د. علي خليفة - شخصية العرَّاف في المسرح اليوناني القديم

(1)
هناك شخصيات لها حضور قوي في المسرح اليوناني القديم، وبعض هذه الشخصيات يكون لها أدوار رئيسة في تلك المسرحيات اليونانية القديمة، وبعضها لها أدوار ثانوية فيها، ولكنها - مع ذلك - مؤثرة في تلك المسرحيات، ومن هذه الشخصيات ذات الحضور القوي والتأثير الفعّال في المسرح اليوناني القديم شخصية الرسول الذي يأتي بأخبار يجهلها من في المكان الذي يصل إليه، ويكون لهذه الأخبار آثار كبيرة على أحداث المسرحية بعد ذلك، كما نرى أمثلة لذلكفي شخصية الرسول في مسرحية "أجاممنون" لأيسخولوس، ومسرحية "أوديب ملكًا" لسوفوكليس.
وأيضًا من الشخصيات ذات الحضور القوي في المسرح اليوناني القديم شخصية الكاهن الذي يلجأ إليه في أمور كثيرة، ويلتمس منه البركة والرضا؛ لأنه - كما كان يعتقد فيه الإغريق قديمًا - واسطة بين الناس والآلهة الوثنية، ونرى في كثير من مسرحيات أيسخولوس وسوفوكليس ويوربيديس تقديرًا
لهؤلاء الكهان، كما نرى في مسرحية "أوديب ملكًا" لسوفوكليس،ومسرحية"الفينيقيات" ليوربيديس، ومع ذلك فأحيانًا نرى الكاهن يُسْخر منه في بعض الكوميديات اليونانية القديمة، كما نرى هذا في مسرحية "السلام" لأرسطوفان.
(2)
وتعد شخصية العراف من أهم الشخصيات في المسرح اليوناني القديم، وغالبًا ما يكون لتنبؤاته آثار كبيرة على الأحداث بالمسرحيات التي يتواجد فيها، ويقوم فيها بوظيفته في التنبؤ وقراءة الغيب.
ومن النادر أن نرى في المسرح اليوناني القديم شخصية العراف يُسْخَرُ منها أو لا يعبأ بتنبؤاتها، وتأتي العقوبة شديدة لمن يُكَذِّبُ نبوءات العرافين
في تلك المسرحيات اليونانية القديمة، كما نرى في مسرحية "أوديب ملكًا"لسوفوكليس، ففيها نرى جوكاستا زوجة أوديب تقول لأوديب: إنها لا تؤمن بنبوءات العرافين، وترى أن الآلهة لو أرادوا شيئًا نفذوه دون أن يستعينوا بالعرافين في ذلك، وتضرب لأوديب مثالًا على قناعتها بكذب نبوءات العرافين بأنها قد ولدت ولدًا في الماضي من زوجها السابق لايوس، وتنبأ العرافون بأن هذا الولد لو عاش فإنه سيقتل أباه، وسيتزوج من أمه، وتقول: إن هذا الولد قد قُتِلَ بعد مولده، ولم يحدث ما تنبأ به العرافون من أنه سيقتل أباه، فقد قُتِلَ لايوس بيد شخص آخر غيره في مكان ذي ثلاث شعب.
وتستنكر الجوقة ما قالته جوكاستا عن تكذيبهاالعرافين ونبوءاتهم، ويأتي العقاب مباشرة لجوكاستا على هذا الإنكار منها لنبوءات العرافين وأثرها في مصائر البشر بأن يُعَرِّفَها أوديب أنه قتل شخصًا في المكان الذي قالت: إن لايوس قد قُتِلَ فيه، ثم يتضح أن أوديب هو ابن لايوس وأن جوكاستا هي أمه، وأن تلك النبوءة القديمة التي كذبتها - إذا بها تتحقق، فلا يسعها عند ذلك غير أن تشنق نفسها، وتتخلص من الحياة، عقابًا لها على سوء نظرها في العرافين ونبوءاتهم.
(3)
وهناك تنوع فيمن يقوم بالعرافة والتنبؤ، وقد يقوم بالتنبؤ أشخاص عاديون من خلال أحلام تأتيهم في النوم، وتحمل محاذير أو توقعًا بحدوث أمور معينة في المستقبل، وغالبًا ما تحدث، كما نرى الملكة أتوسا في مسرحية "الفرس" لأيسخولوس، فقد رأت حلمًا يحمل نبوءة بهزيمة جيش الفرس الذي يقوده ابنها إكزاركسيس على يد الإغريق في معركة سلاميس التي شارك فيها أيسخولوس بنفسه، وتحقق هذا الحلم بعد ذلك.
وأيضًا نرى في مسرحية "هيكوبا" ليوربيديس أن هيكوبا قد رأت حلمًا عرفت منه أنه ستحدث عدة مصائب لها ولأبنائها، وتحققت النبوءة التي جاءتها في ذلك الحلم بعد ذلك.
(4)
وغالبًا ما تكون النبوءات في المسرحيات الإغريقية على ألسنة الآلهة الوثنية، وقد يقوم بها زيوس رب الأرباب عند الإغريق، كما نرى في مسرحية "نساء تراخيس" لسوفوكليس، ففي هذه المسرحية نرى هرقل قد ارتدى ثوبًا أرسلته له زوجته ديانيرا ظانة أنه سيجعله ينفر من عشيقته الجديدة إيولا ويعود لحبها هي، حسب خديعة شخص لها بذلك، ولكن ذلك الثوب الذي خلطت به دم ذلك الشخص الذي كان هرقل قد قتله في الماضي تسبب في آلام شديدة لهرقل حين لبسه، وأدرك أنه لا خلاص له من ذلك العذاب سوى بالموت، فأمر ابنه بحرقه، ونفذ كلامه، وذكر هرقل قبل أن يتم حرقه وموته أن زيوس قد تنبأ له بأن موته لن يكون على يد شخص حي، وبالفعل كان موته بسبب اختلاط دم هذه الشخص الميت بجسده، فتسبب في آلامه، وسعى للتخلص من حياته بحرق نفسه حتى الموت.
وقلما يقوم زيوس بالتنبؤ في المسرح اليوناني القديم، ولكن يقوم بذلك آلهة وثنية أخرى، ومن الطريف أن نرى أحد الآلهة الوثنية لديه علم بنبوءات لأحداث ستحدث في المستقبل يجهلها زيوس نفسه، وهذا الإله الوثني هو بروميثيوس، ويحاول زيوس الضغط عليه بألوان قاسية من العذاب؛ ليعترف له بما سيحدث له في المستقبل، ويكون سببًا في ضياع ملكه، ولكن بروميثيوس يرفض، ويتحمل كل أصناف العذاب في سبيل عدم إعلام زيوس بتلك النبوءة التي يعرفها، وسيكون لها أثر شديد في زوال ملك زيوس.
ومن الواضح أن بروميثيوس هو من أشهر الآلهة الوثنية في معرفة النبوءات، حتى إنه كان يعرف منها ما يجهله زيوس نفسه، كما رأينا ذلك
في مسرحية "بروميثيوس مقيدًا" لأيسخولوس.
وكان أيضًا الإله الوثني أبوللو مشهورًا بالتنبؤ، وكثيرًا ما يأتي الكهنة وغيرهم بالنبوءات من معبده في دلف، كما نرى في بعض المسرحيات، مثل: مسرحية "أوديب ملكًا" لسوفوكليس، ومسرحية "أوريستيس" ليوربيديس.
وغالبًا ما تكون النبوءات التي تصدر عن الآلهة الوثنية في نهايات المسرحيات اليونانية القديمة، وتأتي لتفك الاشتباكات والصراعات في هذه المسرحيات، ويرضى البشر بما يذكره الآلهة الوثنية في تلك النبوءات، ونرى هذه الظاهرة واضحة في كثير من مسرحيات يوربيديس، كما نرى في مسرحية "المستجيرات"، ففي نهايتها تظهر الربة أثينا، وتتنبأ بأن أهل أرجوس سوف يهزمون أهل ثيبة في قابل الأيام، كما أنها تتنبأ بأمجاد كثيرة لمدينة أثينا، ولملكها ثيسيوس، وتقضي بالحكم في جثث أبطال أرجوس الذين استعادهم جيش أثينا من ثيبة بعد أن رفض أهل ثيبة دفنهم.
وأيضًا نرى في نهاية مسرحية "إيون" ليوربيديس ظهور ربة وثنية، وتتنبأ بأن كريوسا والدة إيون من أبوللو - الذي كان قد اغتصبها في الماضي - ستنجب من زوجها إكسوفوس، وكذلك تتنبأ لإيون بأنه سيكون ملكًا عظيمًا.
وقد يقوم الإله الوثني في بعض المسرحيات الإغريقية بالتنبؤ في أولها وليس في آخرها، وعند ذلك يكشف ما سيحدث في المسرحية، وتسير الأحداث حسب تنبؤاته، ويضعف التشويق عند ذلك، كما نرى في مسرحية "هيبوليت" ليوربيديس، ففي بداية هذه المسرحية تظهر أفروديت ربة الجمال والعشق عند الإغريق، وتبدي تبرمها من إعراض هيبوليت عنها، وانصرافه لأختها أرتميس ربة الصيد، وتقول: إنها ستنتقم منه، وتسير الأحداث في هذه المسرحية وفق النبوءة التي عرضت تفاصيلها في بداية هذه المسرحية، وقالت: إنها ستنال من هيبوليت بها.
(5)
وقد يقوم بالتنبؤ والعرافة في بعض المسرحيات الإغريقية بشر تحولوا لآلهة، كما نرى في نهاية مسرحية "أندروماخا" ليوربيديس، ففي نهايتها وبعد أن تصاعدت الأحداث فيها، ومات لفيلوس العجوز أبناؤ وأحفاده، ولم يبقَ له غير حفيد صغير من ابن أخيل وأندروماخا - تظهر له زوجته الميتة، وتُعرفه أنها صارت إلهة، وتتنبأ له بأنه سيعيش طويلًا، وسيصبح إلهًا مثلها بعد موته، وتتنبأ بأحداث سعيدة أخرى لأندروماخا، ولابنها من ابن أخيل.
وكما نرى أن الآلهة الوثنية الإغريقية غالبًا ما تقوم بنبوءاتها في نهاية المسرحيات الإغريقية لفك الاشتباك في الأحداث المشتعلة بها؛ بغرض إرضاء الجمهور؛ بأن يتم مكافأة المحسن ومعاقبة المسيء عن طريق نبوءات هذه الآلهة الوثنية في نهايات هذه المسرحيات.
وكذلك رأينا أنه قلما تتدخل الآلهة الوثنية بنبوءاتها في بدايات المسرحيات الإغريقية، لأنها بعرضها نبوءاتها بها في بداياتها تذكر ما سيحدث من أحداث، وتضعف عنصر التشويق في هذه المسرحيات.
ومن الواضح أيضًا أننا نرى بعض البشر في بعض المسرحيات الإغريقية اختصهم الآلهة الوثنية بالقدرة على التنبؤ، ومنهم كاسندرا التي نراها خلال تنبؤاتها في حالة تشبه الخبال، وتُعَرِّفُ من حولها بما تراءى لها وسيحدث في المستقبل، وقد رأيناها تقوم بهذا الدور في مسرحية "أجاممنون"لأيسخولوس، ومسرحية "الطرواديات"، ومسرحية "هيكابي" ليوربيديس، وفي هذه المسرحيات الثلاث تتنبأ كاسندرا ببعض المآسي لها ولأمها هيكوبا وأخواتها ونساء أخريات من طروادة، وتتحق نبوءاتها، كما أنها تنبأت بمصير أليم لها ولأجاممنون بعد وصولهما لأرجوس، وحدث فعلًا ما تنبأت به.
ومن الواضح أن قدرة كاسندرا على التنبؤ - كما رأيناها في هذه المسرحيات - هي عطية لها من بعض الآلهة، أو هي موهبة خاصة بها، لا سيما أنها لم تكن كاهنة، كبعض الكهان والكاهنات الذين عُرِفوا بالقدرة على التنبؤ، وسنشير إليهم بعد قليل.
ونرى بعض النساء اللائي كن كاهنات، ولديهن القدرة على التنبؤ في بعض المسرحيات اليونانية القديمة، ومنهن ثيونوي، فنحن نراها في مسرحية "هيلين" ليوربيديس كاهنة لديها القدرة على التنبؤ، وتتعاطف مع هيلين وزوجها مينيلاوس، وتقف معهما ضد رغبة أخيها ملك مصر الذي يريد أن يتزوجها، ويأخذها من زوجها مينيلاوس غصبًا.
وأشهر من قام بالعرافة والتنبؤ في المسرح اليوناني القديم هم من الرجال، وأشهرهم تريزياس، الذي يعد أشهر عراف في المسرح اليوناني القديم، ونراه في مسرحية "أوديب ملكًا" عالمًا بما كان وما سيكون من مصير أوديب وأسرته، ولكنه لا يرغب في ذكره حتى لا تتوتر العلاقة بينه وبين أوديب، ولكن غضب أوديب عليه يضطره لأن ينفجر بكل النبوءات التي يعرف أنها ستتحقق قريبًا وتتسبب في شقائه، وتتحقق نبوءات تريزياس كلها بعد ذلك.
وفي مسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس يتنبأ تريزياس لكريون حاكم ثيبة بما سيحدث نتيجة قراراته الخاطئة - وهي عدم دفن بولونيكيس أخي أنتيجونا، ودفن أنتيجونا حية في كهف عقابًا لها؛ لأنها حاولت دفن ذلك الأخ-
ولا يستجيب كريون سريعًا لما أخبره به تريزياس من نبوءات مفجعة ستلحق به ومن حوله إذا استمر على عناده وموقفه الصارم في أمر أنتيجونا وأخيها الميت بولونيكيس، ويحدث كل ما تنبأ به تريزياس، ويشعر كريون بهول المآسي التي وُضِع فيها نتيجة عناده، وعدم استجابته السريعة لنصائح العراف تريزياس له.
وفي مسرحية "الفينيقيات" ليوربيديس يتنبأ تريزياس بأن جيش ثيبة لن ينتصر على جيش الأرجيين الذي يغزو ثيبة إلا بعد بأن يضحي كريون بابنه مونيكس، ويحاول كريون أن ينجو بابنه من ذلك المصير بأن يحاول أن يهربه لمدينة أخرى، ولكن مونيكس يستشعر المسئولية، ويضحي بحياته إنقاذًا لوطنه، كما جاء في نبوءة تريزياس.
وكما نرى فتريزياس يبدو في هذه المسرحيات الثلاث الإغريقية التي وصلتنا كاهنًا وعرافًا حكيمًا، ومقدرًا من كل من حوله، وأنه يشعر أنه لا يقل مكانة عن ملوك ثيبة التي يعيش فيها بما أوتي من فن العرافة؛ ولذلك كان يُطْلَقُ عليه أحيانًا لقب الملك تقديرًا له.
(6)
والأمر لا يقتصر على القيام بالعرافة والتنبؤ بأحداث الغيب في المسرحيات اليونانية القديمة على الآلهة الوثنية والكهنة وبعض الناس ممن تم اصطفاؤهم ونالوا موهبة القدرة على التنبؤ، ولكننا نرى في بعض هذه المسرحيات اليونانية القديمة أيضًا بعض أشباح الموتى من البشر يقومون بعملية التنبؤ أيضًا، كما نرى داريوس ملك الفرس الراحل يظهر شبحه في نهاية مسرحية "الفرس" لأيسخولوس؛ ليحذر الفرس بعد هزيمتهم من الإغريق في إحدى المعارك من أن يحاربوا الإغريق في أي حرب أخرى؛ لأنهم سينهزمون منهم كما انهزموا منهم في معركة سلاميس التي تدور عنها أحداث هذه المسرحية.
وأيضًا نرى في بدايات مسرحية "هيكابي" ليوربيديس ظهور شبح بوليدوروس - الذي كان قد مات - ويتنبأ بمآسٍ كثيرة لأمه هيكابي ولإخوته البنات، وتتحقق هذه المآسي بعد ذلك.
(7)
وهكذا رأينا أن شخصية العراف لها حضور قوي في المسرح اليوناني القديم، وهو غالبًا ما يكون في هذه المسرحيات شخصية ثانوية، ولكن نبوءاته كثيرًا ما يكون لها دور كبير في سير الأحداث بالمسرحيات التي يتواجد فيها، ويلقي بها نبوءاته.
وأرى أن مسرحية "هيكابي" ليوربيديس هي أكثر مسرحية وصلتنا عن الإغريق نرى للتنبؤات ومن يقومون بها دورًا كبيرًا فيها.
ويتنوع من يقومون بالتنبؤ في هذه المسرحية، فنرى فيها هيكابي تتعرف على بعض حوادث المستقبل المأساوية من خلال حلم رأته في نومها، ثم يظهر شبح ابنها الميت بوليدوروس، ويتنبأ بمآسٍ كثيرة لمن بقي من أسرته وقومه من أهل طروادة.
وأيضًا تقوم كاسندرا بالتنبؤ في هذه المسرحية بمصيرها ومصير أمها هيكابي وبعض نساء أخريات في طروادة، كما أنها تتنبأ بمصير أجاممنون بعد أن يعود إلى أرجوس بقتله قتلة شنيعة على يد زوجته كليتمنسترا.
وأخيرًا نرى في هذه المسرحية بوليمستور يذكر بعض النبوءات التي ستصيب هيكابي وأجاممنون - وكان قد عرفها من شخص آخر - وهو يرى أن هذه النبوءات فيها الانتقام له من هيكابي بعد أن تسببت في قتل ولديه وفقء عينيه؛ جزاء له منها لأنه قتل ابنها بوليدوروس ونهب أموال طروادة التي وُضِعَتْ أمانة عنده، ولا تهتم هيكابي بنبوءاته، فقد حققت أمنيتها الكبرى بالانتقام منه، ولم تعد لحياتها قيمة بعد دمار طروادة وموت أبطالها. أما أجاممنون فلم يحفل بتلك النبوءات منه.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى