ذياب شاهين - في ذكرى وفاة السياب .. حفار القبور بين السياب وحسب الشيخ جعفر(*)

تمهيد
ما يقارب الأربعين عاما بين قصيدة السياب المسماة "حفار القبور" وبين قصيدة "الحفار" للشاعر حسب الشيخ جعفر، ورغم أن الموضوعة واحدة كما يدل عليه العنوان في النصين من خلال تركيزها على شخصية الحفار بوصفها شخصية غير عادية لتعاملها مع الأجساد الميتة ولكونها شخصية غير مرغوب بها وقد تكون مرعبة لكونها جزءاً من عالم الموت وطقوسه الأسطورية وارتباطها بالحزن والنواح في العقل الجمعي للناس، وإذا كانت الموضوعة واحدة عندما وظفها كلا الشاعرين في بناء نصه ومن ثم تقويلها بما أراد كل منهما أن يقوله هو على لسانها إلا أن النصين المكتوبين يتشابهان بالثريا جزئيا ويتوازيان في المتن حينا ويتقاطعان في أحيان كثيرة رغم طول النص السيابي وقصر نص حسب الشيخ فضلا عن اختلاف تقنيتي الشاعرين فالسياب كتب نصه بتقنية التفعيلة والشيخ جعفر بالتقنية العمودية القديمة مع استخدام لملفوظات غائرة في القدم وتحتاج مساعدة القاموس لمعرفتها وهو ما فعله الشاعر عندما وضع معانيها في الهامش أي هامش الديوان
الثريا أو العنوان
تتوازى العتبتان ظاهرياً، لكن يبدو أن ثريا السياب "حفار القبور"أكثر مباشرة ووضوح عندما تشير إلى ثيمتها من ثريا "الحفار" عند الشاعر حسب، والتي تبدو رمزية وعميقة و أقل مباشرة وتقريرية من الأولى، فهي تحتمل عدة قراءات وبالتالي تقود التلقي إلى تعدد التأويلات ،والسياب يبدو واضحا من خلال المتن والعتبة بأنه يشير إلى الشخصية ذاتها بدون لبس أو تأويل وهي شخصية حفار القبور، وقد مارس المتن (متن النص) هيمنة واضحة في تعزيز وتدعيم هذه الشخصية في جميع مفاصل القصيدة، كما أن الثريا "حفار القبور"عبارة عن ملفوظين مضاف ومضاف إليه يفارقان عتبة الشاعر حسب"الحفار"بكونها عبارة عن ملفوظ واحد معرف بأل وهذا الإطلاق جعل التلقي من أن يقرأها بعدة مستويات فهي يمكن أن تكون حفار القبور ويمكن أن تكون الشاعر بوصفه حفار كلمات فهو يحفر في اللغة وبطون القواميس لاستخراج اللآلئ، وقد تكون الفيلسوف الذي يحفر في دروب الحياة والفكر لاستخراج معادن الأخلاق والفضائل وجوهر الأشياء وكذلك الرسام والعالم والكاتب فكل هذه العناوين يمكن أن يحفر كل في مجاله ومن هنا يتأتى غنى عتبة الشاعر (الشيخ جعفر) وغزارة مدلولاتها عكس عتبة السياب التي اكتفت بمدلول واحد وانطوت عليه، فالشاعر (حسب الشيخ) ألمح وأشار من بعيد في استخدامه هذه العتبة فاسحا المجال للقارئ كي يشاركه الاكتشاف والمتعة لكن السياب وضح وفصل وأشار إلى مايريد ودون ان يشرك التلقي بذلك، ولا شك فإن الشعر الحديث يميل إلى مشاركة التلقي وعدم اقصائه بأية حال من الأحوال.
البنية النصية
نص السياب طويل نسبيا وتسيطر عليه أجواء درامية وملحمية ولكن ما هو بملحمة شعرية مثل ملحمة جلجامش ولا هو دراما، ويتخلل نسيج النص العديد من الأمكنة والشخصيات وتتعدد مستويات السرد لديه، فهنالك ملامح وصفية عندما يفيض الشاعر بوصف أماكن وشخصيات بصورة مبالغ فيها، وفي أماكن أخرى ينكفئ الشاعر ليقدم ساردا آخر هو حفار القبور ذاته ويضع على لسانه ما يعاني منه الشاعر وكذلك الحفار حتى لتندمج الشخصيتان وكأنهما شخص واحد ولا نقدر أن نفرق بينهما:-
أظننتَ أنك سوف تقتحم المدينة كالغزاة
كالفاتحين، وتشتريها بالذي ملكت يداك
وهنا نلمح وكأن الشاعر يحدث نفسه عن خيباتها وهي تطالبه بما لا طاقة لها به، إذ كيف يقدم شاعر لا يملك سوى الكلمات لاقتحام مدينة محصنة، حتى وكأن طموحاته تبدو وكأنها لا شرعية وسيقاومها الناس فمن ذاك الذي سيسكت عن الغزاة ويفتح أبواب المدينة لهم.
أما البنية النصية في قصيدة الحفار للشاعر حسب فهي عبارة عن ديالوغ شعري بين الشاعر والحفار، وهو عبارة عن مقاطع صغيرة لا يتجاوز عددها الأربعة عشر مقطعا، وتحدث هذه المحاورة في حان لشرب الخمور متضمنة أسئلة منطوية على مفاهيم عميقة تلح عليها "أنا الشاعر"المعذبة والمغتربة لنديمها الحفار عندما نقرأ:-
قلتُ للحفار في حان المجرة:
إن للكأسِ ارتطامُ الرفش في الصخر المرنِّ
الشاعر هنا ينقلنا إلى قلب الحدث بدون مقدمات، إنها مقاربة مريعة (صوت الكأس والأقداح)هو كصوت ارتطام الرفش بصخور الأرض أثناء حفر القبر، وإذا كان الصوتان متشابهين فالمتعة واحدة في كل منهما أي في عملية حفر القبور وعملية احتساء الخمور، وهذا يعني أن الشاعر وهو في قمة نشوته لا تفارقه فكرة الموت بل تكاد تسيطرعليه بصورة مطلقة، إن هذا التشاكل بين رنين الكؤوس والرفوش يقود إلى تشاكل بين شرب الكؤوس وشرب أيام العمر، حتى أننا لا ندري هل نحن في حانة لشرب الخمر أم في مقبرة، وإذا كان الشاعر يلمح إلى حقيقة تشاكل الموت بعد انتهاء شرب كؤوس العمر مع حالة اللاوعي التي تنتاب الشاعر عندما ينتهي من جلسة الشراب هذه فهو في واقعه يقارب الحياة بترياق اللاوعي المؤقت في حالة الشراب، وهو ترياق متعمد لاجتلاب متعة متعمدة إلا أنه يلمح إلى متعة بعيدة لكنها قدرية ولا يدري زمانها ومكانها ألا أنها متعة أبدية وخالدة، إن منادمة الحفار لهو سبب كاف للشاعر كي يجعله يتذكر الموت، كما أن جواب الحفار على الشاعر سيكون جوابا آنيا ومخدرا للشاعر عندما نقرأ:-
قال:دع عنك الشظايا، كوِّمتْ في كل حفرة
وارتشفْ واهنأ فإنا في غدٍ رهن التظني
ويبدو واضحا هنا وكأن لسان حال الشاعر يقول دع عنك هذه الأفكار وتمتع بيومك فغدا لا أحد يعلم ما سوف يحدث، هي دعوة لتعطيل الزمن واقتناص اللحظة والاستمتاع بها.
الزمن في النص
إن موضوعة الزمن هي موضوعة معقدة، كما أن زمن النص سيكون موضوعة متفرعة وتحيل إلى عدة أزمان، فهنالك زمن الكتابة وهو زمن الشاعر وزمن النص على السواء وكل منهما سيتأطر بزمن مباين للآخر، فزمن النص سيكون ضمن الزمن(الدايكروني) العمودي للنصوص السابقة واللاحقة، وهو ضمن الزمن السنكروني (الأفقي) للنصوص المعاصرة والمحايثة، والزمن حسب باشلار هو لحظة بين عدمين أي زمن الماضي وزمن المستقبل الذي لا نعلم عنه شيئا، هنالك فرق بين الزمن في الطبيعة والزمن في النص، وحسب ميرهوف فإن الزمن الأدبي هو زمن الخبرة وهو زمن نفسي، هو زمن شخصي وذاتي وزمن الوعي وقصديته لدى الشاعر، ولو رجعنا للنص السيابي فسنجده زمناً متحركاً وغير ثابت في مكان، حيث يبدأ الشاعر بالأصيل:-
ضوء الأصيل، يغيم كالحلم الكئيب على القبور
فالأصيل هنا يحيل إلى نهاية يوم عمل مجدب وعقيم بالنسبة للحفار، والضوء هنا معتم وكئيب كالحلم ويزداد قتامة عندما يسقط على القبور، فعلا هو زمن النفس الحزينة وزمن الذات السيابية في تلك اللحظة، لحظة كتابة النص، أما الليل فهو أكثر حلكة وسواداً مثل سرب غربان في فضاء الأفق:-
تومي إلى سرب من الغربان تلويه الرياح
في آخر الأفق المضاء
الشاعر هنا يكثف الدلالة وإذ ينطفئ النهار ينطفئ الأمل في نفس الحفار ويزحف اليأس إليه كما يزحف الليل على المدينة، الزمن الطبيعي والمتعارف عليه هنا من يوم أو أسبوع يستخدمه الشاعر في بناء الدرامية في نصه وكأن الزمن هذا أحد شخوص النص وهو زمن يعمق الحدث ويضيف إليه أبعادا أخرى وله دور معادٍ وغير آمن بالنسبة للحفار ولا يلبي طلباته الإنسانية الطبيعية:-
سأموت من ظمأ وجوع
إن لم يمتْ...هذا المساء إلى غدٍ بعض الأنام
فابعثْ به قبل الظلام
يا رب...أسبوع طويل مرّ كالعام الطويل
الزمن له وجهان هنا فهو رحيم بالنسبة لأهل المدينة لأنه لم يمت أي شخص خلال هذه الفترة ولكنه كما أسلفنا كان قاسيا على حفار القبور ولا شك أنها مفارقة استخدمها السياب بمهارة كي نتعاطف مع هذا الشخص والذي يبدو وكأنه لن يعيش إلا بموت البشر .
الزمن النفسي في النص الثاني قد يكون زمناً مطلقا ولم يستخدم الشاعر الزمن الطبيعي لتعميق نصه ولكننا قد نحدس أن هذا الزمن هوالمساء ولكن ملفوظ الغد في النص يدل على مستقبل غير معروف موعد حدوثه :-
وارتشفْ واهنأ فإنا في غد رهن التظني
إن ما نريد أن نقوله هنا أن الزمن معطل الوظيفة في نص الشاعر الشيخ جعفر.
المكان في النص
يمثل المكان المستوى الأفقي في النص، وفي نص حفار القبور تتشكل عدة أمكنة لها وظائفها الدلالية والنفسية، وتشكل المقبرة القسيم الثاني في ثنائية (مقبرة - مدينة)، والسياب يشير إليه تكررا ومراراً في هذا النص حيث يصفه كما يلي:-
ضوء الأصيل يخيم كالحلم الكئيب على القبور
واهٍ، كما ابتسم اليتامى أو كما بهتتْ شموع
في غيهب الذكرى يهوّم ظلهن على دموع
والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيور
تتعمق هذه الأجواء عندما يصف السياب ما يملأ جو المقبرة وما يتردد في أنحائها من أصوات وأصداء:-
والجو يملأه النعيب
فتردد الصحراء في يأسٍ وإعوال رتيب
أصداءه المتلاشيات
لا يكتفي السياب بوصف المقبرة من الخارج بل يذهب بعيدا في وصفه عندما يصف قبرا من داخله وكذلك يصف الجهد الكبير الذي يبذله الحفار في حفر القبر وكأن الصحراء والريح تعانده في عمله لأنها لا تريد أن تكشف الموتى للأحياء، ومع ذلك فأالقبور المحفورة جديدا تكشف شيئا ًمن آثارهم فسوائل الأجساد المتفسخة يشربها الرمل لتتسرب بعيداً إلى الأماكن المجاورة لها:-
ما زلت أحفره ويطمره الغبار
تتثاءب الظلماء فيه ويرشح القاع البليل
