أحمد رجب شلتوت - الكافور

كانوا قد أزالوا أشجار الكافور العتيقة، ليمدوا سورًا حجريًا يحجب الترعة عن عابري الشارع الذي رصفوه وجعلوا اسمه طريق النصر.
كنا نسميه الكافوري، ونهرب إليه من حر البيوت لنذاكر في ظل الأشجار، أو نعبر الجسر الخشبي إلى الناحية الأخرى من الترعة، حيث نخلات قليلة متناثرة عند الحقول. لم يكن لأي منا حقل هناك، ولا حتى قيراط واحد، لكن بيت صديقنا مالك مبني هناك، يعطينا شرعية التواجد، فلا يسألنا أي من أصحاب الحقول عن سبب تواجدنا، مالك كان يعشق البراح، دائمًا أجده خارج البيت، جلسته المفضلة عند النخلة التوأم، يرتفع جذعها لمتر واحد فوق الأرض ثم ينقسم إلى اثنين ليصبح كل منهما نخلة ذات خوص وطلع وعراجين. وبعد جني بلح النخلتين تصبحان موطنًا لطيور أبوقردان، كبار السن أطلقوا على الطائر طويل الرقبة اسم أبورقبان، وكان المعلمون في المدرسة يسخرون ممن يقول ذلك ويصححون الاسم، أحدهم أضاف أسماء أخرى منها مالك الحزين، فأصبحنا ننادي صديقنا بالحزين.
مالك كان يتخذ من نقطة افتراق الجذعين مقعدًا دائمًا، يرمي بسنارته في الماء أو يذاكر يولي ظهره دائمًا للطريق، ويستغرق فيما يفعل، فلا يسمع نداء أبيه، يستشيط الأب غضبًا، يخطو مغادرًا عتبة الدار، يهرول خطوات ويضع يده على كتف ابنه الذي تفزعه المفاجأة وزمجرة الأب:
ـ عامل نفسك مش سامع يا ابن الكلب، يعني أرميك في المية يا خازن النار.
يرفع مالك ساقيه ويلف وسطه قبل أن يقف ليواجه الأب بابتسامة ساهمة، ثم يطأطئ الرأس مستمعًا لأوامر الأب قبل أن يهرع لتلبيتها.
الابتسامة الساهمة لم تفارقه حينما صحبته إلى الطبيب في المدينة القريبة، كان متوجسًا ونظرة الطبيب وهو يكتب قائمة التحاليل وصور الأشعة لم تكن مطمئنة فغاضت الابتسامة، حاولت طمأنته فقال بأسى واستسلام:
ـ أنا راضٍ بقضاء الله.
بالأمس تسلمت من المعمل تقريرًا بالنتائج، تأكدت إصابته بسرطان المثانة، أخفيت الأمر عنه، واليوم أصحبه إلى الطبيب، جئت قبل الموعد بساعة، سرت بمحاذاة السور حتى بلغت الكوبري، انخفض منسوب المياه في الترعة إلى النصف رغم أن السدة الشتوية لم تبدأ بعد، لم تعد ثمة حقول تحتاج لماء الري، صفوف البيوت تمتد باتساع المدى لكن لا تسير في انتظام، يضيق الطريق فإن واصلت لن أستطيع الدوران بسيارتي لأعود، أتوقف بالقرب من النخلة التوأم، أكياس الزبالة تملأ المكان، أغادر سيارتي متجهًا إلى بيت مالك، يحتاج لبعض الوقت حتى يكون مستعدًا للمغادرة، لا أقوى على النظر إليه، أعود إلى السيارة، أديرها، صوت الموتور يفزع كلبًا افترش الظل أسفل السيارة ونبه قططًا تبحث وسط أكياس القمامة عن شيء تأكله، تتابع القطط الكلب الذي جري صامتًا ثم تعود للبحث عن طعام، تخرج طفلة من شارع جانبي، تحمل كيس قمامة، ترميه باتجاه القطط، فتجرى مقتربة من حافة الترعة، وتثير طيور أبي قردان التي تحدق في الماء الكدر انتظارًا لصيد، طائر يخطو مسرعًا باتجاه قطة فتتراجع، وطائران يرتفعان، يحومان قليلًا ثم يعودان، والرابع يقف في المسافة بين الجذعين، تمامًا حيث كان يجلس مالك، يفرد جناحيه على اتساعهما ليستقبل نسمة هبت فجأة، يتركها تداعب ريشه، طفلة تلقي بكيس قمامة، تعود القطط للتقافز، متباعدة ثم تقترب بحذر من الكيس، بينما طيور أبوقردان ترقبها صامتة وتسلم ريشها للنسمة، وفي مرآة السيارة رأيت مالك يسير ببطء متكئًا على كتف زوجته، أسرع بمغادرة السيارة لأساعده، لاهثًا يسند ظهره إلى السيارة، ينظر بأسى إلى النخلة التوأم ومقعده القديم بين جذعيها، وأنظر إليه مشفقًا، التجاعيد تبدو كأخاديد تشقق ملامحه، وشحوبه الشديد يزيد من استطالة أنفه، شريط الشعر الطويل بمحيط الرأس يفشل في منع الصلع من التغول على الرأس التي يبللها العرق، تهب نسمة فيتنفس بعمق، الشعر المتبقي في رأسه يستسلم لمداعبة النسمة، يتطاير خفيفًا، لو اشتدت النسمة ستنتزعه من الرأس، أساعده في الدخول إلى السيارة، تتلقاه زوجته التي سبقته بالدخول، تنطلق السيارة، ويأتيني صوت زوجته تسأله إن كان يريد شيئًا، أسمعه يطلب منها أن تتصل بابنتيهما، تدعوهما للعشاء الليلة، تذكره بأن موعدهما يوم الجمعة، يتنهد ويرجوها:
ـ ما زلنا في منتصف الأسبوع والجمعة بعيدة، أحضريهما الليلة، فمن يدري؟
https://sonata.news/الكافور-أحمد-رجب-شلتوت/?fbclid=IwAR1vFQiMezkQE28IqkMBwctmV6s4a5pdpWDiG1hPB-Ou6WZVu_t0tgyO-lM

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى