الرحالة محمد ثابت - رحلة إلى حدود مصر الغربية

- رحلة إلى حدود مصر الغربية
مرسى مطروح، سيوه، السلوم



شددت رحالي إلى الناحية الغربية من الديار المصرية، تلك الناحية التي نجهل عن أهلها الشيء الكثير، فكان أن بدأت بخط أدكو ورشيد، فمررنا بأراض شبه صحراوية، بها مزارع متناثرة غير متصلة، وبخاصة حول أدكو، وهنا أدهشني نشاط الأهلين في الكد وراء كسب عيشهم حتى الأطفال، فتراهم لا يضيعون من وقتهم شيئاً، يخرجون جماعات لصيد السمك أو الطيور، ويتجرون في ذلك كباراً وصغاراً، وأنت ترى جموعهم تتهافت على القطار يعرضون عليك سلعهم هذه، فإن أعوزهم المشترون عكفوا على دورهم يأكلون ما تخلف معهم من سمك كثير وطير وفير؛ لذلك كنا نلمس في أجسادهم وفرة التغذية والامتلاء، ومن السلع المنتشرة هنالك البيض والليمون، أما غابات النخيل فهي في كثرة فائقة، ومنها نستمد البلح الرشيدي (الزغلول) ذائع الصيت. ولقد مررنا بتفتيش إدفينا، وهنا تجلت المجهودات الجبارة التي بذلت في استثمار تلك الأراضي التي كانت بائرة نزة، فلقد زودت بالمصارف والمضخات والقنوات، فأضحت جنة يانعة، وهي ملك للخاصة؛ ويا حبذا لو شمل ذلك الإصلاح ما جاورها من متسعات لا يزال أمرها مغفلاً مهملاً، وهنالك بعض الشركات الأجنبية تشتري المساحات الشاسعة وتتعهدها بالإصلاح، فهلا قامت الحكومة بذلك أو ساعدت الأهلين عليه حتى لا تزيد في ملكية الأجانب وامتيازاتهم في بلادنا؟ دخلنا رشيد فحاكت بلدا عتيقاً، بيوته بالآجر الأحمر الصغير لا يكسوه ملاط، وهي تقوم على النيل، ومن أظهر ما يسترعي نظرك مداخن لا حصر لها هي لمضارب الأرز أنشط جهات العمل في البلدة، وعلى مسيرة زهاء خمسة كيلو مترات يلتقي النيل بالبحر في لسان شبيه بذاك الذي في رأس البر، ولقد كان ماء هذا الشهر عذباً (أغسطس) بعد أن ظل مالحاً ستة شهور قبل ذلك من طغيان ماء البحر على النهر، وسيظل الماء عذباً بقية العام؛ ويجاور البلد عدد من الملاحات، ونرى زوارق الصيد يغص بها النهر والبحر، ومهنة صيد السمك رئيسية هنالك

عدت إلى الإسكندرية، وقمت صوب الغرب إلى مطروح مسافة تزيد على 300ك م، ثلاث أرباعها بسكة الحديد إلى محطة فوكه وبعدها بالسيارات الكبيرة، وكان قد أنشأ ذاك الخط سمو الخديو السابق رغبة في تعمير تلك الناحية التي كان يمتلك جل أراضيها ويحاول إصلاحها، لكنه اعتزم أن يبيع الخط للطليان، فسارعت الحكومة بشرائه منه، ولقد سار القطار إلى جانب مستنقعات بحيرة مريوط وصحرائها الملحة طويلا، ومر بمحطة (اكنحي مريوط)، ولعل أكبر البلاد (الحمام) العاصمة التجارية لتلك الناحية، أما الأهلون فهم قليلون مشتتون في خيامهم، ولهم لهجتهم العربية المحرفة، وقد كنا نقف على المحطة فلا نرى من المساكن شيئاً سوى أبنية عمال المحطة، فنتساءل أين البلدة؟ فيقولون: ليس هناك من بلد، والأهلون متفرقون في مساحة شاسعة من الأرض حولها، ويبدو عليهم العوز والجوع، وبخاصة في هذا العام الذي تخلف فيه المطر فأجدبت منابت الشعير، وكنا نرى مساحات الأراضي التي (عزقها) أصحابها وبذروا فيها الشعير كعادتهم وتركوها حتى ينزل عليها مطر الشتاء فيسقيها، وعند اقتراب نضجها يعودون من جولاتهم الطويلة - التي قد تصل بهم إلى داخل مديرية البحيرة - ويحصدونها

وبعد مسير ثماني ساعات ونصف من الإسكندرية أشرفنا على مرسى مطروح في خليج هلالي، تقوم المباني على جوانبه في شوارع متعامدة أبعادها تكاد تكون متساوية وهندستها موحدة بسيطة، فجلها شبه مربعات من طابق واحد يكسوه الطلاء الأبيض، وقل أن تجد بناء يشذ في علوه أو لونه وهندسته، والشوارع هناك فسيحة، ويبدو عليها المظهر الصحراوي في ندرة النبت، وإن حاولت المحافظة استنبات بعض الأشجار القليلة على جوانب الطرق؛ وهناك بيت المحافظ الإنجليزي - ومطروح تعتبر عاصمة محافظة الحدود الغربية - يشرف على البحر، ويليه بيت وكيل المحافظ وسائر الموظفين. ومما يذكر للإدارة هناك بالفخر، عنايتها بالنظافة التامة، ورعاية صحة الأهلين والرقابة الخلقية عليهم؛ ولقد أعدت للموظفين نادياً صغيراً جميلاً على البحر زود بصنوف الحلوى والمرطبات وأدوات اللعب البريء وبجهاز للراديو يسري عنهم في معيشتهم المنعزلة الموحشة؛ وتضاء الشوارع بالمصابيح الكبيرة التي تقلل من وحشة سكون الليل الرهيب هنالك. وخير ما يتجلى منظر البلدة في كامل روائه من الاستراحة الحكومية التي أقيمت على النجاد التي أدت بسيارتنا إلى شاطئ خليج مطروح؛ وفي ناحية نائية من غرب مطروح مسجد أنيق (لسيدي العوام) بطل المنطقة وقد بناه الخديو السابق كما بنى كثيراً من المساجد في بلدان خط مريوط، وكانت تقوم حوله طائفة من مساكن الأعراب فعوضتهم عنها الحكومة وأزالتها وأقامت مصيفاً يسمونه الليدو، فبدأت بنزل فاخر زودته بكافة وسائل الترف والراحة وجعلت أجر المقام به نصف جنيه في اليوم، ثم أقامت حوله بيتين صغيرين أنيقين (فلآت) لمن يريد الاستئجار. على أن عزلة المكان وبعده وافتقاره إلى وسائل اللهو قد زهد المصيفين فيه، إذ أني لم أحص في المصيف كله أكثر من عشرة أشخاص، فهو عندي خير مصطاف لطلاب الراحة البريئة والسكون الشامل وهؤلاء قليلون؛ ويخيل إلي أن تقدير الحكومة الصدقية كان خاطئاً إذ كلفته نيفاً وعشرين ألف جنيه لن يسد للدولة منها شيئاً. ولقد قال لي بعض الناس من سكان البلد إنها فكرة إنجليزية قصد بها أن يقيم على حساب الدولة مستراضاً للمارة من السادة الإنجليز في روحاتهم وغدواتهم على الحدود الغربية

وأهل البلد من الأعراب يسيرون في ثيابهم الفضفاضة، وسادتهم يطوقون كواهلهم بأحزمة بيضاء ثقيلة، ونساؤهم يسرن سافرات في ثياب حمراء فضفاضة أكمامها هائلة هادلة وهن على جانب كبير من السذاجة. تجلس في المقهى فترى الواحد منهم يدخل ويقف حولك يحدق فيك ويزوغ ببصره ثم يتسكع حولك ولا يكاد ينصرف حتى ترى غيره، وأطفالهم عراة جياع حالتهم تستدر العطف وتستنزل الرحمات ويكثر بينهم الزنوج السود وهم من عبيد السنوسية جاءوا بهم معهم بعد أن حرروهم لما أن طاردهم الطليان وأجلوهم عن ديارهم. ولأبناء السنوسي هناك مقام كبير بين الناس يكاد يبلغ حد التقديس. حدث مرة أن رأيت بيتاً فاخراً طلي باللون الأزرق على خلاف سائر بيوت البلدة فسألت أحد المارة بيت من هذا؟ فأجاب: بيت الأسياد. قلت: ومن الأسياد؟ فثار الرجل وصاح في نغمة الغاضب المستنكر: الأسياد! الأسياد! كيف لا تعرفهم هم آل السنوسي! ولهؤلاء جل أملاك المنطقة وأبنيتها. وإلى الجنوب الغربي من البلدة أقيم المطار في متسع هائل واستعداد كبير لاستقبال الطائرات المختلفة، وقد نزلت به أمامي طائرتان إحداهما للشركة الهولندية التي تقوم من هولندة وبتافيا، وهي طائرة كبيرة من الألمنيوم بها 14 مقعداً للمسافرين. أما الثانية فطليانية بين الإسكندرية وبني غازي وذاك خط حديث بدأ منذ أسبوعين فقط وطائرته صغيرة وفي مطروح محطة لاسلكية أساس عملها الاتصال بالطائرات خصوصاً الهولندية. أقمت في مطروح زهاء يومين في نزل إغريقي، واليونانيون هنالك نشيطون في التجارة وبيدهم غالب سيارات النقل وحوانيت البدالة والفنادق؛ وسيارات النقل هناك تقوم لثلاث جهات: فوكة وتلك كل يوم، السلوم، واحة سيوة مرة أو مرتين في الأسبوع

إلى سيوه:

قمنا مبكرين نستقل سيارات الحدود فأخذنا نسير في صحراء لا نهائية عربت عن النبت حتى الشائك منه وإن كان مظهرها في الشتاء والربيع أبهى وأجمل إذ يكثر العشب بنواره المختلف الجميل، ولا يفتأ المسافر يمر ببقاع تنمو بها أعواد الشعير، والطريق حجري في جزئه الأول، مترب في الأخير، ويمر بمجموعة من آبار أذكر من بينها: حجفة جلاز عند الكيلو 72 من مطروح - حجفة أي بئر بلغتهم - وحجفة البويب عند الكيلو 124 على مقربة من الاستراحة التي أقيمت لجلالة الملك يوم أن زار تلك الناحية سنة 1928، ولذلك يطلقون على تلك البئر أحياناً (بئر جلالة الملك) لأنه شرب منها، ثم بئر النصف في منتصف الطريق عند الكيلو 150، والمسافة كلها 300 كيلو متر، وغالب تلك الآبار رومانية الأصل كانوا يحفرونها تجاويف في الصخر تبطن بالأسمنت أو الآجر، وتعد بفتحات ضيقة يؤدي إليها ماء المطر عند سقوطه ليتراكم فيها، وعلى الفتحة الرئيسية باب وحارس يكلف بحفظها من الأوساخ ومن إسراف الناس في مائها، وأنت ترى طائفة كبيرة من السائمة وبخاصة الإبل تحوم حول تلك العيون وتتسكع في مرعاها عساها تشفي بعض ظمئها من الماء كلما مر بالبئر عابر، وقد كان يبدو على بعض الإبل عند بئر جِلاّز ظمأ شديد، ولم يرغب الحارس في سقيها، ولما سألناه عن السبب قال: لكي لا تنتجع تلك الناحية وتعتادها كثيراً فتضايقه، على أنا أجبرناه أن يسقيها هذه المرة إكراماً لنا ورأفةً بها

لبثنا نسير في ذاك الطريق الوعر ثماني ساعات ونصف الساعة - والسيارات الأخرى الكبيرة تقطعه في يوم كامل - وقبل دخولنا الواحة أخذنا في الهبوط تدريجياً، وظهرت مخاريط متناثرة من الربا، تمتد إلى الآفاق في منظر رائع جميل، ثم بدت الخضرة الشاحبة على بعد أمامنا، وذاك أول قبس من سيوه التي تنخفض عن سطح البحر بنحو 25 متراً، ثم أخذت تفاصيل المنظر تبدو في شبه غابات من النخيل مغلقة متباعد بعضها عن بعض؛ بينها ربا أقيمت عليها المباني بعضها للحكومة والبعض للأهلين

وقفنا بباب مركز البوليس، ولقينا حضرة المأمور أحسن لقاء، وقدم لنا الاستراحة لنأوي إليها، وأظهر استعداده الجميل لمساعدتنا في جولتنا العلمية القصيرة هناك، وكان قد أوصاه بنا خيراً سعادة وكيل المحافظ وبعض إخواننا من مطروح. دخلنا دار الاستراحة وقد أقيمت فوق ربوة شاهقة تشرف على الواحة وقد زودت بالشرفات تغطيها شبابيك من السلك لمنع البعوض، وقد كانت الواحة مهددة بالملاريا منذ زمان بعيد ولا يزال لها بقية إلى اليوم - ولن أنسى جلستي في إحدى تلك الشرفات ومشهد الواحة من دوني ساحر وامتداد الصحراء رهيب، وقد عني بتلك الاستراحة عناية خاصة، لأن جلالة الملك قد نزل بها في زيارته، وبها دورة للمياه فاخرة، وفي أسفلها بعض المغارات التي كان يتعبد فيها الشيخ السنوسي الكبير في زياراته لتلك الواحة قديما، وبعد أن طارده الطليان إليها. نزلت أجوب بعض أطراف البلدة فإذا بغالب بيوتها على الربى تقام من الطين المصفر الذي يحكى الطفل، وترى البيوت وكأنها الأحجار أو المغائر بعضها ركب فوق بعض وتشبه مجموعة من حصون قديمة، وليس لها من النوافذ سوى كوى صغيرة لا تكاد تسمح لضوء الشمس أن يتخللها، ولهم العذر في ذلك، لأن لفح الصيف قاتل وبخاصة في أبريل ومايو، وقر الشتاء زمهرير، وشهور أغسطس وسبتمبر خير مواسم السنة جواً هنالك. ومن أظهر ما يسترعي نظرك وسط تلك الأبنية برج مربع يدق كلما علا ويشبه المدخنة وهو مئذنة لمسجد من مساجدهم القديمة، أما سوق البلدة ومتاجرها فأقيمت في متسعات أسفل تلك الربى وزودت بطلل من الطين وجريد النخيل، ومداخل شوارعها ضيقة مسقفة، لا تشعر بأنها طرق يباح المرور فيها

********

2 - رحلة إلى حدود مصر الغربية

مرسى مطروح، سيوه، السلوم


أقلتني سيارة برفقة الأخ النبيل الكريم حسن حشمت، من خيرة الشبان وأكفأ ضباط الحدود، وطفنا بكثير من البساتين والينابيع، وهي عماد موارد الواحة وخير ما يميزها، تنتثر في أطرافها في عدد لا حصر له، وحولها تقوم غابات النخيل تتخللها أشجار الفاكهة، أخص بالذكر منها الكروم والزيتون، ثم الرمان والتفاح والبرقوق والموالح، على أن البساتين تفتقر إلى عناية كبيرة من أهلها، فهي مهملة إلى حد كبير، إذ تغص أرضها بالطفيليات، وتزدحم بالأشجار المتجاورة، مما يؤثر ولاشك في مقدار إنتاجها عاماً بعد عام. ويخيل إلى أن الناس هناك أميل إلى الكسل، إذ كنا نرى ماء الينابيع المتفجرة يجري على غير هدى، ويؤدي بعضه إلى مستنقعات فسيحة هائلة بعضها يبدو كالملاحات المديدة. نرى كتل الملح الأبيض الوضاء تكسو جوانبه إلى مد البصر، ولقد حاولت وزارة الزراعة إصلاح تلك الأرضي وحث الناس على استغلالها بطريقة أنجع من طريقتهم الحالية في الحرث وتعهد الأرض، وكذلك في الاستفادة بذلك الماء الوفير الذي يضيع سدى، ولقد قامت وزارة الزراعة هناك بمجهود يشكر في توزيع أشجار الزيتون والخروب على الناس مجاناً، وفي الاحتفاظ بمياه الينابيع فأقامت حول كل عين أحواضاً كبيرةً من البناء تؤدي منها المجاري الصغيرة إلى مختلف النواحي، بحيث تشعر وأنت تجوب أطراف الواحة من كثرة القنوات وتقاطعها وتشعبها أنك وسط قطر زراعي ممتاز، لكن رغم ذلك يضيع جانب كبير من ذلك الماء سدى، ولقد ساعدت تلك القنوات على تجفيف كثير من المستنقعات التي كانت مربى خصيباً لبعوض الملاريا الذي كان يفتك بالناس فتكاً ذريعاً، وهي تبث في تلك المياه نوعاً من السمك الصغير الذي يعيش على بويضات ذاك البعوض استئصالاً له. ولقد زرنا مصنع وزارة الزراعة الذي أقامته لاستغلال أكبر موردين للناس: هناك البلح والزيتون؛ وهي تبتاع من الآهلين جانباً كبيراً من أجود أنواع البلح، وتخضعه لعملية الغسيل والتطهير والتبخير، ثم الكبس في صناديق من خشب تبطن بالورق الصقيل، وتصدر منه بين 2000 و4000 طن في العام؛ وفي جانب من المصنع معصرة آلية للزيتون بكامل معداتها، يع فيها الزيتون وينقى الزيت بعدة عمليات، ثم يوضع في صفائح ويصدر؛ وإنتاج المصنع آخذ في الزيادة، ولذلك تفكر الوزارة في توسيعه باطراد. وللأهلين كثير من المعاصر الخاصة للزيت ومساطح البلح الذي يعدون منه (العجوة) السيوي الشهيرة؛ أما باقي أنواع الفاكهة فلا يكادون يستفيدون منه تجارياً، حتى البيع لأهل الواحة نفسها غير مباح، ذلك لأن المالك يعد بيع الثمار للناس معرة لا تليق بكرامته، ولكل إنسان أن يدخل البساتين ويأكل منها ما يشاء بدون مقابل، ولكن ليس له أن يحمل إلى الخارج شيئاً منها إلا في حالات خاصة، عندما يريد المالك تقديم الهدايا من ثمار حديقته لبعض ذوي المكانة والجاه من الغرباء أو الأهلين. ولم أدرك من صنوف الثمار شيئاً، اللهم إلا أردأ أنواع البلح هنالك ويسمونه البلح الفراوي، أما البلح الممتاز المسمى الصعيدي، والذي يليه جودة الفريحي فلا يزال فجاً غير ناضج.

أذكر أنا دخلنا بستاناً وتفيأنا بشجرة، وكانت الأرض تحت النخيل يكاد يفرشها ذاك البلح الرديء (الفراوي) فطلب الأخ حشمت إلى الرجل أن يذيقنا أطيب ذاك البلح، فاعتلى الرجل النخلة وهز عرجونها، فأمطرت وابلاً من رطب أصفر كبير، فأقبلنا ننتقي منه أطيبه ونغسله في ماء النبع حولنا ونأكله، فكان لذيذاً شهياً، وما كدت أمتدحه حتى سارع الرجل بالاعتذار بأن الأنواع الجيدة لما تنضج بعد، وأن هذا النوع الذي نأكله غير جدير بنا، لأنه عندهم طعام الحمير! وقد علمت أنهم حقاً يقدمونه علفاً للحمير، والنوى تأكله المعزى.

وأكبر عيون الواحة عين قريشت التي تبعد عنها بنحو عشرين كم، ثم عين تاخررت التي تنفجر بقوة هائلة ويتدفق منها 4000 طن يومياً يضيع جله في متسعات الملاحة بالبحر؛ ثم عين الشفا، وتقول خرافة قديمة إنها كانت متصلة بالجن، خاضعة لعبثهم، ثم اكتسبت هبة سحرية هي شفاء الأمراض كافة، لذلك يكاد يغتسل فيها الناس جميعاً كل يوم، فالنساء يقمن مبكرات ويغسلن أجسادهن دون رأسهن احتفاظاً بجمال الشعر أفخر آيات تجملهن، ثم يعقبهن في ساعة متأخرة الرجال؛ والعين التي يستقي منها الناس جميعاً عين تأبه أمام مركز البوليس؛ وكم كان يروقني منظر الناس وبخاصة النساء وهن يردن تلك العين في بكرة الصباح وعند الأصيل يملأن جرارهن! هذه سيوية في نصف سفور، وقد ارتدت جلباباً فضفاضاً من قماش يغلب على نقوشه التخطيط الأزرق، وقد ضفرت شعرها في جدائل متعددة، بعضها يتدلى إلى جانبي الرأس والبعض أمامها؛ وتنتهي الجدائل الخلفية بقطع من جلد خشن كان سبباً في أنهن لا يستطعن النوع على ظهورهن أبداً، وتزين أذنيها أقراط ثلاثة، في أسفل الأذن في طوق كبير يعلوه في وسط الأذن واحد أصغر منه، ثم يعلو هذا ثالث هو دونه حجما، وتكاد تكسو رقبها أطواق من الفضة بعضها خارج بعض، وهؤلاء لا يغسلن رأسهن إلا في فترات تعد بالأعوام، وبعضهن لم يغسلنها منذ نشأن، وذلك خشية إفساد زينة الرأس، وهن كل أسبوع يتعهدن الشعر ببعض الزيوت والأعطار، ويخيل إليَّ إن سبب تلك العادة سقوط الشعر من أثر أملاح مياه الينابيع مما نفرهن من غسله فأضحت عادة فيهن.

والسيويات جميلات الوجوه بألوانهن الخمرية وتقاطيعهن الدقيقة النحيلة. وإلى جانب السيوية كنت أرى عربية ازينت بجلبابها الأحمر، وأحاطت خصرها بحزام معوج من الأمام، وكانت تهولني أكمامها الكبيرة، ولقد خبرني الطبيب بأنه عند الكشف على إحداهن لا تضطر السيدة أن تخلع ثوبها ويكفي أن ترفع ذراعها فيظهر كل جسدها من كمها.

وللقوم لغتهم السيوية الخاصة، كنت أستمع إليها في رطانة هي أبعد من اللهجات الأوربية عنا، وقد حاولت أن أتعقب في كلماتها شيئاً يمت إلى العربية أو اللاتينية بصلة فلم أهتد إلى كلمة واحدة؛ وهم يتخاطبون بها دائماً، لكنهم إذا تحدثوا إلى الغريب تكلموا بالعربية، وأطفالهم لا يعرفون إلا اللغة السيوية. وإليك أمثلة من تلك اللغة: تلحاك أنك (كيف حالك؟)، أمقحاط: (أين تذهب؟)، سقم أنا سيط: (من أين تجيء؟)، أفتك اللون: (أفتح الشباك)، أفن شاشنك أخفنك (ألبس الطاقية على رأسك)، أفن شخشيرك في أشكنك (ألبس الجورب في رجلك) أشوُّ (الطعام) الخ. وما إلى تلك الألفاظ التي تمعن في الغرابة بالنسبة للغتنا، وحتى أسماؤهم تجد من بينها عجباً: تلشلشت، زوبَّاي، بيًّخ. ولهم تدليل خاص لبعض أسمائنا فمثلاً ينادون: أبا بكر باسم كاكال، إبراهيم باسم بابي، أحمد باسم حيدة؛ ويقال إن أصل تلك اللغة بربري ما زجتها العربية ثم الرومانية. ولا تزال للرومان هنالك بعض الآثار؛ أشهرها مبعد المشتري (جوبتر أمون)، وكان مقر الكهنة ذرعه 360 300 قدم، ومن أحجاره ما يبلغ 33 26 قدماً، وقد زاره الإسكندر بعد أن قاسى المتاعب الممضة وبعد أن نضب ماؤه وأشرف على الهلاك لولا أن سقط المطر فأنجاه هو ورجاله. وكان يقوم في هذا المعبد صنم أسمه سيوح هو الذي أكسب الواحة أسمها؛ وقد زرت هذا المعبد وألفيته في حال يرثى لها، فأنت لا تكاد تجدبه حجراً قائماً على أصله وذلك من أثر أحد المأمورين الذين رأوا في أحجاره مادة صالحة لإقامة مركز البوليس، فقام يهدم المعبد ويستخدم أحجاره فيما أراد، والمفروض أنه من مثقفي القوم ومن الذين يعرفون قيمة الاحتفاظ بمثل تلك الآثار الجليلة، وهو لا يزال مأموراً إلى اليوم في ناحية أخرى من مراكز الحدود؛ عفا الله عنه وكفر له عن سيئته.

ويقال إن تلك الواحة كانت تسمى عند العرب (سنتريه)، بناها منافيوس مؤسس بلدة أخميم، أقامها من حجر أبيض وشيد وسطها ملعباً من سبع طبقات وعليه قبة من خشب على عمد من رخام، وكانت كل طبقة لطائفة من الناس على حسب مكانتهم، على إني لم أجد لكل هذا أية بقية أو أثر. وقد حاول قمبيز تدميرها وهدم معبد أمون الذي بها فهلك جيشه العظيم في طريقه إليها. ولقد زاد ذلك في قدسيتها لأنهم عزوا ذلك إلى غضب الآلهة، ولم تدخل تلك الواحة تحت حكم مصر إلا في عهد المغفور له محمد علي باشا حين أرسل إليها حسن بك الشماشرجي، حاكم البحيرة إذ ذاك، فأخضعها وتعهد بها عرب أولاد علي إلى زمن سعيد باشا ثم ضمت لمديرية البحيرة، وهم يؤدون ضريبة النخيل الحكومة، وكان مجموعها زهاء 800 جنيه وزعت على عدد النخيل الجيد الذي يثمر البلح الصعيدي، فخص كل نخلة نحو تسعة مليمات ضريبة تدفع للدولة كل عام؛ ويكاد يكون لهم نظام حكم خاص بهم فالحكومة تكل أمرهم إلى المشايخ وعددهم سبعة يتقاضون مرتبات تتراوح بين جنيهين وأربعة كل شهر، وهؤلاء الوسطاء بين الدولة وبين الأهلين؛ وعند انتخابهم يجتمع أعيان الواحة ممن تزيد ملكيتهم على مائة نخلة وينتخبون الشيخ ولا تقل أملاكه عن 250 نخلة؛ وغالب منازعتهم تحل بطريق التحكيم فيختار كل من الخصمين رجلين يوكل إليهما الأمر وقضاؤهما نافذ بعد عرضه على المأمور، وأساس تشريعهم القواعد التي وضعها لهم عالم أسمه محمد يوسف، وتكاد تكون وفق تقاليدهم الخاصة، إلا في الزواج والميراث فهم خاضعون لقضائنا. وعدد سكان الواحة يقرب من خمسة آلاف ليس بينهم مسيحي واحد؛ ويقولون إن أربعين رجلاً من العرب والبربر وقبيلة أغورمي وفدوا إلى تلك البقعة وأقاموا لهم معصرة ودونوا أسماءهم في سجلاتهم، ثم تكاثر نسلهم حتى بلغ هذا العدد ومن لا ينتمي إلى واحد من أولئك الأربعين يعد دخيلاً عليهم.

وطبقة العمال هناك يسمون الزجالة أو الزجالين، يزيد عددهم على الخمسمائة، وهم الذين يقومون بخدمة الأرض نظير قيام السيد بمؤنتهم الضرورية، ولكل خادم جبة من صوف وثوب من قماش كل عام، وعند جمع المحصول يتسلم الواحد 32 صاعاً من الحب وأربعين من البلح الصعيدي الجيد. وتلك الطائفة كبيرة العدد مفتولة السواعد ممتلئة الجسوم، ممنوع أفرادها من الزواج مخافة أن يزيد نسلهم فتزيد النفقة على سيدهم، ومن تزوج منهم طرده سيده وتخلص منه؛ وهذا لا شك من أسباب قلة النسل في الواحة كلها، وقد أخذ ذلك يهدد السكان بالإنقراض، فضلاً عن إنه ساعد على انتشار الفساد إلى درجة كبيرة.


****

مرسى مطروح، سبوه، السلوم

للأستاذ الرحالة محمد ثابت

وللقوم عادات عجيبة في الأفراح، فإذا ما تم الاتفاق على المهر وقدره ستة ريالات (ومن هنا جاءت الأغنية القديمة: بستة ريال بابا جوزني) تعهد به الزوج على أن يدفع عند حلول أحد الأجلين الموت أو الطلاق، ثم يقدم قطعاً من القماش، وفي ليلة الزفاف يدعى الأحباب إلى الطعام، ويطوف عليهم خلال ذلك كشف بأسمائهم، فيتبرع كل منهم بما تجود به نفسه، وقد شهدت فرحاً اكتتب المدعوون فيه بأربعين جنيهاً، وذلك الاكتتاب يعد ديناً عليه يؤديه كلما دعي في أفراحهم؛ وجل تكاليف الفرح تقع على عاتق أهل الزوجة؛ وفي ليلة (الحنة) تمشط رأس العروس في حفل كبير يحضره نساء من الفريقين وتلبس حلي ثقيلة من فضة، تكاد تغطي جسمها كله، والعجيب أنها مقترضة من الغير فلا يجوز لها أن تلبس حليها الخاصة إلا بعد الزفاف، وتلك الحلي المقترضة ترد لأصحابها بعد الزفاف بأيام؛ وفي ليلة الزفاف يقوم بين الفريقين شبه شجار ومشادة يشترك فيها نساء الفريقين، طائفة تحاول أخذ العروس بالقوة، والأخرى تحاول منعها، وعند بزوغ الفجر تخطفها إحدى السيدات وتجري بها إلى بيت الزوج، وبعد أن يدخل الزوج بها يظل الثلاثة الأيام الأولى نافراً من أهله وصحبه، يخرج قبيل الشمس ويظل في الحقول إلى المساء لكيلا يراه أحد منهم، وفي ذلك شئ من التأدب والاحتشام لا بد منه! ثم يعد أهل العروس صحافاً من طعام (الرقاق) أو من العدس والحمص يسمونه (أطقاع) يحمل إلى بيت الزوج، ويحاول أهل الفريقين أن يتخاطفوه في الطريق، فإن وصل إلى الزوج سالماً أكله وإلا التهمه الناس في الطريق تيمناً. وفي صباح اليوم الأول من الزفاف (الصباحية) يعد أهل الزوج (شجرة العرس) وهي من جمار (لباب) نخلة طيبة تخرط في شكل أنيق وفي طول العروس تم تزين بالأعلام وسائر أنواع الفاكهة، وتعلق عليها الحلي الفضية التي كانت قد اقترضتها الفتاة، ثم تحمل تلك الشجرة وسط حفل يكاد يحضره كل أهل البلدة، ويطاف بها في الطريق إلى أن تصل بيت العروس، وهناك تقوم وسط البيت أياماً وكأنها عروس قامت تعوضهم عن فتاتهم، وإذا ما قاربت اليبس قطعت وأكل منها المحبون، وبخاصة الفتيات اللواتي يرغبن في الزواج تيمناً وتبركاً؛ وإذا ما رزق الزوجان مولوداً سارع المحبون بتقديم قطع من قماش أبيض إن كان المولود ذكراً أو قماش ملون إن كانت أنثى، وقد تبلغ تلك القطع بضع مئات تسد حاجة الطفل من الملابس شطراً كبيراً من عمره. وإذا مات الزوج عكفت الأرملة في معزل من الناس جميعاً لتقضي عدتها وقدرها ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وفي صبيحة اليوم الأخير تخرج لزيارة قبر زوجها، والويل لمن لاقاها في طريقه إذ ينصب عليه نحسها، لذلك ينبه الناس بعضهم بعضاً ألا يخرجوا في الصباح لأن (الغولة) ستكون في طريقها إلى المقابر؛ وقد يطوف بالنبأ مناد ينبه الناس، وبعد عودتها تقصد إحدى العيون (عين طموس) فتغتسل فيها، فإن اتفق أن لاقاها شخص أصابه نحسها كله، وإلا استأجر أهلها فقيراً يلقاها ليرفع عنها وصمة النحس، وبعد ذلك تسير حرة ولا ضير على من لاقاها أو تحدث إليها أو رغب في زواجها. وعادة الندب ولطم الخدود شائعة لديهم، ومقابرهم متجاورة، إلا من اشتغل بالذبح (القصابون)، أو بعصر الزيتون، فهؤلاء يدفنون في أماكن نائية، فكأنهم من المنبوذين.

ومن أشهى الأطعمة لديهم (لِمْصَفَّة) وهي مزيج من القرع والطماطم واللحم والزيت، ثم (إنْقطة) وهي فطير بالزيت والعجوة، وكل غذائهم بالزيت، ولا يكادون يعرفون (السمن) قط؛ وأحب المشروبات عندهم (اللقبي) يتخذ من عصارة لباب النخيل، وذلك بأن يكشف عن لباب النخلة وتجرح وتوضع تحتها آنية يتجمع فيها السائل، وقد تدر النخلة منه صفيحة كبيرة (4 جالون) في اليوم الواحد، وتظل تعطي النخلة هذا القدر زهاء نصف عام، ثم تموت، لذلك تراهم لا يأخذون من النخيل الجيد إلا القليل كل يوم لكيلا يؤثر ذلك على حال الشجرة فيضنيها. وطعم ذلك الشراب وهو طازج حلو لذيذ، لكنه إذا ترك قليلاً تخمر فأصبح مسكراً قوياً، وهم يشربونه متخمراً، وبعضهم يدمن تناوله.

ويدهشني تقاعد الناس هناك عن استغلال موارد تلك الواحة الغنية، فالأرض المنزرعة محدودة جداً وهم لا يحاولون زيادتها رغم وفرة المياه وسهولة الري فيها، وحتى البساتين لا تلقى من عنايتهم إلا القليل رغم أن المنطقة جد صالحة لسائر أنواع الفاكهة والزيتون والحبوب، وقد تمثل الفرق أمامي مجسماً بين الناس هنا وبين أهل (الواحات الخارجة) فهم هناك يستنبتون الحبوب وبخاصة الأرز والقمح والشعير بكثرة هائلة، وينتجون غلتين في الأرض الواحدة كل عام، ويعنون بتسميدها ولا يفتأون يوسعون المساحة المنزرعة يوماً بعد يوم وينقبون عن ينابيع جديدة؛ أما أهل سيوة فمتواكلون قانعون حتى ملاك الأراضي يتركونها لطبقة العمال (الزجالين) ولا يكاد المالك يزور بستانه مرة كل أعوام. وعندي أن الحكومة لو أوفدت طائفة من (الصعايدة) وأقطعتهم مساحات في مجاورة الينابيع في سيوة لكان لتلك الواحة شأن آخر في الإنتاج خصوصاً وأن الطرق المعبدة الجيدة تربطها بالسلوم وبمطروح والسيارات تقطعها في أقل من عشر ساعات.

قمنا نودع سيوة عائدين إلى مطروح، ثم أقلتنا إحدى الطوافات وكانت أجمل البواخر وهي (الأميرة فوزية) إلى السلوم فقضينا يوماً كاملاً ونحن نسير إزاء السواحل المصرية الوطيئة.

وفي باكورة الصباح دخلنا خليج السلوم الذي حاكي (الحويصلة) في تقوسه ورسونا على شاطئه الرملي فأشرفت الجبال من ورائه في طوق هائل أظهر لنا متعة الموقع من الناحية العسكرية؛ وتلك الجبال هي حافة الهضبة الصحراوية الداخلية التي تؤدي إلى الحدود الطليانية وارتفاعها 190 متراً. وما كادت الباخرة ترسو حتى تهافت أهل البلدة عليها في جموع لا حصر لها من سائر الطبقات، وكانت تبدو عليهم علائم الفرح والسرور لأنها تحمل إليهم مؤونتهم من الطعام والخضر والفاكهة وحتى الماء لأن موارد ماء الشرب هناك معدومة تقريباً، فالباخرة تملأ لهم مستودع الماء الذي منه توزع على الموظفين يومياً بمعدل (صفيحة واحدة) لكل فرد، وإن اعوزهم الماء بعد ذلك أتموا حاجتهم من المياه المكثفة من البحر وقد قامت الآلة المكثفة (كندنسر) على حافة الماء. على أن ماءها رغم نقاوته غير صحي لخلوه من المواد اللازمة للجسم التي لا يخلو منها ماء الشرب عادة.

ويوم وصول الباخرة عندهم هو يوم (الملوخية)، لأن الناس جميعاً يطبخونها لأنها أسرع الخضر تعرضاً لليبس والعطب، ولقد خلقت الباخرة جو عمل وحركة غير عاديين وسط تلك الجهات الساكنة، فقد تهافتت سيارات النقل والحمالون وبدأت العربات المعلقة الهوائية تشحن حاجات الجيش المعسكر فوق المرتفعات، فترى العربات تجري معلقة على الأسلاك إلى قمة الجبل ثم تعود فارغة، وحتى زوارق صيد الإسفنج تبتاع ماء الشرب لها من الطوافة؛ والمنطقة غنية جداً بالإسفنج الجيد وأصحاب امتياز صيده طائفة من اليونانيين يفدون من بلادهم في موسم الصيد ومعهم زوارقهم، وهم لا يفهمون من العربية شيئاً قط. أما أهل السلوم فمن فقراء الأعراب يعيشون عالة على الموظفين أو خدماً لهم، وترى خيامهم القليلة مبعثرة في سفح الجبل، وهم يحصلون على مائهم العذب بطريقة عجيبة بسيطة، فهم يحفرون الرمل بجوار البحر إلى عمق نصف متر فينز الماء ويملأ الحفرة ماء لا بأس بمذاقه، وهم في فقرة مدقع وبؤس مبيد خصوصاً بعد أن اجدبت منابت الشعير إجداباً تاماً هذا العام. ولقد أثر ذلك في حالتهم الصحية والخلقية تأثيراً سيئاً؛ وتلك فئة جديرة بعطف ذوي البر، وقد تبرعت لهم الحكومة ببعض الغلال ويا حبذا لو ضاعفت إحسانها فحفظت طائفة من سكان مصر من أن يلقوا بأنفسهم إلى أحضان الطليان في حدود طرابلس مستسلمين كأسرى البال؛ ونساء العرب هناك سافرات لهن جمالهن الخاص في أرديتهن الحمراء، وعند زواج إحداهن يجتمع الناس لتقدير المهر ويبدأ بنحو خمسين جنيهاً، ثم لا يفتأ يتدخل شيخ منهم ويقول (وعشان خاطري) فينزل المهر إلى أربعين. ثم إلى ثلاثين، وهكذا حتى ينزل إلى خمسة جنيهات. ويكاد الفرح يقصر على حفلات الرقص، ولهم حركات في غاية الرشاقة والخفة، وجل الرقص يوقع وفق تصفيق الجماهير؛ ويغلب أن تكون الراقصة ويسمونها الحجالة من الأوانس اللاتي يرغبن في الزواج، وهي ترقص وعلى وجهها قناع، وليالي الفرح أربع، وفي ليلة الزفاف تحمل العروس على جمل تحت هودج يسمونه (كرمود)؛ ويمسك بالخطام الفتيات البكر تفاؤلاً ويقتادها إلى بيت الزوج. ومن عاداتهم أن الفتاة إن طلبها أحد ذوي قرباها فضل على غيره حتى ولو لم يكن كفؤاً لها، وإن حصل ما يخالف ذلك فرضت على المعتدي الدية التي يختلف قدرها باختلاف مكانة الفتاة.

حدث مرة أن أجمل فتاة في قبيلة المعابدة هناك طلبها كل فتيان قبيلتها فرفضت لأنها كانت تحب فتى من قبيلة أخرى، وذات ليلة دبر ذلك الفتى أمر اختطافها، فكانت الدية ألف جنيه. والعجيب أن سائر رجال القبيلة لابد أن يتعاونوا على جمع تلك الدية ودفعها وإلا لحقهم العار ولزمهم الحق جميعاً، وأنت إذا مررت على (خيشة) من خيامهم وحييتهم وجب أن تعرج لتشرب الشاي. ولا بد من تقديمه ثلاث مرات: الأولى شايها ثقيل أسود مر لا يوضع به سكر قط، والثانية أخف منه وأحلى، والثالثة يقدم شايها وكأنه العسل وغليه النعناع، ويدور السقي إلى اليمين مهما كان من أمر الجالسين؛ وهم يدمنون الشاي إدماناً أثر على صحتهم ولو أنه أفاد من ناحية التطهير ضد بعض الأمراض.

وإذا اعتدى أحدهم على غيره وأصابه بسوء أرسل المصاب إلى (التَّطَّار)، وهو يقابل الطبيب الشرعي عندنا لتقدير الدية، وقوله نافذ على الجميع، وتلك الدية تسمى (كبارة)، والقاتل لا يقتل في عرفهم متى دفع الدية التي يقضي بها المحكمون، وهي حوالي مائتي جنيه في العادة، ويتعاون كل أغنياء القبيلة على دفعها.

طفنا ببلدة السلوم فإذا بها قرية شبيهة بمطروح في نظام بيوتها البيضاء الوطيئة، على أنها تفوقها وحشة، إذ يشعر الواحد فيها بأنه في معزل عن العالم. تسلقنا المرتفعات في طرق لياتها من الأعاجيب، وكلما علونا بدا مشهد خليج السلوم رائعاً بديعاً، وفوق الهضبة زرنا المعسكر وتوابعه في أبنية بالحجارة، فاخرة الإنشاء، لم أكد أصدق أنها أقيمت لجنودنا المصريين، وهنا تعسكر أورطة مصرية بكامل رجالها ومعداتها، وتشرف على الخليج إلى جانب المسكر طابية قديمة أسسها عصمت التركي سنة 1322، وعليها الطغراء العثمانية، ويشغل القسم الأكبر منها اليوم السجن. ولقد أخذنا نشق تلك الصحاري المجاورة، ومررنا ببعض الآبار الرومانية القديمة، ومن أكبرها بئر وعرة نزلناها فإذا بها تجويف في الصخر الهائل، له شعاب ممدودة تحت الأرض فإذا ما أمطرت السماء سال الماء إليها خلال فتحات ضيقة وترشحت أوساخه مع الرمال الراسبة واستقى منها الناس. ثم سرنا حتى وصلنا الحدود الطليانية، وهم يمدون على طولها أسلاكاً شائكة. وزرنا طابية (مساعد) التي كانت لهم وتنازلوا عنها لمصر عند تحديد التخوم بعد أن أخذوا هم جنوب وما جاورها، وتركوا لنا تلك الطابية ومسافة قدرها زهاء عشرة كيلو مترات حول السلوم. وعجبت جداً لما لم أجد من الاستعداد لدفع طوارئ الهجوم على تلك الناحية المكشوفة من حدودنا، فعدد الجنود غير كاف ولم يزودوا من الأسلحة بشئ يدفع عنهم أذى، وحتى معسكر المدفعية رأيته يضرب خيامه أسفل الخليج بعيداً عن المرتفعات، لذلك يوجس الناس هناك خيفة هجوم العدو بين يوم وآخر. فهلا اهتمت وزارة حربيتنا بأمر تحصين ذلك الركن الهام من حدودنا فأمنتنا أخطاراً جسيمة وألقت شيئاً من مسئولية الدفاع عنا على عواتق أبنائنا المخلصين.

قمت من السلوم عائداً إلى الإسكندرية في الطوافة، وكان أجرها زهيداً جداً، إذ للموظفين جميعاً أن يدفعوا ربع الأجر فقط، والأجر الكامل للذهاب والإياب خمسة جنيهات في الدرجة الأولى، وبتنا فيها ليلتين، ثم دخلنا الإسكندرية في باكورة الصباح.

محمد ثابت



1- مجلة الرسالة - العدد 120/ بتاريخ: 21 - 10 - 1935
2- مجلة الرسالة - العدد 121/ بتاريخ: 28 - 10 - 1935
3-مجلة الرسالة - العدد 122/بتاريخ: 04 - 11 - 1935

true"]https://ar.wikisource.org/wiki/مجلة_الرسالة/العدد_120/رحلة_إلى_حدود_مصر_الغربية[/URL]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى