ليصنع تاريخًا متفردًا بذاته، قفز محمد مستجاب من فوق أسوار قلعة الستينيات المجيدة، فنجا من مذبحة الأيديولوجيا، والتغني بحكايات المعتقلات والمنافي، فصنع مذاقًا خاصًا للسرد لا تعرف فيه الواقع من المتخيل، ولا الذاتي من الموضوعي. نجا بنفسه، ولكنه ظل شاردًا -في نظر النقاد – لا يمكنهم تصنيفه، أو توظيفه، ولا يعرفون في أي أرض يعيش. لهذا يحق لي أن استخدم هذه الكلمة”مستجابيات” للتعبير عن حيرتي في تصنيف سلسلة الكتابات الأخيرة التي أصدرها محمد مستجاب قبل رحيله، مستفيدًا في هوامشها ومتنها من لقبه الذي خلعه على أبطاله، فجللهم بالفخار والعار، وجعل منهم حكماء وحمقى وأمراء وصعاليك ومماليك، على نحو ما نرى في مستجاب الأول والثاني من آل مستجاب، إلى آخر مستجابياته في”الفاضل والبأف والكلب”.
يقول مستجاب الكاتب، عن مستجاب المكتوب عنه فِي البشارة: “ويكون لك ولد ذكر من صلبك، تضيع عينه اليمنى جهلًا، واليسرى ثقافة، يهلك أطنانًا من التبغ والورق وأبيات الشعر والشاي ومكعبات الثلج وآيات التكوين والمبادئ والملوك والخفراء والثرثرة والشعارات والوزراء، ويكون رءومًا قلقًا جامحًا، جامعًا لصفات الكلاب والعصافير والحنظل والحشرات والأبقار، يداهمكم بقصصه القصيرة حتى يقضي نحبه مجللًا بالفخار في العراء على قارعة الوطن”[1]
بهذا التركيب المتداخل، المتدفق والصاخب، يتماهى مستجاب الكاتب في مستجاب المكتوب عنه، ويلتبس كل منها بالآخر في كل لحظة، فلا تعرف حدودًا للشخصية الروائية عنده، فجميع آل مستجاب (المكتوبين والذين على قائمة الانتظار) يبدون تمثيلًا لفكرة مجردة، وتجسيدًا لشخصية واحدة ممتدة، تجمع العديد والمتناقض من الصفات، التي تصلح لشخصيات شتى، ومن ثم هي قابلة للتشكيل والكتابة مرات ومرات؛ فتكتسب قدرًا من شرعية الوجود، واستقلالية الحياة، وتفرد الملامح، وعلى الرغم من معرفتنا، بأننا أمام شخصية افتراضية، ومكتوبة من نسج الخيال ليس إلا، فإننا نتفاعل معها، ونتتبع تحولاتها، ومآزقها، ونتحمل حماقاتها ونتأسى لإخفاقاتها، بل ويمكننا قراءة كل عمل جديد عن آل مستجاب، على ضوء التاريخ السري للسلف، والذي تلصصنا عليه ونحن نقرأ مستجابًا سابقًا عليه.
هكذا يُوضع القاريء في حالة معايشة كاملة لآل مستجاب، ليصبح واحدًا من أفراد العائلة الخيالية، لكن شيئًا واحدًا يبقى، فالقاريء لا يعيش حالة الإيهام التي تكرسها الواقعية بنزوعها الانطباعي لأن تكون مرآة عاكسة للواقع. فتقنيات السرد وأساليبه، بما فيها من تهكمية حادة ومؤلمة أحيانًا، تكسر الإيهام، فضلًا عن الحضور الضمني للمؤلف الذي نعرفه جسدًا ونصًا بين سطور الكتابة، والتي تتسق إلى حد كبير، مع الممارسات الحية في الحياة الأدبية التي نعرفها عن محمد مستجاب الكاتب، فتثير دهشتنا أيضًا، تمامًا كما يدهشنا مستجاب المكتوب، هكذا نجحت كتابة “المستجابيات” أن تجعل من نفسها أيقونة، دالة على كاتبها تظل حاضرة في أذهاننا مهما غيبته السنون، أو الأنظمة المتثاقفة، أو دور النشر.
في طفولتي كنت مُكبًّا على قراءة مجلتيِّ”سمير” و”ميكي” بشغف طفل تلعب بعقله الأخيلة، كنت أعرف أن (ميكي) بملامحه الفئرانية، شخصية (كوميكس) لأن أفلام (ميكي ماوس) القصيرة كانت افتتاحيات أساسية في دور السينما المصرية.
أما (سمير) فله ملامح وروح ولغة طفل مصري، حتى أنني كنت أسأل نفسي: من هو سمير؟ وأين يقيم؟ وظننت أنه كاتب الأشعار المنشورة في المجلة باسم (سمير عبدالباقي)، صار سمير قريني المتخيل أكلمه وأحلم به، وأتمنى أن أقابله، أصبح (سمير) في خيالي شخصًا حقيقيًا له بيت وحياة وعائلة، كنت أكبر وسمير (بعده صغير عم يلعب عَ التل) ولأنني صرت رجلًا، تخليت عن صديقي الصغير ونسيته تمامًا، ذات يوم كنت في المركز الثقافي الروسي ورأيت رجلًا يعتلي المنصة، وينشد شعرًا ثوريًا ملتهبًا، سألت جاري، من هذا الشاعر فقال: سمير عبدالباقي، على الفور تذكرت صديقي القديم، ولكني لم أتصور أن ذلك الثوري الغاضب، هو نفسه (سمير) رفيق طفولتي الملهم الذي طالما حفظت أشعاره البسيطة وقلدتها، بعد سنوات أتيح لي أن أجالس العم (سمير عبدالباقي) مَنْكَبًا إلى منكبٍ، وحكيت له- على سبيل المسامرة- عن (سمير) طفلي الداخلي، طفرت عيناه بالدموع، وأخبرني أنه هو الذي كان يكتب الأشعار لمجلة سمير، هكذا صار المتخيل حقيقيًّا، وصار الطفل كهلًا، لكن الدموع التي تحدرت على شاربه الكث، كشفت عن الطفل القابع بداخله، فما كان مني إلا أن احتضنته، وهمست في أذنه: أخيرًا يا صديقي الصغير، كنت أبحث عنك منذ خمسين سنة!
أقسم أنني رأيت بداخل محمد مستجاب طفلًا لعوبًا، ونزقًا، يشاغلنا بالألغاز والحيل الفنية، والمقالب، والمداعبات البريئة مرة، والقاسية أخرى، حانيًا وبسيطًا مرة، وغاضبًا وعاصفًا أخرى، شخصية حدية تندفع وراء مشاعرها بتلقائية تجعله طازجًا دائمًا، مهما تكررت نكاته وشخصياته وتعبيراته اللغوية، وهذا يعني أن مستجاب يكتب نصًا واحدًا، ممتدًا ولا ينتهي، ولا تنغلق أبوابه بحبكة ولا تنفرد بتقنية، وإنما تظل تتدفق معانيه وتتوالد لغته وتتكاثر أحداثه من داخل عالم خاص وشخصي هو عالم محمد مستجاب ذاته، وظني أن مستجاب الكاتب اكتشف هذا العالم في تلك اللحظة التي عثر فيها على نعمان عبدالحافظ فوق حماره، والذي ربما رآه أيضًا شخصية كاريكاتورية، كشخصية (سمير) قد تكون أسرته في طفولته.
أما (الكارتونيزم) ذلك المصطلح الذي استخدمته في حالات مشابهة لأشير به إلى طريقة كتابة، ونظرة إلى الواقع تجرده من أقنعته، وليس مجرد أسلوب، هو ملمح مرتبط بشخصية الكاتب، يعكس وعيًا فلسفيًا جديدًا، ويتخلق في سياق ما بعد حداثي يرتبط بسمت (الباروديا) أو المحاكاة الساخرة، وهذه النزعة التهكمية، هي التي استوحيتُ منها شخصيات روايتي “فوق الحياة قليلًا”[2] حيث كان محمد مستجاب نفسه، أحد أبطالها غير أن حضوره الطاغي في وجداني، أجبرني على أن أستدعيه مرة أخرى في رواية “الحالة دايت”.
أسلوب مستجاب يتميز بطاقة من التخييل الملتبس بين المجازي والحقيقي والفانتازي والواقعي والشعري والنثري، وهو شيء مختلف عن واقعية ماركيز السحرية، وكابوسية كافكا، وهذا فقط تنويه وتنبيه.
مستجاب ضالع في (الباروديا) كما أن جورج أورويل- الأكثر مأساوية ومباشرة- ضالع فيها أيضًا، ومستجاب ضالع في خلق شخصيات كاريكاتورية، فيجعل من ذاته وصفاته ندوبًا وعلامات في ملامح شخصياته، وهو يلعب بها ولكنه لا يلعب معها كما يفعل والت ديزني، فمستجاب وإن بدا للبعض طفلًا في إبداعه فهو طفل واعر وليس بريئًا بالمرة، أما هو نفسه فكان يصف كتابته بأنها شريرة.
وفي ظني أن مستجاب أقرب شبهًا بالمسرحي الفرنسي الشهير (ألفريد جاري) مخترع شخصية (أوبو) الملك الأحمق، ومؤسس المسرح السوريالي، الذي اتخذ طابعًا تهكميًا، فتحول إلى ظاهرة مسرحية في مناهضة الواقعية، عرفت بحركة الاحتجاج والتناقض.
وبهذه الطريقة الفريدة في الكتابة؛ يبدو لي أن محمد مستجاب- يمثل في حد ذاته- ظاهرة أدبية متفردة في إبداعه المكتوب، بل وفي إبداعه اللحظي المحير والمثير للدهشة، والمؤثر في الحياة اليومية لمجتمع الأدباء والمثقفين، فتعليقاته وأسئلته ومداخلاته وجلبابه وطريقته في التعامل، كل شيء فيه يدفعك إلى الاعتقاد بأنك أمام أديب استثنائي، وهذه التركيبة المعقدة من خشونة المظهر، وحدة الذكاء، وطلاقة اللسان، وحمية الطباع، وتلقائية التواصل، وعمق المعاني، كل هذا ليس فقط تمثيلًا لمحمد مستجاب الكاتب، ولكنه يمثل أيضًا كتابات مستجاب نفسها، بما يعني أنه لا توجد مسافة بين ذاته وكتاباته. لصفات كهذه جسدته في شخصية (أبو الشمقمق) شاعر الكدية العربي الذي عاش في عصر خلافة الرشيد، وصف بأنه يهزل كثيرًا ويجد أكثر.
إن كتابات مستجاب تطرح نفسها كنموذج مناقض ومتهكم من تصوراتنا عن القصة القصيرة، بوصفها انعكاسًا للواقع، ونافذة نطل منها عليه، كما كتبها الكثير من كتاب جيله، فانهمكوا في غنائية مستهلكة، وشعارات خاوية، ووطنيات طائشة. نصوص مستجاب تقدم التثميل الأكثر اكتمالًا عن القصة بوصفها ظاهرة ثقافية قادرة على إعادة إنتاج نفسها في أشكال وأساليب وآفاق معرفية متعددة ومختلفة وربما متناقضة.
ولعل ما نقصده بأن كتاباته السردية، تمثل ظاهرة ثقافية، يحتاج إلى مقارنة عابرة بينه وبين كاتب جنوبي آخر؛ يحيى الطاهر عبدالله؛ بوصفه أيقونة على أدب الجنوب، ما زالت قيد الاستنساخ والتقليد عند الكثيرين، أما تجربة مستجاب فهي عصية على الاستنساخ، ربما لأن جلبابه محبوك على مقاسه وحده حتى لتظن أنه مولود به، أعني: إن طريقة مستجاب التي انفرد بها وانفردت به، لن تسمح لأحد أن ينسج على منواله دون أن يبدو مقلِّدًا كقرد.
لهذا فلطالما كنت أعتقد أن النقد المدرسي المنظم- محدد الأهداف والوسائل- لا يمكنه أن يحيط إحاطة آمنة بكتابات مستجاب التي تتصعلك على القراء وتتعالى على النقاد وتتذاكى على الساسة والشرطيين، وتتلاعب بالعقول والمشاعر والسياقات المعرفية؛ فتدمج الواقعي في الخيالي، والتاريخي في الآني، والمقدس في العادي، واليومي في الاستثنائي، والجد في الهزل- وأيضًا- العلم في الخرافة والحكمة في الحماقة.
ويكفيك أن تُلقي نظرة على غلاف كتابه المعروف (مستجاب الفاضل، هذا ليس كتاب البأف، كلب آل مستجاب)”[3] لتشعر بالحيرة والغيظ لأن أحدهم يسخر مما اعتدناه في غلاف رواية، فالكتاب يحمل عناوين ثلاثة تبدو أن لا علاقة بينها في المعنى أو في”بنط”الكتابة، أو حتى في اللون، وأسفل العناوين الثلاثة صورة لمستجاب تغيظك بنصف ابتسامة ساخرة، ونصف نظرة شريرة إذا نظرت لها بعين مخرج سينمائي، أو ماكرة إذا كنت مهذبًا كأديب، ولكنها نظرة لعينين يقول عنهما في إحدى رواياته: ضاعت إحداهما جهلًا وضاعت الأخرى ثقافة، ولاحظ المفارقة الساخرة من ذاته وشخصياته ومن درامية الحياة بضربة واحدة، يتشكل العنوان كسلم في أعلاه الفاضل وفي أسفله الكلب، ويمكنك أن تخمن دلالة هذا السلم إن شئت، ولا تنس أنه اعتاد في عناوين كتبه السابقة أن يمنح أبطاله من آل مستجاب أرقامًا كأنهم من صنف الملوك، على نحو ما نقول (ريتشارد الثاني ولويس التاسع) لكنه في هذا الكتاب يخبرنا أنه:”احتار وفكر وبحث عن رقم يناسب الأخير من آل مستجاب الذين خلدهم جميعًا وسطر سيرهم فجعل منهم وجهاء وصعاليك وحكماء وحمقى، ولما أعيته السبل ولم تسعفه ذاكرة الديجتال أطلق عليه الفاضل؛ ثم وضع في عقبيه الكلب والبأف”[4]
هكذا يكون الانحطاط سليل المجد ووليد الفضيلة على غير ما ألفنا في الشائع والمطروق، وكان قد اختبر الأرقام كلها ووجدها تضيق عن صفات بطله هذا الأخير من آل مستجاب، فخرج (الفاضل) بلا رقم يميزه عن الآخرين، وهو بذلك يفلته من مصير مشئوم، أو من ميتة مفضوحة كتلك التي أماتها للخامس من آل مستجاب في محل للأدب (مرحاض) ومع ذلك فالفاضل أيضًا ينتهي إلى نهاية أبشع وأعنف وأكثر مدعاة للسخرية مثله مثل آل بيته السابقين، إذ يموت الفاضل ولا يجد أهله تكاليف الدفن والعزاء فيقترح أذكاهم وأحكمهم بيع جثمان الفقيد إلى طلبة كلية الطب الذين عملوا على تقطيعه، وتثمين أعضائه، فتفرقت أشلاؤه بين العباد والبلاد والمعامل والثلاجات، فيما مضى آل مستجاب رافعين النعش خاويًا، ووقفوا يتلقون العزاء بكبرياء وعظمة تليق بالفاضل، هذا مشهد دال على مجتمع خاو من الفضيلة يصنع أبطالًا وهميين ثم يعود يمزقهم ويبيعهم.
وهكذا، فأعمال مستجاب تضرب في عمق ثقافة المجتمع كله، ولا تقف عند حدود بيئتها الجغرافية كمجرد مرآة عاكسة، إن شخصية الصعيدي عند مستجاب تتمرد على صورتها النمطية الموسومة بالشهامة والمروءة وصلابة المراس، ربما بسبب نزوعها التجريدي، وهذا ما يجعلها مختلفة عن شخصية الصعيدي العاكسة لواقع بيئتها عند يحيى الطاهر عبدالله، غير أن هذه النزعة التجريدية في قصص مستجاب، وضعتها في فضاء ثقافي ثري ومتعدي الدلالة.
وتأكيدًا لمعنى القصة عند مستجاب كفضاء ثقافي، فإن كتابات مستجاب هي خليط بين السيرة الذاتية، والسيرة الشعبية، والقصة والرواية، والمَقامة والنقد، والكوميديا والتراجيديا، أو التنكيت والتبكيت أو الحكمة والجنون، ثم هي ليست سردًا خالصًا، ولا إخبارًا تامًا، ولا تأملًا فقط، إنما هي خليط بين كل ذلك، بحيث تبدو الحكاية ظلًا في وسيط أقرب إلى الكلام منه إلى اللغة، تذكرنا بكتابات الجاحظ في تنقله الحر بين المعاني والألفاظ، واستخدامه لأساليب تشبه في حركتها الكر والفر، فتُصرح أحيانًا وتلمح في أحيان أخرى، أو تتداخل بين الجد والهزل وتأخذ من كل شيء بطرف دونما ترهل، لذلك فهي على قدر ما تُحدثه لك من الإمتاع والمؤانسة، تثير دهشتك وغيظك في آن واحد، لأنك ستدرك بعد وقت أن سخريته تتجاوز السخرية من أبطاله إلى قرائه، ومن واقعه المتخيل إلى واقعنا المعاش، لهذا فحين تقرأ مستجاب فكن حذرًا، فأنت تمشي في أرض مليئة بالأنصال والصخور والأشواك البرية، تغطي تحتها ألغامًا يمكنها أن تنفجر في أي وقت، أنت مع مستجاب يجب أن تظل يقظًا متوترًا ومنتبهًا لكل حرف وكل إشارة، فالغافل والمستكين والمهادن لا مكان له على مائدة مستجاب الحافلة بالشر الجميل، مستترة بلغة تتقافز من معنى إلى آخر في تراكم هائل وتلاعب مثير ليزيد من استلابك وجرك إلى حقول ألغامه، فالطمأنينة في الموت كما يقول في قصة كوبري البغيلي :”والتسليم بالبديهيات والوثوق التام في نواميس الطبيعة وأقانيم الأدب يخلو تمامًا من الحكمة”.[5]
وقصص مستجاب لا تنحني للأداء الآلي المتراتب المرتب، ولا تستقيم مع التحريك النمطي للأحداث والحوارات والشخصيات وكل عناصر القص المعدة سلفًا كدجاج كنتاكي، ولكنها تمثيل جيد لروح المغامرة وكسر السياقات واختراق المألوف، ليس الحكائي فقط، ولا حتى اللغوي كذلك، بل والأسلوبي أيضًا.
وإن بدا التحريك التقني شاحبًا في قصص مستجاب، فليس مرده انعدام الحيلة بقدر ما هو تجنب التحايل، فمستجاب ليس بحاجة إلى حيل التقديم والتأخير أو الإفصاح والتعتيم، ولا هو في حاجة إلى توزيع الزمن، لأن لغته وتدفق أساليبه يعملان طوال الوقت على خلخلة مثل هذه المركزيات السردية، وتذويبها حتى تتماهى معالمها، وتنتهي إلى قوام ثقافي عام أكثر منه أدبًا، إخباري أكثر منه حكائي، إشاري أكثر منه دلالي، لكننا في سياق (اللهو الخفي)[6] لا نشعر بجرعات الثقافة الثقيلة المريرة، ربما لأن (الحزن يميل إلى الممازحة) كما يقول في أحد عناوين قصصه، فتكتسب طعم السكر المحروق.
وظني أن ثمة خاصية لا يمكن دراسة كتابات مستجاب بمعزل عنها؛ وهي أن السرد عنده أقرب إلى الأداء منه إلى الحكي، وحيث الحكي من المحاكاة، وحيث الأداء كسر للحكاية يستهدف إيقاظ الوعي على نحو ما يسميه الخواجة (بريخت) إسقاط الإيهام، أو يسميه (آرتو) مسرح القسوة فيصدم مشاهديه ويؤلمهم عندما يكشف عن أبعاد الشر الكامن في واقعهم الجميل.
الناس في”ديروط الشريف” تُقتل أو تموت في الشرفات أو على ظهور الحمير أو في المساجد والترع والغيطان وعلى قارعة الطريق بلا سبب أو معنى.
ولعل روح الأداء المسرحي، وأسلوب المبالغة الدرامية، هو الذي حمل شخصياته من آل مستجاب إلى مرتبة الأبطال التاريخيين، في الوقت ذاته، هو الذي أضحكنا على مصائرهم (الدون كيشوتية) في”نعمان عبدالحافظ”، و”قيام وانهيار آل مستجاب”، فتتحول إلى شخصيات ثلاثية الأبعاد تعيش في الواقع والتاريخ والنص، وكل هذا يضفي سمتًا ملحميًّا على عالم مستجاب وطبيعة الأداء السردي، ما يجعله أقرب إلى راوي السيرة منه إلى الروائي أو القاص، وهو ما أحب تسميته بالملمح الهومري نسبة إلى هوميروس، وهذا الملمح قد يفسر حيرتنا في تصنيف بعض كتابات مستجاب، من ذلك مثلًا كتابه الأخير في سلسلة المستجابيات عن الفاضل والبأف والكلب، فهل هو رواية واحدة من عدة فصول؟ أم مجموعة قصص طويلة؟ أم هو مجموعة روايات قصيرة؟ فإحالات الفصل والوصل بين كتابات مستجاب منذ (الأول) وحتى (الفاضل) تبدو شديدة التداخل والتركيب حتى لتبدو مجموعة المستجابيات كما قلنا من قبل: نصًا واحدًا لم ينته بعد، كما يفسر الأداء الملحمي تلك الإشارات الكثيرة التي ترد في نصوص لاحقة عن أخرى سابقة، بما يعني أن عمليات التناص تتم على قدم وساق في نصوص مستجاب، ولكنه تناص داخلي، يضمن للنصوص إيقاعًا هارمونيًا خاصًا، ومفعمًا بكثير من تقنيات الترديد والتنغيم وربما التجويد الذي يقارب العزف المنفرد.
وعلى القاريء أن يكون منتبهًا لهذا الملمح؛ فالقاريء الذي لا يعايش عالم مستجاب ولا يقيم فيه منذ البداية، ربما لا يستطيع أن يتواصل معه، وربما لهذا السبب فإن كتابات مستجاب محل خلاف كبير بين القراء، وهو خلاف يتجاوز التقييم الشخصي إلى الإدراك الذهني، فكتابات مستجاب مثل حلقات تتواتر وينبني بعضها على البعض الآخر، لكنه ليس فقط بناءً موضوعيًا يمكن إدراكه وتوقعه، هو بناء ذهني وجمالي وأسلوبي، فقصة “تحميل على عالم نجيب محفوظ” من مجموعة “الحزن يميل للممازحة”[7] لا تبني لك موضوعًا ولا تقدم فكرة، بقدر ما تفكك صورة العالم المحفوظي المتماسك عندما يختبر شخصياته، ويضعهم في مأزق بسيط من ذلك الذي يعانيه الناس في حياتهم اليومية، إنها صورة تكاد تسخر من كل المعاني الأدبية، والقيم الفنية في مواجهة التجربة الإنسانية المُعاشة، التي هي في نهاية الأمر نص أدبي أيضًا، وهنا تكمن المفارقة الساخرة، وتنسحب على محمد مستجاب نفسه. فالسخرية ليست موجهة لشخص نجيب محفوظ في ذاته، بل بوصفه أيقونة تجسد صورة الأديب عامة. تلك القدرة على المراوغة، ومهارات التورية التي تجعل المعاني ملتبسة على القاريء، تجعل كتابات مستجاب مستعصية على النقد الأكاديمي ومناهجه الصارمة، لهذا أعتقد أن الطريقة المثلى لنقد نصوص مستجاب، تكتمل باختبارها في فضاء ثقافي عام، عندئذ فأنت لن تخرج من عالمه بتنهيدة تطهير أرسطية بقدر ما تشحنك بالانفعالات المتباينة، ربما، لأن مستجاب يدرك مدى صعوبة التواصل معه، فهو يلجأ أحيانًا إلى استدراكات من أعماله السابقة يضمنها أعماله اللاحقة، وهي حيلة تجد مبررها الفني في طابع الأداء الملحمي الذي أشرنا إليه بقولنا إنه يكتب نصًا لا ينتهي.
يقول في مستجاب الفاضل؛ شاحذًا ذهن القاريء إلى إحالات مستجابية سابقة: “إلا أن الفاضل مستجاب اكتسب صفة الفضيلة ـ في اسمه كما يشاع بين أهله- رفضًا للترتيب الرقمي، لأمر آخر غير ما يجري في المأكل والمشرب والتراحم ونفاذ البصيرة والنظافة والأناقة والرجولة وجودة الخطـ أو حسن الحظ تهربًا من كبوات الحروف في المطابع- لانتباه الفاضل إلى أن قومه في حاجة قصوى إلى الإحساس العارم بالكبرياء، الكبرياء المنيرة الهادئة التي حملتها الأشعار والمواويل والحكم والأمثال والطرائف، دون الانتباه إلى ضآلتها وضعفها- بل وندرتها- في الاحتكاك والتعامل والحركة والمصارعة- أو التصارع- والوقوف والجلوس والتلاعب والمساندة والإنصات والحوار والمرح”[8]
هكذا تتدفق اللغة وتتداعى الخواطر وتزدحم الأفكار لتحقق الإمتاع والمؤانسة عندما تدل اللغة ولا تعني، فتفكك أربطة الوعي وتخلخل مفاصل الوجدان، عندما تتصادم بتناقضاتها وخروقاتها للسياقات الحكائية بجمل اعتراضيه (مثل تعليقه على الأخطاء الطباعية) تنطلق كرصاصات طائشة فلا تعرف متى ولا إلى أين تنطلق، أما إذا كنت تمشي على أرض ملغومة أصلًا، فليس أمامك وأنت تقرأ مستجاب إلا الانسحاب السريع وإيثار السلامة، أو التسليم ورفع الراية البيضاء ليأخذك مستجاب أسيرًا في عالمه الذي يشبه المتاهة.
[1] – محمد مستجاب: الفاصل والبأف والكلب – ثلاث روايات قصيرة – الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة – 2004م
[2] – يمكن الرجوع إلى روايتي (فوق الحياة قليلا – الحالة دايت) صدرتا في مطبوعة واحدة – دار روافد -القاهرة -2017م
[3]-محمد مستجاب: مستجاب الفاضل، هذا ليس كتاب البأف، كلب آل مستجاب) الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة – القاهرة -2004م
[4] – محمد مستجاب: السابق.
[5] – محمد مستجاب: كوبري البغيلي من قصص (ديروت الشريف ) – مكتبة مدبولي ـ القاهرة – 1986م
[6] عنوان أحد أعمال محمد مستجاب
[7] – محمد مستجاب: الحزن يميل للممازحة (قصص) الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة الأسرة – 2006م
[8] – محمد مستجاب: مستجاب الفاضل – سابق
بقلم: سيد الوكيل
يقول مستجاب الكاتب، عن مستجاب المكتوب عنه فِي البشارة: “ويكون لك ولد ذكر من صلبك، تضيع عينه اليمنى جهلًا، واليسرى ثقافة، يهلك أطنانًا من التبغ والورق وأبيات الشعر والشاي ومكعبات الثلج وآيات التكوين والمبادئ والملوك والخفراء والثرثرة والشعارات والوزراء، ويكون رءومًا قلقًا جامحًا، جامعًا لصفات الكلاب والعصافير والحنظل والحشرات والأبقار، يداهمكم بقصصه القصيرة حتى يقضي نحبه مجللًا بالفخار في العراء على قارعة الوطن”[1]
بهذا التركيب المتداخل، المتدفق والصاخب، يتماهى مستجاب الكاتب في مستجاب المكتوب عنه، ويلتبس كل منها بالآخر في كل لحظة، فلا تعرف حدودًا للشخصية الروائية عنده، فجميع آل مستجاب (المكتوبين والذين على قائمة الانتظار) يبدون تمثيلًا لفكرة مجردة، وتجسيدًا لشخصية واحدة ممتدة، تجمع العديد والمتناقض من الصفات، التي تصلح لشخصيات شتى، ومن ثم هي قابلة للتشكيل والكتابة مرات ومرات؛ فتكتسب قدرًا من شرعية الوجود، واستقلالية الحياة، وتفرد الملامح، وعلى الرغم من معرفتنا، بأننا أمام شخصية افتراضية، ومكتوبة من نسج الخيال ليس إلا، فإننا نتفاعل معها، ونتتبع تحولاتها، ومآزقها، ونتحمل حماقاتها ونتأسى لإخفاقاتها، بل ويمكننا قراءة كل عمل جديد عن آل مستجاب، على ضوء التاريخ السري للسلف، والذي تلصصنا عليه ونحن نقرأ مستجابًا سابقًا عليه.
هكذا يُوضع القاريء في حالة معايشة كاملة لآل مستجاب، ليصبح واحدًا من أفراد العائلة الخيالية، لكن شيئًا واحدًا يبقى، فالقاريء لا يعيش حالة الإيهام التي تكرسها الواقعية بنزوعها الانطباعي لأن تكون مرآة عاكسة للواقع. فتقنيات السرد وأساليبه، بما فيها من تهكمية حادة ومؤلمة أحيانًا، تكسر الإيهام، فضلًا عن الحضور الضمني للمؤلف الذي نعرفه جسدًا ونصًا بين سطور الكتابة، والتي تتسق إلى حد كبير، مع الممارسات الحية في الحياة الأدبية التي نعرفها عن محمد مستجاب الكاتب، فتثير دهشتنا أيضًا، تمامًا كما يدهشنا مستجاب المكتوب، هكذا نجحت كتابة “المستجابيات” أن تجعل من نفسها أيقونة، دالة على كاتبها تظل حاضرة في أذهاننا مهما غيبته السنون، أو الأنظمة المتثاقفة، أو دور النشر.
في طفولتي كنت مُكبًّا على قراءة مجلتيِّ”سمير” و”ميكي” بشغف طفل تلعب بعقله الأخيلة، كنت أعرف أن (ميكي) بملامحه الفئرانية، شخصية (كوميكس) لأن أفلام (ميكي ماوس) القصيرة كانت افتتاحيات أساسية في دور السينما المصرية.
أما (سمير) فله ملامح وروح ولغة طفل مصري، حتى أنني كنت أسأل نفسي: من هو سمير؟ وأين يقيم؟ وظننت أنه كاتب الأشعار المنشورة في المجلة باسم (سمير عبدالباقي)، صار سمير قريني المتخيل أكلمه وأحلم به، وأتمنى أن أقابله، أصبح (سمير) في خيالي شخصًا حقيقيًا له بيت وحياة وعائلة، كنت أكبر وسمير (بعده صغير عم يلعب عَ التل) ولأنني صرت رجلًا، تخليت عن صديقي الصغير ونسيته تمامًا، ذات يوم كنت في المركز الثقافي الروسي ورأيت رجلًا يعتلي المنصة، وينشد شعرًا ثوريًا ملتهبًا، سألت جاري، من هذا الشاعر فقال: سمير عبدالباقي، على الفور تذكرت صديقي القديم، ولكني لم أتصور أن ذلك الثوري الغاضب، هو نفسه (سمير) رفيق طفولتي الملهم الذي طالما حفظت أشعاره البسيطة وقلدتها، بعد سنوات أتيح لي أن أجالس العم (سمير عبدالباقي) مَنْكَبًا إلى منكبٍ، وحكيت له- على سبيل المسامرة- عن (سمير) طفلي الداخلي، طفرت عيناه بالدموع، وأخبرني أنه هو الذي كان يكتب الأشعار لمجلة سمير، هكذا صار المتخيل حقيقيًّا، وصار الطفل كهلًا، لكن الدموع التي تحدرت على شاربه الكث، كشفت عن الطفل القابع بداخله، فما كان مني إلا أن احتضنته، وهمست في أذنه: أخيرًا يا صديقي الصغير، كنت أبحث عنك منذ خمسين سنة!
أقسم أنني رأيت بداخل محمد مستجاب طفلًا لعوبًا، ونزقًا، يشاغلنا بالألغاز والحيل الفنية، والمقالب، والمداعبات البريئة مرة، والقاسية أخرى، حانيًا وبسيطًا مرة، وغاضبًا وعاصفًا أخرى، شخصية حدية تندفع وراء مشاعرها بتلقائية تجعله طازجًا دائمًا، مهما تكررت نكاته وشخصياته وتعبيراته اللغوية، وهذا يعني أن مستجاب يكتب نصًا واحدًا، ممتدًا ولا ينتهي، ولا تنغلق أبوابه بحبكة ولا تنفرد بتقنية، وإنما تظل تتدفق معانيه وتتوالد لغته وتتكاثر أحداثه من داخل عالم خاص وشخصي هو عالم محمد مستجاب ذاته، وظني أن مستجاب الكاتب اكتشف هذا العالم في تلك اللحظة التي عثر فيها على نعمان عبدالحافظ فوق حماره، والذي ربما رآه أيضًا شخصية كاريكاتورية، كشخصية (سمير) قد تكون أسرته في طفولته.
أما (الكارتونيزم) ذلك المصطلح الذي استخدمته في حالات مشابهة لأشير به إلى طريقة كتابة، ونظرة إلى الواقع تجرده من أقنعته، وليس مجرد أسلوب، هو ملمح مرتبط بشخصية الكاتب، يعكس وعيًا فلسفيًا جديدًا، ويتخلق في سياق ما بعد حداثي يرتبط بسمت (الباروديا) أو المحاكاة الساخرة، وهذه النزعة التهكمية، هي التي استوحيتُ منها شخصيات روايتي “فوق الحياة قليلًا”[2] حيث كان محمد مستجاب نفسه، أحد أبطالها غير أن حضوره الطاغي في وجداني، أجبرني على أن أستدعيه مرة أخرى في رواية “الحالة دايت”.
أسلوب مستجاب يتميز بطاقة من التخييل الملتبس بين المجازي والحقيقي والفانتازي والواقعي والشعري والنثري، وهو شيء مختلف عن واقعية ماركيز السحرية، وكابوسية كافكا، وهذا فقط تنويه وتنبيه.
مستجاب ضالع في (الباروديا) كما أن جورج أورويل- الأكثر مأساوية ومباشرة- ضالع فيها أيضًا، ومستجاب ضالع في خلق شخصيات كاريكاتورية، فيجعل من ذاته وصفاته ندوبًا وعلامات في ملامح شخصياته، وهو يلعب بها ولكنه لا يلعب معها كما يفعل والت ديزني، فمستجاب وإن بدا للبعض طفلًا في إبداعه فهو طفل واعر وليس بريئًا بالمرة، أما هو نفسه فكان يصف كتابته بأنها شريرة.
وفي ظني أن مستجاب أقرب شبهًا بالمسرحي الفرنسي الشهير (ألفريد جاري) مخترع شخصية (أوبو) الملك الأحمق، ومؤسس المسرح السوريالي، الذي اتخذ طابعًا تهكميًا، فتحول إلى ظاهرة مسرحية في مناهضة الواقعية، عرفت بحركة الاحتجاج والتناقض.
وبهذه الطريقة الفريدة في الكتابة؛ يبدو لي أن محمد مستجاب- يمثل في حد ذاته- ظاهرة أدبية متفردة في إبداعه المكتوب، بل وفي إبداعه اللحظي المحير والمثير للدهشة، والمؤثر في الحياة اليومية لمجتمع الأدباء والمثقفين، فتعليقاته وأسئلته ومداخلاته وجلبابه وطريقته في التعامل، كل شيء فيه يدفعك إلى الاعتقاد بأنك أمام أديب استثنائي، وهذه التركيبة المعقدة من خشونة المظهر، وحدة الذكاء، وطلاقة اللسان، وحمية الطباع، وتلقائية التواصل، وعمق المعاني، كل هذا ليس فقط تمثيلًا لمحمد مستجاب الكاتب، ولكنه يمثل أيضًا كتابات مستجاب نفسها، بما يعني أنه لا توجد مسافة بين ذاته وكتاباته. لصفات كهذه جسدته في شخصية (أبو الشمقمق) شاعر الكدية العربي الذي عاش في عصر خلافة الرشيد، وصف بأنه يهزل كثيرًا ويجد أكثر.
إن كتابات مستجاب تطرح نفسها كنموذج مناقض ومتهكم من تصوراتنا عن القصة القصيرة، بوصفها انعكاسًا للواقع، ونافذة نطل منها عليه، كما كتبها الكثير من كتاب جيله، فانهمكوا في غنائية مستهلكة، وشعارات خاوية، ووطنيات طائشة. نصوص مستجاب تقدم التثميل الأكثر اكتمالًا عن القصة بوصفها ظاهرة ثقافية قادرة على إعادة إنتاج نفسها في أشكال وأساليب وآفاق معرفية متعددة ومختلفة وربما متناقضة.
ولعل ما نقصده بأن كتاباته السردية، تمثل ظاهرة ثقافية، يحتاج إلى مقارنة عابرة بينه وبين كاتب جنوبي آخر؛ يحيى الطاهر عبدالله؛ بوصفه أيقونة على أدب الجنوب، ما زالت قيد الاستنساخ والتقليد عند الكثيرين، أما تجربة مستجاب فهي عصية على الاستنساخ، ربما لأن جلبابه محبوك على مقاسه وحده حتى لتظن أنه مولود به، أعني: إن طريقة مستجاب التي انفرد بها وانفردت به، لن تسمح لأحد أن ينسج على منواله دون أن يبدو مقلِّدًا كقرد.
لهذا فلطالما كنت أعتقد أن النقد المدرسي المنظم- محدد الأهداف والوسائل- لا يمكنه أن يحيط إحاطة آمنة بكتابات مستجاب التي تتصعلك على القراء وتتعالى على النقاد وتتذاكى على الساسة والشرطيين، وتتلاعب بالعقول والمشاعر والسياقات المعرفية؛ فتدمج الواقعي في الخيالي، والتاريخي في الآني، والمقدس في العادي، واليومي في الاستثنائي، والجد في الهزل- وأيضًا- العلم في الخرافة والحكمة في الحماقة.
ويكفيك أن تُلقي نظرة على غلاف كتابه المعروف (مستجاب الفاضل، هذا ليس كتاب البأف، كلب آل مستجاب)”[3] لتشعر بالحيرة والغيظ لأن أحدهم يسخر مما اعتدناه في غلاف رواية، فالكتاب يحمل عناوين ثلاثة تبدو أن لا علاقة بينها في المعنى أو في”بنط”الكتابة، أو حتى في اللون، وأسفل العناوين الثلاثة صورة لمستجاب تغيظك بنصف ابتسامة ساخرة، ونصف نظرة شريرة إذا نظرت لها بعين مخرج سينمائي، أو ماكرة إذا كنت مهذبًا كأديب، ولكنها نظرة لعينين يقول عنهما في إحدى رواياته: ضاعت إحداهما جهلًا وضاعت الأخرى ثقافة، ولاحظ المفارقة الساخرة من ذاته وشخصياته ومن درامية الحياة بضربة واحدة، يتشكل العنوان كسلم في أعلاه الفاضل وفي أسفله الكلب، ويمكنك أن تخمن دلالة هذا السلم إن شئت، ولا تنس أنه اعتاد في عناوين كتبه السابقة أن يمنح أبطاله من آل مستجاب أرقامًا كأنهم من صنف الملوك، على نحو ما نقول (ريتشارد الثاني ولويس التاسع) لكنه في هذا الكتاب يخبرنا أنه:”احتار وفكر وبحث عن رقم يناسب الأخير من آل مستجاب الذين خلدهم جميعًا وسطر سيرهم فجعل منهم وجهاء وصعاليك وحكماء وحمقى، ولما أعيته السبل ولم تسعفه ذاكرة الديجتال أطلق عليه الفاضل؛ ثم وضع في عقبيه الكلب والبأف”[4]
هكذا يكون الانحطاط سليل المجد ووليد الفضيلة على غير ما ألفنا في الشائع والمطروق، وكان قد اختبر الأرقام كلها ووجدها تضيق عن صفات بطله هذا الأخير من آل مستجاب، فخرج (الفاضل) بلا رقم يميزه عن الآخرين، وهو بذلك يفلته من مصير مشئوم، أو من ميتة مفضوحة كتلك التي أماتها للخامس من آل مستجاب في محل للأدب (مرحاض) ومع ذلك فالفاضل أيضًا ينتهي إلى نهاية أبشع وأعنف وأكثر مدعاة للسخرية مثله مثل آل بيته السابقين، إذ يموت الفاضل ولا يجد أهله تكاليف الدفن والعزاء فيقترح أذكاهم وأحكمهم بيع جثمان الفقيد إلى طلبة كلية الطب الذين عملوا على تقطيعه، وتثمين أعضائه، فتفرقت أشلاؤه بين العباد والبلاد والمعامل والثلاجات، فيما مضى آل مستجاب رافعين النعش خاويًا، ووقفوا يتلقون العزاء بكبرياء وعظمة تليق بالفاضل، هذا مشهد دال على مجتمع خاو من الفضيلة يصنع أبطالًا وهميين ثم يعود يمزقهم ويبيعهم.
وهكذا، فأعمال مستجاب تضرب في عمق ثقافة المجتمع كله، ولا تقف عند حدود بيئتها الجغرافية كمجرد مرآة عاكسة، إن شخصية الصعيدي عند مستجاب تتمرد على صورتها النمطية الموسومة بالشهامة والمروءة وصلابة المراس، ربما بسبب نزوعها التجريدي، وهذا ما يجعلها مختلفة عن شخصية الصعيدي العاكسة لواقع بيئتها عند يحيى الطاهر عبدالله، غير أن هذه النزعة التجريدية في قصص مستجاب، وضعتها في فضاء ثقافي ثري ومتعدي الدلالة.
وتأكيدًا لمعنى القصة عند مستجاب كفضاء ثقافي، فإن كتابات مستجاب هي خليط بين السيرة الذاتية، والسيرة الشعبية، والقصة والرواية، والمَقامة والنقد، والكوميديا والتراجيديا، أو التنكيت والتبكيت أو الحكمة والجنون، ثم هي ليست سردًا خالصًا، ولا إخبارًا تامًا، ولا تأملًا فقط، إنما هي خليط بين كل ذلك، بحيث تبدو الحكاية ظلًا في وسيط أقرب إلى الكلام منه إلى اللغة، تذكرنا بكتابات الجاحظ في تنقله الحر بين المعاني والألفاظ، واستخدامه لأساليب تشبه في حركتها الكر والفر، فتُصرح أحيانًا وتلمح في أحيان أخرى، أو تتداخل بين الجد والهزل وتأخذ من كل شيء بطرف دونما ترهل، لذلك فهي على قدر ما تُحدثه لك من الإمتاع والمؤانسة، تثير دهشتك وغيظك في آن واحد، لأنك ستدرك بعد وقت أن سخريته تتجاوز السخرية من أبطاله إلى قرائه، ومن واقعه المتخيل إلى واقعنا المعاش، لهذا فحين تقرأ مستجاب فكن حذرًا، فأنت تمشي في أرض مليئة بالأنصال والصخور والأشواك البرية، تغطي تحتها ألغامًا يمكنها أن تنفجر في أي وقت، أنت مع مستجاب يجب أن تظل يقظًا متوترًا ومنتبهًا لكل حرف وكل إشارة، فالغافل والمستكين والمهادن لا مكان له على مائدة مستجاب الحافلة بالشر الجميل، مستترة بلغة تتقافز من معنى إلى آخر في تراكم هائل وتلاعب مثير ليزيد من استلابك وجرك إلى حقول ألغامه، فالطمأنينة في الموت كما يقول في قصة كوبري البغيلي :”والتسليم بالبديهيات والوثوق التام في نواميس الطبيعة وأقانيم الأدب يخلو تمامًا من الحكمة”.[5]
وقصص مستجاب لا تنحني للأداء الآلي المتراتب المرتب، ولا تستقيم مع التحريك النمطي للأحداث والحوارات والشخصيات وكل عناصر القص المعدة سلفًا كدجاج كنتاكي، ولكنها تمثيل جيد لروح المغامرة وكسر السياقات واختراق المألوف، ليس الحكائي فقط، ولا حتى اللغوي كذلك، بل والأسلوبي أيضًا.
وإن بدا التحريك التقني شاحبًا في قصص مستجاب، فليس مرده انعدام الحيلة بقدر ما هو تجنب التحايل، فمستجاب ليس بحاجة إلى حيل التقديم والتأخير أو الإفصاح والتعتيم، ولا هو في حاجة إلى توزيع الزمن، لأن لغته وتدفق أساليبه يعملان طوال الوقت على خلخلة مثل هذه المركزيات السردية، وتذويبها حتى تتماهى معالمها، وتنتهي إلى قوام ثقافي عام أكثر منه أدبًا، إخباري أكثر منه حكائي، إشاري أكثر منه دلالي، لكننا في سياق (اللهو الخفي)[6] لا نشعر بجرعات الثقافة الثقيلة المريرة، ربما لأن (الحزن يميل إلى الممازحة) كما يقول في أحد عناوين قصصه، فتكتسب طعم السكر المحروق.
وظني أن ثمة خاصية لا يمكن دراسة كتابات مستجاب بمعزل عنها؛ وهي أن السرد عنده أقرب إلى الأداء منه إلى الحكي، وحيث الحكي من المحاكاة، وحيث الأداء كسر للحكاية يستهدف إيقاظ الوعي على نحو ما يسميه الخواجة (بريخت) إسقاط الإيهام، أو يسميه (آرتو) مسرح القسوة فيصدم مشاهديه ويؤلمهم عندما يكشف عن أبعاد الشر الكامن في واقعهم الجميل.
الناس في”ديروط الشريف” تُقتل أو تموت في الشرفات أو على ظهور الحمير أو في المساجد والترع والغيطان وعلى قارعة الطريق بلا سبب أو معنى.
ولعل روح الأداء المسرحي، وأسلوب المبالغة الدرامية، هو الذي حمل شخصياته من آل مستجاب إلى مرتبة الأبطال التاريخيين، في الوقت ذاته، هو الذي أضحكنا على مصائرهم (الدون كيشوتية) في”نعمان عبدالحافظ”، و”قيام وانهيار آل مستجاب”، فتتحول إلى شخصيات ثلاثية الأبعاد تعيش في الواقع والتاريخ والنص، وكل هذا يضفي سمتًا ملحميًّا على عالم مستجاب وطبيعة الأداء السردي، ما يجعله أقرب إلى راوي السيرة منه إلى الروائي أو القاص، وهو ما أحب تسميته بالملمح الهومري نسبة إلى هوميروس، وهذا الملمح قد يفسر حيرتنا في تصنيف بعض كتابات مستجاب، من ذلك مثلًا كتابه الأخير في سلسلة المستجابيات عن الفاضل والبأف والكلب، فهل هو رواية واحدة من عدة فصول؟ أم مجموعة قصص طويلة؟ أم هو مجموعة روايات قصيرة؟ فإحالات الفصل والوصل بين كتابات مستجاب منذ (الأول) وحتى (الفاضل) تبدو شديدة التداخل والتركيب حتى لتبدو مجموعة المستجابيات كما قلنا من قبل: نصًا واحدًا لم ينته بعد، كما يفسر الأداء الملحمي تلك الإشارات الكثيرة التي ترد في نصوص لاحقة عن أخرى سابقة، بما يعني أن عمليات التناص تتم على قدم وساق في نصوص مستجاب، ولكنه تناص داخلي، يضمن للنصوص إيقاعًا هارمونيًا خاصًا، ومفعمًا بكثير من تقنيات الترديد والتنغيم وربما التجويد الذي يقارب العزف المنفرد.
وعلى القاريء أن يكون منتبهًا لهذا الملمح؛ فالقاريء الذي لا يعايش عالم مستجاب ولا يقيم فيه منذ البداية، ربما لا يستطيع أن يتواصل معه، وربما لهذا السبب فإن كتابات مستجاب محل خلاف كبير بين القراء، وهو خلاف يتجاوز التقييم الشخصي إلى الإدراك الذهني، فكتابات مستجاب مثل حلقات تتواتر وينبني بعضها على البعض الآخر، لكنه ليس فقط بناءً موضوعيًا يمكن إدراكه وتوقعه، هو بناء ذهني وجمالي وأسلوبي، فقصة “تحميل على عالم نجيب محفوظ” من مجموعة “الحزن يميل للممازحة”[7] لا تبني لك موضوعًا ولا تقدم فكرة، بقدر ما تفكك صورة العالم المحفوظي المتماسك عندما يختبر شخصياته، ويضعهم في مأزق بسيط من ذلك الذي يعانيه الناس في حياتهم اليومية، إنها صورة تكاد تسخر من كل المعاني الأدبية، والقيم الفنية في مواجهة التجربة الإنسانية المُعاشة، التي هي في نهاية الأمر نص أدبي أيضًا، وهنا تكمن المفارقة الساخرة، وتنسحب على محمد مستجاب نفسه. فالسخرية ليست موجهة لشخص نجيب محفوظ في ذاته، بل بوصفه أيقونة تجسد صورة الأديب عامة. تلك القدرة على المراوغة، ومهارات التورية التي تجعل المعاني ملتبسة على القاريء، تجعل كتابات مستجاب مستعصية على النقد الأكاديمي ومناهجه الصارمة، لهذا أعتقد أن الطريقة المثلى لنقد نصوص مستجاب، تكتمل باختبارها في فضاء ثقافي عام، عندئذ فأنت لن تخرج من عالمه بتنهيدة تطهير أرسطية بقدر ما تشحنك بالانفعالات المتباينة، ربما، لأن مستجاب يدرك مدى صعوبة التواصل معه، فهو يلجأ أحيانًا إلى استدراكات من أعماله السابقة يضمنها أعماله اللاحقة، وهي حيلة تجد مبررها الفني في طابع الأداء الملحمي الذي أشرنا إليه بقولنا إنه يكتب نصًا لا ينتهي.
يقول في مستجاب الفاضل؛ شاحذًا ذهن القاريء إلى إحالات مستجابية سابقة: “إلا أن الفاضل مستجاب اكتسب صفة الفضيلة ـ في اسمه كما يشاع بين أهله- رفضًا للترتيب الرقمي، لأمر آخر غير ما يجري في المأكل والمشرب والتراحم ونفاذ البصيرة والنظافة والأناقة والرجولة وجودة الخطـ أو حسن الحظ تهربًا من كبوات الحروف في المطابع- لانتباه الفاضل إلى أن قومه في حاجة قصوى إلى الإحساس العارم بالكبرياء، الكبرياء المنيرة الهادئة التي حملتها الأشعار والمواويل والحكم والأمثال والطرائف، دون الانتباه إلى ضآلتها وضعفها- بل وندرتها- في الاحتكاك والتعامل والحركة والمصارعة- أو التصارع- والوقوف والجلوس والتلاعب والمساندة والإنصات والحوار والمرح”[8]
هكذا تتدفق اللغة وتتداعى الخواطر وتزدحم الأفكار لتحقق الإمتاع والمؤانسة عندما تدل اللغة ولا تعني، فتفكك أربطة الوعي وتخلخل مفاصل الوجدان، عندما تتصادم بتناقضاتها وخروقاتها للسياقات الحكائية بجمل اعتراضيه (مثل تعليقه على الأخطاء الطباعية) تنطلق كرصاصات طائشة فلا تعرف متى ولا إلى أين تنطلق، أما إذا كنت تمشي على أرض ملغومة أصلًا، فليس أمامك وأنت تقرأ مستجاب إلا الانسحاب السريع وإيثار السلامة، أو التسليم ورفع الراية البيضاء ليأخذك مستجاب أسيرًا في عالمه الذي يشبه المتاهة.
[1] – محمد مستجاب: الفاصل والبأف والكلب – ثلاث روايات قصيرة – الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة – 2004م
[2] – يمكن الرجوع إلى روايتي (فوق الحياة قليلا – الحالة دايت) صدرتا في مطبوعة واحدة – دار روافد -القاهرة -2017م
[3]-محمد مستجاب: مستجاب الفاضل، هذا ليس كتاب البأف، كلب آل مستجاب) الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة – القاهرة -2004م
[4] – محمد مستجاب: السابق.
[5] – محمد مستجاب: كوبري البغيلي من قصص (ديروت الشريف ) – مكتبة مدبولي ـ القاهرة – 1986م
[6] عنوان أحد أعمال محمد مستجاب
[7] – محمد مستجاب: الحزن يميل للممازحة (قصص) الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة الأسرة – 2006م
[8] – محمد مستجاب: مستجاب الفاضل – سابق
بقلم: سيد الوكيل
المملوك الشارد. بقلم: سيد الوكيل
ليصنع تاريخًا متفردًا بذاته، قفز محمد مستجاب من فوق أسوار قلعة الستينيات المجيدة، فنجا من مذبحة الأيديولوجيا، والتغني بحكايات المعتقلات والمنافي، فصنع مذاقًا خاصًا للسرد لا تعرف فيه الواقع من المتخ…
sadazakera.wordpress.com