مما تـُعصّرْ أعينُ الموتى وتنضحُهُ الجلود
وبالرغم من هذه الصور الكئيبة للمقبرة وملحقاتها فهي في واقعها مغرية لحفار القبور فهي المكان الذي يحصل فيه على النقود وهي محل ارتزاقه، وعلى الطرف الثاني من المقبرة (الموت) تقف المدينة (الحياة)، إن هذا التوازي بين المدينة والمقبرة يمثل الحقيقة الجامعة ما بين الحياة والموت أو بين الحضور والغياب، إن شخصية الحفار تمثل خيطاً يربط بينهما، إن الحفار وهو في قمة انهماكه في حفر القبور ودفن الموتى، يحن إلى الحياة وتفاصيلها، والسياب يكثف الوصف في هذا الاتجاه فهنالك الحانة:-
النور ينضح من نوافذ حانةٍ عبر الطريق
وتكاد رائحة الخمور
تلقي على الضوء المشبع بالدخان وبالفتور
وهنالك أيضا بيوت المتعة السرية ، ولها طقوسها الغريبة، وكأن السياب يحاول أن يدس في نصه تفاصيل الحياة والمدينة في زمنه حين يصف لنا تفاصيل عن هذه البيوت وكيفية ارتيادها:-
وتململتْ قدمان وارتفعت يدٌ بعد انتظار
وهوتْ على الباب العتيق، فأرسل الخشب البليد
صوتاً كإيقاع المعاول حين إدبار النهار
بين القبور الموحشات، وأطبق الصمت الثقيل
وأطل من إحدى النوافذ، وهي تفتح في ارتياب
وجهٌ حزين ثم غاب
وترك الباب المضعضع وهو يجهش بالعويل
وتقول أنثى في اكتئاب
"ضيف جديد" ثم تفرك مقلتيها في فتور
وهنا نلاحظ أن صوت الباب هو كصوت المعاول في القبور، وهو غير صوت الكؤوس في الحان عند حسب الشيخ جعفر، إن للمدينة سحرها المتوثب، فهي العالم السحري الذي ينشده الأحياء، هي البيت والحان والحديقة والأضواء والشجرة والعندليب، هي الفرح والحركة والجمال:-
ما زلت تحترقين من فرح، واحترق انتظارا
صبي سناك على التراب
إن أضواء المدينة ومصابيحها المتوهجات، دليل الحفار اليها، إنها تشد الحفار شدا نحوها، ودليله عند الرجوع من المقبرة، والطريق الواصل بينهما يمثل العمر الإنساني الفاني، أليست الحياة هي رحلة من المدينة إلى المقبرة؟، إن الطريق الصاعد نحو المدينة هو نفسه الطريق النازل نحو المقبرة وهذه هي إحدى التوصيفات البارعة في هذا النص:-
......،وكان حفار القبور
متعثر الخطوات يأخذ دربه تحت الظلام
يرى مصابيح المدينة وهي تخفق في اكتئاب
ويظل يحلم بالنساء العاريات وبالخمور
فيرى القبور
ويرى المصابيح البعيدة كالمجامر في اتقاد
ويرى الطريق إلى القبور
أما المكان في نص(الحفار) فهو مختزل في الحان، أي إن الحان يمثل المكان الأول والأخير في النص:-
قلت للحفّار في حان المجرة
والمكان بقى في حالة سكون أفقي، ولم يشهد نزوعا منه أو إليه، إن اقتضاب النص وإشارته من خلال اللمح والإشارة كان كافيا للتلقي كي يفهم أن هنالك موت وهنالك حياة، وبقى المكان فاعلا ولم تتعطل وظيفته.
البناء النصي
إن نص السياب يبدو وكأنه قصة شعرية، ولكنه في الواقع تداعيات نفسية مسرودة شعرياً، هنالك أمكنة وهنالك زمن عشوائي لا خطي وهنالك خيط درامي يشد أجزاء النص شدا إلى بعضها البعض، إننا أمام عدة منولوغات داخلية مرعبة، يبدأ السياب نصه بوصف عام للمقبرة عند الغروب ومن ثم ينحى سرديا بوصفه ساردا كلي العلم عندما يتكلم على لسان الحفار مستخدما تقنية المنولوغ الداخلي أو ما يسمى بتيار الوعي، عندما يشرح الحفار معاناته في سبيل الحصول على النقود لأنها تؤمن له احتياجاته الحياتية المشروعة واللا مشروعة أيضا،إن عدم حصول الحفار على رزقه اليومي سيجعله وجها لوجه أمام خطر الموت جوعا وربما الفناء،ولكن المفارقة في مهنة الحفار عند السياب أنه يعيش على حساب موت الآخرين، لذا فحفار السياب يتمنى أن يموت الناس يوميا وبأية وسيلة كانت سواء بالأوبئة أو حتى بالزلازل، حتى أنه يحسد المدن المبتلاة بالحروب.
حفار السياب هذا لا يكتفي بصرف نقوده على احتياجاته الضرورية ولكنه أيضا يريد أن يتمتع بالحياة الدنيا عن طريق شرب الخمور وارتياد بيوت المتعة، بل لا يتوانى هذا الحفار في صرف نقوده بطريقة غريبة على أحدى البغايا، ففي النص نقرأ عن أحد هذه البيوت الذي يعيش فيه حارس فقير وزوجته المومس، وهؤلاء حتى لا يموتوا من الجوع فلهم فلسفتهم الخاصة بالعيش فهم يتوسلون الموت الأخلاقي للمجتمع، وتبدو هذه القصة مقحمة على النص فلم تضف شيئا للنص سوى إطالته:-
وحارس تعب يعود
وسنان يحلم بالفراش وزوجته تذكي السراج
تنتهي الحبكة السيابية في هذا النص بمفارقة مأساوية حيث تموت البغي ويدفنها الحفار بنفسه مستردا منها نقوده التي كان قد أعطاها لها في أحدى زياراته لها:-
ماتت كما ماتوا، وواراها كما وارى سواها
واسترجعت كفاه من يدها المحطمة الدفينة
ما كان أعطاها، وإن حملت يد امرأة سواها
تلك النقود
في قصيدة الحفار للشاعر حسب الشيخ جعفر، نرى تباينا في المستوى التكنيكي مفارقا في الكثير من التفاصيل عن النص السيابي، وهو عبارة عن توصيف حواري لجلسة شراب في حانة ينادم فيها الشاعر حفار القبور وكأن الحفار مرآة الشاعر يحاول أن يبصر فيها الحقيقة أو جوهرها، حيث نقرأ مفاهيم معينة بصيغة الاستفهام أو إيراد قناعات معينة كونها الشاعر في عالم الخبرة وهذه القناعات غير راسخة تبحث عمن يؤكدها أو ينفيها وليس هنالك أفضل من الحفار بمعناه المطلق كي يجيب عن هذه الأسئلة، إن الشاعر تعذبه هذه الأسئلة حتى الراح تكاد لا تعينه في نسيان همومه وهذا ما شكاه للحفار حين قال:-
قلت: ما للراح لا تطفئُ لي صدري المعنى
كلما أترعتها طارت شعاعاً في الخفايا
والمعنى أعلاه نقرأه عند الجواهر ي عندما يقول:-
لا يطيرون من سرور ولا حزن شعاعا لأنه غير محسوب
يـُلبس الشاعر حسب حفاره قناع العارف والخبير، ويتخذه في الوقت ذاته قناعاٌ له، حيث نجده يلفت نظرنا إلى مواطن أخرى من الجمال واصفا لنا، عقاقير طبيعية وجمالية أشد تأثيرا من السابق عقاقير مرتبطة بالعالم الروحي نشوة ومتعة وسكينة:-
قال:فادع الشادن الشادي الأغنا
إن في ياقوت خد الريم قوت للحنايا
في هذا المقطع تتجلى براعة الشاعر حسب الشيخ فنياً فالياقوت يمثل معادلا موضوعيا للجمال بوصفه قيمة متركزة في خدود الريم، وملفوظ الريم كناية وتورية للكاعب الحسناء ولجمال المرأة، وهنا يعطي الشاعر وظيفة روحية للمرأة وهي غير الوظيفة الجنسية التي وجدناها عند السياب حين يقول:-
والحلمتان أشد فوقهما بصدري في اشتهاء
حتى أحسهما بأضلاعي وأعتصر الدماء
بالطبع نحن أمام عالمين مختلفين هما عالم الشاعر حسب الشيخ والذي يبدو وكأنه قد نال من الدنيا كل ما أراد وغدا باحثا عن الجمال وعالم السياب الذي لا يزال باخلا وقانتا في إعطاء الشاعر ما يريد، لذا فهو يبحث عن المرأة الجسد ليس إلا، وهذا يقود إلى أن الشاعر فعلا يغترف من حياته ويسكب في نصوصه، لذلك بدا التوظيف الشعري للمرأة في النصين متباينا إلى حد كبير، فدلالة المرأة في هذا النص دلالة إيقونية فهي جسد ليس إلا، ولكنها عند حسب غدت رمزا للجمال وصورت بطريقة مثالية ذات وظيفة صوفية بعيدة عن عالم الواقع تدل وإن سكت الكلام لعالم الخيال والجمال وهذا هو ديدن الشعر وليس العكس، وإذا كان حفار القبور عند السياب قد طحنته الحياة بصورة مزرية وقد لا تكون للرحمة مكان في قلبه، فإن الحفار عند الشاعر حسب يبدو مختلفا وأكثر حكمة وخبرة لذا نجد الشاعر ينادمه ويسأله أسئلة وجودية تعذبه، ليس هذا فقط بل هو يطلب منه الرفق والرحمة عندما تحين ساعته ويأتون به عند الدفن:-
قلت:رفقا بي غدا إن جئت أُنعى
واتئد واذكر أنيساً، ما أضاء النخب حانا
الشاعر حسب الشيخ يستفز نديمه الحفار ويذكره بأنه ورغم الخبرة فهو حفار ليس إلا، لذلك فالشاعر يريد أن يذكره الحفار حتى بعد موته، وخصوصا عندما تضاء وتفتح الحانات، وبالتالي فهي طلبات تبدو غير معقولة لذا وجدنا الحفار يطالب بثمن ذلك:
قال:إن أغدقت لي اليوم فقد أحسنت صنعاً
وغداً إن متَّ لن أسأل قرشاً يا أخانا
والحفار هنا يطالب الشاعر بالدفع مقدما لعمل قد يقوم به أو لا يقوم به، واعدا إياه بأنه لن يأخذ قرشاً من مؤبنيه!!وبالطبع هذا يبعث على السخرية لذا وجدنا الشاعر يتهكم على حفاره:-
قلت:يا حفارُ خففْ، أثقلتْ ردما علي
رنةُ المعولِ، في كفيكَ صبحا وعشيا
ولو تجاوزنا الجو الخارجي التهكمي للبيت أعلاه ودخلنا في التفاصيل نجد أن ملفوظي صبحا وعشيا يمثلان زمنيين طبيعيين مقتضبين يحيلان دلاليا لمكانين مختلفين هما المقبرة والحان على التوالي، ورنة المعول تحيل إلى وظيفتين تختلفان باختلاف الظرف الزماني، ففي الصباح تحيلنا إلى حفر القبور وفي المساء تحيل إلى قرع الكؤوس، وفي كلتا الحالتين فإن الشاعر هنا يجد أن حفاره قد أثقل عليه من كثرة الردم والدفن فطلبات الحفار تشاكل عملية إهالة التراب على جسد الميت وردم القبر ومساواته مع سطح الأرض وكأن جسد الميت يحس بثقل التراب على جسده، برأينا أن التشاكل والتوحد الذي صوره الشاعر بين رنة المعول والكأس وثقل التراب وثقل الإحساس بالموت مؤطرا بتواز زماني ومكاني يمثل خاتمة مؤثرة في هذا النص تشاكل عملية الموت ذاتها بوصفها مدلولا نهائيا إلى حيث الصمت والسكون مؤطرة بتهكم قاس ينهي مخاوف الشاعر والنص على السواء.
التقاطع والتوازي في النصين
يتوازى النصان في بعض التفاصيل ويتقاطعان في تفاصيل أخرى، فعـلى مستوى المكان(الحان حصرا) نجد توازيا أما المقبرة والمدينة فهما غائبتان على مستوى الملفوظ في نص حسب ولكنهما حاضرتان باللمح والإشارة فقط، وكذلك هنالك توازيا على مستوى المعاناة لدى الشاعرين ولكنهما متقاطعتان في التفاصيل فمعاناة السياب دنيوية(مادية) بينما معاناة الشاعر حسب انطولوجية، أما على مستوى التقاطع فالنصان متقاطعان على مستوى الزمن والمركز وجزئيا على مستوى العتبة، وهنالك بعض العلامات السيابية في نص الشاعر حسب، ولا شك أن الشاعر حسب الشيخ قد قرأ نص السياب واستفاد من بعض أدواته وطورها فالحانة ورنة المعول هي أدوات بدت واضحة في النص السيابي، فرنة المعول عند السياب هو صوت طرق البابكما أسلفنا :-
وتململتْ قدمان وارتفعت يد بعد انتظار
وهوتْ على الباب العتيق، فأرسل الخشب البليد
صوتا كإيقاع المعاول حين إدبار النهار
بين القبور الموحشات،
ولكن رنة المعول تحولت إلى رنة القدح في نص الشاعر حسب:-
إن للكأس ارتطام الرفش بالصخر المرن
وإذا كانت المرأة عند السياب جسدا أو متعة، فهي عند الشاعر حسب الشيخ عقار ودواء روحي، حفار القبور عند السياب ما هو إلا إنسان بسيط يبحث عن لقمة العيش والمتعة، ولكنه في النص الثاني كان أعمق وأضحى فيلسوفا أكثر منه حفارا للقبور، إن الأدوات رياديا هي سيابية ولكنه قد طورت من قبل الشاعر حسب ولكن تبقى شاعرية السياب طاغية ولن تستوعبها حتى النصوص الطويلة.
الخاتمة
نستشف من أعلاه أن وظيفة حفار القبور في نص السياب كانت تعبيرا لمعاناة السياب ولا شك أن من يقرأ النص السيابي سيجده قد قال الكثير على لسان حفار القبور وكأن الحفار ينطق بلسان حال الشاعر حيث يندمج صوتاهما معا ولا تكاد تميز بينهما، وقد نجح السياب في لفت انتباهنا إلى لغته وصوره الشعرية البارعة التي ما أن تبدأ حتى يكون صعبا حتى على الشاعر ذاته في إيقافها.
أما في نص الشيخ جعفر فإن رغبات الشاعر وتساؤلاته كانت وجودية محضة وهذا ما جعله ينادم الحفار، مما يجعلنا نتساءل لم ينادم الشاعر حفار القبور وهو الشخص الذي يذكره بالموت؟!، وبالطبع فإن منادمة الحفار كان اختيارا ذكيا من قبل الشاعر، فهو نديم لا يشابهه أي نديم، فالحياة برأي الشاعر قصيرة وتكاد تكون مثل جلسة للشراب، كما أن الموت يمكن أن يزور الإنسان في أي وقت يشاء بل في أية لحظة، إذن فالحفار هنا يمثل رمزا للموت وأن تنادم الموت بمعناه الكوني والواقعي يمثل اعترافا بأنه نديمنا الدائم الذي لا فكاك منه، وهذا يقود التلقي إلى رصد لمداليل عميقة وغير قاموسية مثل(جلسة الشراب-الحياة)، وكذلك(الحفار-الموت)وغيرها.
إن الشاعر توجه بأسئلته إلى الحفار وكذلك أخبره عن قناعات معينة لديه، وفي الوقت الذي تعجز الحياة عن إخباره عن هذه الأسئلة فالشاعر لا يعدم وسيلة في إيجاد الجواب عنها حتى لو كان من الموت ذاته، هنالك أيضا (الحفار-الشاعر) فكلاهما مرآة للآخر، الحفار يدفن والشاعر يخلق، وهذا الاختلاف الظاهري يمثل تشابها في مستواه الباطن فكلاهما يحفر، الحفار يحفر في الأرض والشاعر يحفر في اللغة، الحفار يخرج التراب والشظايا والشاعر يستخرج المعاني الجديدة، وإذا كان الشاعر ينفخ روحا في الكلمات لخلق معان جديدة وقصائد جميلة فإن الحفار يلحد الموتى في الحفر ومنهم الشاعر إذا مات، والشاعر أيضا يمكن أن يدفن الحفار في أحدى قصائده، وفي الوقت الذي يعي الشاعر عمله بقصدية طوعية أو قدرية لها منحاها الروحي والإنساني والجمالي، فإن الحفار قد يكون مجبرا على عمله هذا فلربما لا يحسن غيره، وعلى هذا الأساس نفهم طبيعة التهكم المرير الذي ابتدأ به الشاعر قصيدته وأنهاها وأخيرا لا بد من تفهم المقاربة القاسية التي توحد النصين عند كلا الشاعرين الكبيرين هي أن اللغة والأرض متوحدتان وكلاهما تشير إلى الأخرى.



(*) هذه الدراسة نشرت في مجلة الرافد الإماراتية وعدة مواقع وهي منشورة في كتابنا المعنون(جماليات الشعر والنثر من القراءة إلى التأويل)





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى