د. علي خليفة - مسرحية السحب للشاعر الإغريقي أرسطوفان 446» ق.م - 386 - ق.م»

عرضت هذه المسرحية في حياة أرسطوفان سنة 423 ق.م، ولم تحقق نجاحًا كبيرًا؛ ولهذ أعاد أرسطوفان كتابتها من جديد، ووصلتنا بالصورة الأخيرة التي صاغها فيها أرسطوفان.
وتعد هذه المسرحية إحدى مسرحيات أرسطوفان الإحدى عشرة التي بقيت من مسرحياته، كما أنه لم يصلنا من الكوميديا الإغريقية القديمة غير مسرحيات أرسطوفان.
ومن أسباب شهرة هذه المسرحية بين مسرحيات أرسطوفان أنه تعرض فيها بالهجوم الشديد على الفيلسوف سقراط، وعده فيها زعيمًا للسوفسطائيين، ورماه فيها بالكفر بآلهة الإغريق التي كانت معروفة آنذاك.
وقد تمت محاكمة سقراط بعد عرض هذه المسرحية بنحو خمس وعشرين سنة، ووجهت له تهم شبيهة بالتي ألصقها به أرسطوفان في مسرحية "السحب"، فقد اتهم بأنه يفسد الشباب بأفكاره وتعاليمه التي تنافي التقاليد المحافظة، كما اتهم بأنه لا يُؤْمِن بآلهة الإغريق الوثنية، واستطاع سقراط بقوة حجته أن ينفي عن نفسه التهم التي وجهت إليه في هذه المحاكمة، ومع ذلك فقد حكم عليه بالموت، وكان يستطيع أن يستبدل بالحكم بالموت الحكم بأن يخرج منفيًّا خارج وطنه، وكان القانون الأثيني يسمح له بذلك، لكنه رفض أن يخرج منفيًّا خارج وطنه، وفضل الموت على ذلك.
ولا شك أن نظرة أرسطوفان المحافظة كان لها دور في أن يلحق سقراط بالسوفسطائيين في مسرحية "السحب"، على الرغم من أن سقراط لم يكن منهم، فهو لم يكن يتلقى أموالاً على تعليمه لمن يعلمهم، ولم يكن يعلم
الناس الجدل؛ ليعرضوا حججهم، ويقهروا مخالفيهم بالحق أو بالباطل،
كما كان يفعل السوفسطائيون، ولكن تشابه مع السوفسطائيين في الاهتمام بالإنسان، والحرص على التأمل، والقدرة على النقاش والحوار، وكل هذا جعل أرسطوفان، وبعض المثقفين وغفيرًا من العامة يمزجون بين سقراط والسوفسطائيين.
ونرى في مسرحية "السحب" ستربسياديس – وهذا الاسم يعني المراوغ الذي يحاول أن يتملص من ديونه – غارقًا في الديون؛ لأنه – وهو القروي – تزوج من امرأة أرستقراطية، ودعاه هذا لكثرة الإنفاق عليها، ويضاف لهذا – وهو السبب الأساسي في كثرة نفقاته وديونه – أن فيديبيس – ابنه من هذه المرأة – كان شديد الحب للخيول، ومسابقاتها، وكان ينفق كثيرًا من أموال أبيه في شرائها؛ مما عرضه للإفلاس ولكثرة الديون.
ويفكر ستربسياديس في حل لديونه التي اقترب موعد سدادها بفوائدها، ويتوصل لحل يرى فيه مخرجًا للمشكلة التي هو فيها، فيقرر أن يرسل ابنه لمدرسة سقراط ليتعلم فيها فن الخطابة، والجدل؛ حتى يدافع عنه في المحاكم أمام دائنيه، ويثبت من خلال الحجج التي تظهر الباطل على أنه الحق أن والده
لا يجب عليه أن يسدد أي ديون لأي دائن يطالبه بأي دين له عليه.
ويطلب ستربسياديس إلى ابنه فيديبيديس أن يذهب لتلك المدرسة، ويلتحق بها، ولكنه يرفض؛ لكسله، ولأنه لا يرغب في غير ركوب الخيل، والسباق بها.
وعند ذلك يذهب ستربسياديس بنفسه لمدرسة سقراط، ويحاول سقراط أن يعلمه فيها، ولكنه لكبر سنه، ولضعف ذاكرته لا يتعلم سوى بعض القشور التي سيستعملها بعد ذلك في خطابه لبعض الناس؛ ليدعي المعرفة بينهم، وقد قصد أرسطوفان من ذلك إظهار جهله؛ ليضحك الجمهور منه، وقصد أيضًا السخرية من سقراط؛ لأن في هذه المعلومات المشوهة التي يتفوه بها ستربسياديس كفرًا بآلهة الإغريق الوثنية، وتشويهًا لبعض المعارف.
ولا يجد ستربسياديس مفرًّا في النهاية من أن يرسل ابنه فيديبيديس غصبًا؛ ليتلقى العلم في مدرسة سقراط؛ حتى يرد على دائنيه بالجدل الذي يقلب الباطل حقًّا.
وبعد أن يتعلم فيديبيديس في مدرسة سقراط يعلن ستربسياديس لدائنيه أنه لن يعطيهم أي أموال يطلبونها إليه، وليفعلوا ما شاءوا، وعند ذلك يقررون مقاضاته، وهو يظن أنه قد أمن هذا الأمر بتعلم ابنه للجدل والسفسطة في مدرسة سقراط.
ولا تسير الأمور على النحو الذي تمناه ستربسياديس، فإنه بعد أن أمن جانب دائنيه إذا به يخرج من بيته يتألم، وابنه يتبعه، ويستمر في ضربه، ويجادل فيديبيديس جوقة من النساء يرمزن للسحب، فيما يراه من حق له في ضرب أبيه، ويستطيع من خلال المنطق المغلوط والسفسطة أن يقنعهن بأنه على صواب في ضربه أباه بغرض توجيهه، ويقول: إن أباه كان يضربه في صغره للهدف نفسه.
وعند ذلك يعلن ستربسياديس أنه كان مخطئًا عندما دفع ابنه ليتعلم الخطابة والجدل في مدرسة سقراط، وانتهى إلى أنه كان من الأفضل لابنه
لو ظل محبًّا للخيل، وإن كلفه هذا الأمر كثيرًا من النفقات والديون.
وفي نهاية المسرحية يذهب ستربسياديس مع خادم له لمدرسة سقراط، ويقومان بحرقها.
ومن أهم عناصر الكوميديا التي وظفها أرسطوفان في هذه المسرحية الإشارات الجنسية الكثيرة بها، وكانت هذه الوسيلة لا حرج منها آنذاك، خاصة أننا نعرف أن الكوميديا نشأت من خلال الاحتفال بديونيسوس إله الإخصاب الوثني عند الإغريق، كما أن مجتمع أثينا آنذاك كان مجتمعًا ذكوريًّا، وللرجال التحكم فيه.
وكذلك من عناصر الكوميديا في هذه المسرحية ما بها من مناظرات طريفة تقوم على السفسطة، وقلب الحقائق واللعب بالكلمات، كما نرى في المناظرة بين منطق الحق، ومنطق الباطل، ويجعل أرسطوفان فيها منطق الباطل ينتصر، وهو يدعو للرذيلة، والتمتع بكل المتع غير المباحة، ولا شك أن أرسطوفان كان ينقد السوفسطائيين، وسقراط معهم من وراء ذلك، فهم في رأيه يدعون لكل رذيلة، ولديهم الحجج لإثبات أنهم محقون فيما يدعون إليه ويفعلونه.
وكذلك نرى مناظرة أخرى في هذه المسرحية بين فيديبيديس من ناحية وستربسياديس وجوقة السحب من ناحية أخرى، ويستطيع فيديبيديس بالمنطق المغلوط أن يظهر أنه له حق في أن يضرب أباه وأمه أيضًا.
وتعد مسرحيات أرسطوفانيس وثيقة مهمة لعصره؛ لأنه كان يعرض فيها الأحداث التي تحدث فيه، ويتناول في كل مسرحية له ما يستجد في هذا المجتمع، والحاكمين له، ويعرضهم بأسلوبه الساخر الذي كان يتناسب مع الديمقراطية التي كانت تعيشها بلاد اليونان آنذاك.
وكذلك نلاحظ في هذه المسرحية –وفي غيرها من مسرحيات
أرسطوفان – تفاعل أرسطوفان فيها مع الجمهور، فهو على لسان بعض الشخصيات يوجه لهم كلامه، ويتألفهم أحيانًا، ويسخر منهم في أحيان أخرى، ولا ينسى أيضا أن يجعل بعض الشخصيات في هذه المسرحية – كما هو الشأن في باقي مسرحياته – يتحدثون عن مواهب أرسطوفان في كتابة الكوميديا، ويغمز في الوقت نفسه من خلال هذه الشخصيات بعض منافسيه من كتاب الكوميديا الذين كانوا يستخدمون وسائل فجة في الإضحاك، ولم يكن هو يستسيغ استخدامها في كوميدياته، كالسخرية من شخص قبيح أو مشوه،
أو الاعتماد على ضرب شخص أو أشخاص فيها بغرض إضحاك الجمهور.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى