، ونلفظ العنصرية ، وما ترسخ في عقول المسلمين ، من أنهم فقط من سيدخلون الجنة، أمامنا طريق طويل" . ....
بينما بكت أختي وحزنت ، وانهالت علي بالنصح ، تذكرني بما تعلمته ، ومحفوظاتي من آيات قرآنية ، وأحاديث نبوية ، فقلت لها بمنطق المهزوم :
" الحجاب ليس دليل العفة أو الكمال ، ثم إنَّني حريصة على أداء كل الفروض كاملة.
هزت رأسها في أسى ، وعلى محيَّاها ابتسامة ساخرة : " لقد هُزِمْتِ سريعاً ، وأنت بهذا المظهر الآن أيقونة الطهر والعفاف ؟! "
. بكيت ، لم أكن أدر ماذا أقول : "الحجاب كان معوقاً ، لي كثيراً ، وأنا أريد أن أكون" .
أعود لأنفض عن نفسي اتهاماتها : " ألا ترين المحجبات وحجابهنَّ ، لقد مسَخْنَهُ ، فكنَّ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " . .....
أصبحت أكثر تحرراً ، أنصت بلا حرج ، لمن يتحدث عن نوع الخمر الذي يفضله ، أو من يتحدث عن مزاجه الشخصي ، المتغير في النساء ، ويلمزني من طرف خفي برغبته "جس نبض" ، فأتجاهله ، وكأني لم أسمع.
أما زميلي الفنان ، الذي بارك لي هو الآخر ، فقد راح يرسم شخصاً، صبغه بملامح من الجمال الفائق ، بحجم كبير ، ومن خلفه أناسٌ كثيرون ، أجسامهم متناهية الصغر . - ماذا تعني بهذه الصورة؟
- إنه الشيطان محررنا الأول.
- لا أكاد أصدق ، قلت بدهشة : "محررنا" ؟! . أول مرة أرى الشيطان بهذا الجمال.
- نعم ، الأكلاشيه الساذج ، المحفوظ عنه أنه شخص دميم ، ونموذج منفر ، لكل أنواع الشرور في هذا الكون. لا ياعزيزتي : " الشيطان هو أجمل المخلوقات وأذكاها وظلمه الله"
أستبشع مايقول ، فأصاب بالوجوم.
الشيطان هو أول متمرد على الخضوع، هو أول الداعين إلى الديمقراطية والحوار، هو أول الداعين إلى التفكير الحر ، تماماً مثلما تمردت أنت مؤخراً . –
طأطأت رأسي أحسست ببوادر المهانة .
- لقد سبق كل المعارف ، والخبرات الإنسانية المتراكمة، هو من غرس البذرة الأولى ، لنقض التجبر والتسلط ، حتى لو كلفه ذلك الطرد من جنة ، لا جود لها إلا في رؤوسكم.
- حديثه الفج ، وقف عقلي عن التفكير : إذاً أنت تحب الشيطان؟
- ولماذا أكرهه؟
- ألا تؤمنُ بالله؟
- أنا مؤمن بوجود إله ، لكن هذا الإله لم يعد قادراً على إدارة هذا الكون.
- أحاول ابتلاع ريقي بعد أن أصاب حلقي الجفاف.
أحس بما اعتراني ، ووجدها فرصته ليجهز علىَّ تماماً :
- رهاني عليك في الفترة القادمة ، أن تتحرري من كل التعاليم الدينية ، الموروثة ،لأنك مارست "جريمة التفكير" التي أوعز لك بها معلمنا الأول.
استدرت دون استئذان وأنا أتمتم في نفسي بل أنا من تعاني عقدة الشعور بالذنب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى