فاتن فاروق عبد المنعم - النصب

في أجواء شهر يناير الشتوية ، وسنان الزمهرير تخترق جسدي ،طوقت جسدي بذراعىَّ أستدفئ بهما ، وقد أخذ قبطان الطائرةِ يرتفع
بها تدريجيا عن الأرض ، باحتراف مُشَوِّقٍ ، وها هو النهار يطارد الليل ، يجليه عن كوننا ليبسُط فسطاطه ، على كونٍ بالجانب الآخر من الأرض.
‎ألصقت وجهى بزجاج النافذة المجاورة ، ألمح من بعيد ، كلبًا يلتهم في ترقبٍ وفزع ، أجساد أربعة قطط مولودة للتو ، أو هكذا تبدو لي ، بينما الأم تقترب منه فِي جزعٍ ، ثم تعود أدراجها ، تقفز من بعيد هرولة ، ثم تقترب وتبتعد ، ومواؤها يقطع نياط القلوب ، لتقف في النهاية كسيفة حزينةً ، وقد رأت أجسادهم بين أنياب الكلب. . . ‎
ارتفعت بنا الطائرة ، تضرب في غياهب السحب ، فلم أعد أرى بقية التفاصيل ، وإن لم تغب الصورة عن عينىَّ وخاطري ، تلك التفاصيل التي لم تعد تهم ، فما هو المهم الذي من أجله تركت الأهم ؟
النُّصُبُ ، منذ بدء الخليقة ، منصوبٌ رواقها ، لم ينقض بنيانه بعدُ ، والطريق إليها معبدةٌ ، دون معوقات تذكر ، أو هكذا شاء من أقاموها ، أن يجعلوا الطريق إليها سهلة ميسورة ،
وقانونها الأزلي لم يتغير ، الذبائح لابد أن تكون من أنْفَسِ ما نملك‎
فهذا أول شروط قبول القرابين ،
والذي يتلقاها يجلس في صراطنا المستقيم ، وبغرورٍ وعنجهية ، يخرج إلينا لسانه ، كبرًا واستهانة.
‎أبونا من قديمٍ ، قدم الجنة بمكوناتها
وتفاصيلها إليه ، ليشقى وذريته ، على بسيطة ديدنها الكَبَدُ والشَّقَاءُ ، وتبعه أبناؤه الأشقياء ، لا يألون جهدًا ، في تقديم القرابين
، على مر العصور والأزمنة ، مضحين بأَنْفَسِ ما يملكون ، سعيًا وراء أوهام في خيالاتٍ مريضة
. ‎الأمر لم يختلف كثيرًا ،
عما كان يفعله الإنسان الذي زاحم الحيوانات في سكنى الغابات ، فطرق الذبح مختلفة ، ولكن النُّصُبَ واحدة ، ومتلقي القربان واحد.
‎لم يختلف كثيرا مشهد الأب الذي يذهب إلى النُّصُبِ ، ليقدم ابنه ذبيحة ، لإله صنعه بيديه ، أو صنعه له آخرون ، عن مشهد القطة الحزينة ، التي تركت صغارها في ذِلَّةٍ واستكانة ، ولا تلك المحصودة أرواحهم فرادى وجماعات ، في كل بقعة على سطح هذا الكوكب ، فالأوثان أقيمت مرة أخرى ، ولكنها الآن مقامة في النفوس ،
وبحاجة إلى معول نبيٍّ للقضاء عليه.
‎والنار مازالت مشتعلة ، ولكنها ليست بردًا ولا سلامًا على أجسادٍ تُشوى ، والغانيات ما زلن يرقصن فوق جمرها ، في خفَّةٍ ورشاقةٍ ، وتجتهدن في الابتذال ، ظنًّا منهن أن هذه الكيانات التي يطالعنها لديها نفوسا مذكرة ، وفي خبيئةِ هذه السراويل ، أعضاءٌ تصبوا إليهن

. ‎العيون الشبقة ،
ترقب حلول الربيع ، ليزيح الزمهرير وقسوته ويأسرنا بألوانه الصاخبة ، صخب الحياة البريئة من صخب البارود

، . ‎صناع الآلهة لم
يتوقفوا بعد ، فتلك بضاعتهم الرائجة ، التي من أجلها تسن النِّصال ، ويتصدر الموت فوهات المدافع ،
تلك المصوبة للصدور العارية ، فمن يعيرها دروع الخالدين ، واقتحام الفاتحين ، وترفُّع الزاهدين ؟!
‎القطة كانت تقفز وتثب ، لتستردَّ صغارها من العدم ، فمن تراه منا يرقى مرقاها ؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى