عبد الرحيم سليلي - ظل يرقص سامبا شرقية

أنا متأكدة من أنه سيأتي، لقد أقسم على ذلك بأغلظ الأيمان. بكل صراحة.. هو لم يكن مضطرا للقسم. فأنا صدقته من أول كلمة قالها، وما زلت مستعدة لتصديق أي كلام يصدر عنه. نعم.. فهو أصدق من الصدق، رغم ما يحاول وعيي الشقي أن يزرعه من شكوك بيني وبينه بإيعاز مما يسميه تجارب الحياة، ودسائس الحساد المتنكرين في صفة أصدقاء العمر وصديقاته. المهم أنه وعدني بالمجيء لأجلي من تلك المدينة البعيدة.. سيقطع البحار الواسعة، وصورتي، التي يأنف آخر رجل في حينا من مجرد النظر إليها، تملأ عينيه نورا، وقلبه محبة وحنينا.
ما أجمله.. رجل عظيم يجعل المرأة المسكينة تمشي فوق السحاب معتقدة أنها حواء الأم، التي خرجت من ضلع آدم لتملأ الكون إغراء وحبا، وتجعل لكل نزول معنى ومبررا.
يكفي اسمه يا عالم، لتعلموا أنه لن يكذب، ماذا جرى لعقولكم، حتى تحجرت إلى هذا الحد..؟ الرجل الأزرق يحيد عن الصدق!؟
حتى أمي التي تكذب كل يوم على أبي لتحتفظ بما تبقى من مصروف البيت، وتحوله لقارئة الطالع عائشة البحرية في زيارة مساء الخميس، وتكذب عليّ وعلى أخواتي الأصغر سِنّا، عندما تشتري الثياب المستعملة من سوق القريعة، وتكويها جيدا، ثم تعطرها، لتوهمنا أنها من متاجر الماركات المتناسلة في بوتيكات المعاريف وعين الذياب. حتى هي أصبحت ترفع صوتها كلما وجدتني في حضرته: " فِيقِي لْرَاسَكْ، رَاهْ غِيرْ كذّاب، صْحَابَاتَكْ كَيْدِّيوْ وْلَادْهُمَ المدرسة، وانتِ حَالّة فُمَّكْ فذيكْ الخَرْشَاشَة.. رَاهَا مَا تْوَلْدُوشْ لِيكْ.."
تقولها بالفم المليان، وكلما اعترضت على كلامها، تضرب كفا بكف، وتتهم المدرسة بتضييع مستقبلي، ثم تواصل موالها المسموم، الذي يتحدث عن جمالي الضائع، وشبابي المغتصب، وعقلي المسكين الذي أهلني لأن أكون مديرة مؤسسة كبرى، وأهمل إدارة حياتي.
  • *******
بدأ الأمر برصاصة طائشة أطلقتها في الفضاء الأزرق: سودت حيزا، وكتبت عليه بالأبيض الناصع: " الرجال الجبناء يكرهون المرأة الناجحة.." كنت ساعتها محبطة من زواج جميع بنات زقاقنا، وانفرادي بلقب "البَايْرَة." جاء القصف غزيرا من بيوت مجاورة.. عرفت، بعدما عاد الهدوء، أن أولاد الدرب ناقمون علي؛ لأنني الشخصية الأكثر نجاحا في حي بُورْنَازِيلْ العامر بالمهملات البشرية.. من مدمني " الحشيشة " والشيشا، إلى المتسولين، إلى فصيلة " المشرملين " من ذوي القصات الغريبة، الذين يتباهون بحمل سيوف الساموراي، رغم أن معظمهم يخاف أن تطلع عليه الفئران والصراصير ليلا.
مرت لحظات الهدوء بسرعة، ثم عاد الاشتباك.. بدأت القذائف تأتي من أحياء بعيدة في مدينتنا الكبيرة. اعتقدت أن الأمر مدبر من بعض رفاق العمل الذين فرضتُ عليهم نظاما صارما، وزجرت كل من سولت له نفسه المماطلة في تطبيق قواعده، لكن دائرة القصف اتسعت؛ لتأتي من كل ربوع البلد، وبعدها من بقاع متباعدة في القرية الكونية. أحبطني الأمر حتى كدت أركن إلى الصمت، وأترك حائطي المزركش مهجورا تتغوط عليه آلاف الغربان السود.. لكنه ظهر فجأة.. كان هادئا ووديعا، يضع على رأسه غطاء يسقط ظله الكثيف على صفحة وجهه، فتصبح مجرد بقعة سوداء لا ملامح لها.. ضغط أول لايك، وكتب لي قصيدة جميلة نشرت الدفء في قلبي:
  • " المرأة التي تحمل الشمس في كف،
  • المرأة التي تنير،
  • لا تهتم إذا اعترضت طريق ضوئها سحب الرجال الدساسين..
  • أنت قمري،
  • فاسكبي نبيذ ضوئك في بيداء روحي كي أراك. "
قرأت التعليق عشرات المرات.. رأيتني طفلة تطارد القمر على رصيف مدينة نائية، وتردد كلامه العسلي، كانت الأشجار الباسقة الطول والمتشابكة الأغصان، في تلك المدينة، ترقص على إيقاع أغنيتي الساحر؛ فتميل حتى تكاد تسد الطرق في وجه العابرين.. وكنت وحدي.. يحملني الإيقاع لأعبر فوق الأغصان الثملة، بينما كان هو يقف ملوحا فوق قمة الجبل.. كتمثال ريو دي جانيرو الشهير الذي يجسد مسيحها الفادي.
لم أذكر ريو دي جانيرو اعتباطا.. فأنا مثل سائر الشخصيات المهمة، لا اعتباطية في ما أفعل وأقول: لقد ذكرت المدينة الصاخبة لأن رجلي أخبرني أنه، بعدما مل الاستيقاظ على إيقاع الطلقات في ذلك البلد الشرقي المشتعل، قرر أن يطير إلى هناك، ليستعير لقطار عمره سكة أيام لا رصاص فيها تعبر وسط حقل من الزهور الملونة.. الملهم في حكايته أنه نجح في جعل أيامه وأيامي جميلة: كل صباح باقة ورد، وقبلة، وكلمة أحبك كما لم ينطقها أحد...! عفوا.. يكتبها أحد، فهو محافظ قليلا، ويؤجل الكلام واللقاءات إلى ما بعد خط المأذون.
أصدقكم القول: لقد هيأت نفسي لكل شيء.. تعلمت لغة تلك المدينة، وشاهدت كرنفالها الساحر مئات المرات، ودخلت صالة لتعلم الرقص الاستعراضي عن بعد، لأكون في الموعد. حتى الروايات، التي كرهتها حد القرف خلال دراستي الثانوية والجامعية، قرأتها.. قرأت لكاتب كبير اسمه باولو كويلو.. كاتب حكيم يعشق شرقنا المظلوم.. لا شك أنه واحد منهم؛ فهم يحبون بلادنا، وإلا لما استطاع الهاربون من خطوط النار في أوطاننا، التي لا تهادن حتى نفسها، أن يجدوا بينهم ملاذا لأحلامهم، ويتألقوا.. كما فعل رجلي.
يا عيني عليه.. ليلة البارحة لم ننم، حدثني عن مطر غزير يغسل أقدام المدينة، وعن مناديل الغيوم التي تمسح أسطح البنايات، ورؤوس الشجر، وقمم الجبال مما علق بها من غبار الصيف الماضي، كان حزينا لأنني أخبرته أن ابن عمتي تقدم لخطبتي، وأن أمي جعلته والرضى في كفة، وسخطها علي، وشقاء عمري في كفة ثانية، لم يبتسم.. رغم حديثي عن رفضي القاطع..! في الحقيقة، أنا لم أره يوما وهو يبتسم، لكنني أشعر به حين يفعلها.. يكتب لي مرات ثلاث هاءات متصلة، وفي مرات أخرى يبسط أمامي صفا طويلا منها، فأضعها في سلسلة، وأطوق بها عنقي... أنا لا أكذب عليكم، لقد وشمت سلسلة من هاءاته الرائعة حول جيدي، ولم أثبت في وســـــطها "خميسة،" كما تفعل النساء وأشباههن من الرجال عندنا، بل علقت صورته: رأسه الملفوف بشاله، ووجهه الذي يســـرق الظل الفضولي ملامحه. اعتقدت أنني إذا سمحت له بالغوص قليلا جهة الصدر، سيتطلع إلى شيء ما فينزع قناعه، لكن ما العمل..؟ رجل حـــــياتي، يا ناس، غارق في حيائه.. لقد ضاعف الظلال على وجهه، وترك رمانتي صدري محبطتين...!
رغم كل استنتاجاتي، لم أحمل هما، فأنا عازمة على السفر إليه في الربيع، لأكون معه، لأملأ عيني الجائعتين وجوارحي الظمآنة بصورته، وأنفاسه، وتفاصيل جسده الرياضي المثير.
في ما يتعلق بالرحلة لم أكن أحتاج الكثير؛ لأنني هيأت كل شيء السنة الماضية.. حتى التأشيرة، وملابس ريو القصيرة التي تكشف عن ركبتيّ، وبداية الغور النازل بين تَلَّتيْ صدري، وتُضَيق الخناق على الأرداف. كنا قد اتفقنا ساعتها على أن ألتحق به في بلاد الغربة. حدثني، أكثر من مرة، أنه خائف من ألا يكون حبي له حقيقيا، لكنه تأكد منه حينما حجزت تذكرة السفر غالية الثمن... آه، لولا الوباء لكان نزار ابننا يشرب حليب الأمازون الآن..

أخبرني أن المدينة موبوءة، وأن فيروسا غامضا يصيب الناس، فيرقصون على أرصفة الأزقة حتى الموت: يبدأ المصاب بتأدية سامبا خفيفة إلى أن يصل ساحة سامبودروم، فيرفع الإيقاع ويستمر في رقصه الهستيري حتى يلفظ أنفاسه.. صدقته رغم أن نشرات الأخبار لم تذكر شيئا عن الموضوع.. وعندما تقاسمت معه شعوري بالحيرة لعدم اهتمام وسائل الإعلام بوباء ريو الفتاك، قال إنه سأل طبيبا عربيا، كان مغتربا بالمدينة منذ ثلاثة عقود، فنقل إليه السر الكـبير:
" الوباء اللعين ينتقل بالحديث عنه: كلما تحدث عنه شخص علنا أصابه." مذ أخبرني السر لزمت الصمت، ولم أعد أسأله عن مآل مشاريعنا في ريو، مخافة أن يُحْدِثَ لي منه ذكرا، فينـتقل إليه الفيروس، ويقصد ساحة السامبودروم راقصا؛ فأترمل قبل الأوان.
من فرط حبي له "صكرت" فمي.. لم أعد أحدثه عن رغبتي العارمة في الارتباط به، ولا عن العرسان الذين أدعي كذبا أنهم يخطبون ودي فأرفضهم، رغم أنني لم يطرق بابي رجل قط، ولم يلوح لي أحد بنظرة إعجاب، ولو من باب المزاح، عدا المختار الإسكافي الذي يجعل من الزيتونة اليتيمة في زقاقنا الضيق مقر عمله، أو بالأحرى مقر عطالته؛ آخذ له أحذيتي مساء كل أحد، وأعود لاستلامها صباح الاثنين، وفي باقي الأوقات لا أراه ينحني على حذاء أحدهم أبدا.. كلما مررت به، أجده منهمكا مع هاتفه " الهواوي " ذي الشاشة العريضة.
******​
المهم أنني سألتحق برجلي الأزرق، وسأكشف عن ساقي، وأرتدي الملابس البرازيلية الضيقة كسائر بنات اليوم، وأرقص في السامبودروم دون أن أموت، لأن الوباء لم يعد متفشيا في المدينة بفضل الله الذي استجاب لطابور دعوات كان ينطلق من قلبي كل ليلة قبيل الفجر.
لا شك أنني سأجد هناك نساء من بيروت ودمشق، وبعض بلدان إفريقيا المسلمة، وسنستطيع إحياء شعائرنا أيضا: سنحتفل "بعيشور" والعيد الكبير "وحاكوزة... " ولا بأس من إقامة هدنة مع السان فالانتين، فهو، في تلك البلاد، سيكون حيا يرزق، لأن الرجال الذين يرقصون تمتلئ قلوبهم بالحب وعشق النساء، عكس هـؤلاء الأجلاف، الذين يطاردون المرأة لاستمـــرار النسل، وزيادة عبيدهم فقط... هَهْ..! كيف لرجل يجهل أين توجد ريو، ولا يستطيع تأدية حركة من حركات السامبا، ولم ير تمثال المسيح الفادي قط، أن يجرؤ على مجرد الحلم بأن يجعل مديرة مؤسسة كبرى في قائمة حريمه!
******​
يبدو أن ساعة الحسم اقتربت؛ اليوم سنتخذ القرار المصيري.. يجب أن أستغل توقف الوباء، وتدفق مشاعر الود في قلبه، لأنهي العمر الافتراضي لأطهر وأنقى حب على وجه الأرض، ولا شك أن الرب العادل سيباركنا؛ فنحن لم نرتكب في حبنا العذري معصية توجب غضبه، كما يصر أن يقول، كلما نبهته إلى أننا لم نر بعضنا حتى الآن.

جلست أمام الحاسوب في كامل زينتي، نظرت إلى الشاشة، فاعتلتني رعشة شديدة، أخذ جسدي يهتز، وشعرت برغبة عارمة في التحليق، وجحظت عيناي في المكتوب: " أنا قادم إليك يا عمري، وليكن ما يكون."
كتبت أسأله:

  • متى تنوي المجيء؟
رد بسرعة:
  • لن أقول، مالم أحصل على وعد بألا يتغير قلبك..
  • قلبي لا يملك قراره، قلبي مِلكك أنت.
  • من هذه اللحظة انتظريني....!
قرأتها.. فابتلعتني دوامة، ومال بي الكرسي جهة اليمين.. سقطت محدثة ضجة ترددت في أنحاء البيت.. لم أغب عن الوعي تماما.. تابعت عبثهم الغريب بجسدي، ميزت أكثر من رائحة ملأت أنفي حد الاختناق: ثوم، بصل، قطران، ند وكبريت، وزخات قاتلة من إبط أمي... لما كانت أيديهم تنهشني ترامى إلى مسمعي رنين جرس الباب، فانفضوا من حولي للحظات.. عادوا بعدها، لكن مع بعض التهذيب.
مرت قرابة الساعة فاستعدت وعيي، ولما لاحظت أمي ذلك، باغتتني بالكلام:
  • الحمد لله.. لم تحطمي رأسك.
أجبتها بفتور:
  • مرت على خير.
وقبل أن تقول شيئا، لفت انتباهي مغلف أبيض كبير.. حُزِمَ بشريط أحمر ثُبِّتَ في أحد طرفيه قلب، وفي الطرف الآخر وردة حمراء، فسألتها:
  • من جلب هذا؟
ردت علي:
  • رجل يضع لثاما رماديا، لم يُظْهِرْ وجهه، ولم يفصح عن هويته.
تمتمت بصوت لم يسمعه أحد:
  • إنه هو...، إنه....
عاودتني الرعشة، وضعوني على السرير.. سمعت والدي يأمرهم بأن يتركوني أستريح من تعب العمل، وما هي إلا لـحظات
حتى بقيت وحيدة مع مغلفه الغامض..
حبيبي المسكين، رجلي الأزرق، عذريُّ ريو دي جانيرو.. مازال خجلا من مجرد اللقاء بي. لو عاش معنا هنا في الدار البيضاء، وارتاد الأسواق الشعبية نهارا، وسراديب مقاهي الشيشا بعين الذياب ليلا، لاقتحم غرفتي من النافذة، وحملني أمام والدي، وغادر بي إلى وجهة مجهولة....
يا لي من حمقاء! ما الذي ذكرني بعدوانية الرجال في مدينتي؟ أليس المختار الإسكافي هو أكثر الناس لطفا في معاملتي؟ ألا يقول لي مرارا إن الحذاء الذي سيستحق قدمي، ينبغي أن يصنع من جلد غزال يعيش بين أشجار الجنة..
وليُّ الله هذا الرجل، بدل أن أحصل على حذاء كما تمناه، حصلت على رجل من هناك أشد نقاء من النقاء نفسه..
بقيت مستغرقة في الإنصات لحوار دواخلي، ولم أنتبه لتحسني.. أدركت متأخرة أن جسمي استعاد عافيته، فقفزت من سريري، وقصدت الطرد الكبير الموضوع بعناية في ركن الغرفة، حضنته بكل ما أوتيت من قوة، وقبلت زواياه، أمسكت أحد طرفي الشريط الأحمر المعقود في وسطه، وسحبته برفق فانفتحت العلبة.. أخذت باقة الورود الحمراء الندية، ثم رأيته: يا عيني عليه، أجمل حذاء يمكن لقدم امرأة أن تحلم بانتعاله، رفعته برفق مرددة اسم الله، قبلته، ثم وضعته على عيني، اعتقدت لوهلة أنه مصنوع من جلد غزال، ثم صحوت.. وكأن جرسا رن في رأسي.. قصدت شاشة الحاسوب، حركت الفأرة فتداعت عشرات الرسائل.. كلها كانت منه.. آخرها كانت تحمل رسما لرجل على سندان، تهوي عليه يد امرأة بمطرقة قوية!
رفعت عيني أتأمل المرأة التي في الرسم؛ كانت تشبهني تماما رغم الظلال الرمادية على وجهها.. نظرت إلى ساعتي: العقربان تعبا من الرقص الإيقاعي، فتعانقا فوق الواحدة بعد منتصف الليل.. ما زال الوقت مبكرا على النوم في ريو.. راودني شعور جميل، ضغطت على صورة بروفايله حتى ملأت الشاشة، وقمت بخفة صوب المغلف، أخرجت حذاء جلد غزال الجنة، انتعلته، وبدأت أرقص السامبا.. في اللحظة ذاتها انتشرت ثلمات مشعة على جدار الغرفة.. كان يراقبني منها، ويبتسم تحت قناعه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى