"1"
لصّ الشعور
وقف اللصّ أمام القاضي بكامل ظرافته وابتسامته التي راح يوزّعها بالمجّان على الحضور.
وحين أوضح القاضي له أنّ المحكمة تهبه حقّ توكيل محام.. رفض وقال :
"أنا محامي نفسي ولا أحد سيتفهّم دوافعي مثلي ".
- هل تقرّ وتعترف أنْك سارق محترف؟
- أجل يا سيدي
وهل ستعيد المسروقات لأصحابها؟!
- هيهات يا سيدي، كلّها الآن لم تعد ملكي.
- حدّثنا إذاً عن تاريخك اللصوصيّ، لعلّ المحكمة تجد لك دوافعاً وأسباباً للتخفيف من الحكم .
ابتسم اللصّ الظريف وسرحت عيناه في البعيد كأنّه يستذكر تاريخ أول قبلة، ثمّ قال :
"كان شاعراً مغموراً
أقف تحت نافذته كلّ ليلة لأثمل بسماع قصائده الشجيّة كأني أصغي لبحّة ناي.
قصائده التي غالباً ينهيها بنشيج مكتوم ثمّ يغرق في النوم.
وحين تلصّصت عليه وجدته قبل أن يسرقه النوم مني يمزّق ما يكتب ويرمي القصاصات في سلّة المهملات.
هل حقّاً ارتكبت جريمة حين رحت أتسلّل عبر نافذته وأجمع قصائده المنثورة ثم أنشرها للنور والهواء، مطبوعة باسمه لا باسمي.
ثمّ أنّي كنت أدري أنه سيمسك بي متلبّساً بعد أن ذاعت شهرته، ليعرف من أخذ القرار عنه بإخراجه من نشيجه لتصفيق الإعحاب"
"2"
لصّ الوقت
- و ماذا تقول عن سرقة الساعات من بيت العجوز؟!
أجاب اللص وبراءة الأطفال في عينيه :
نعم فعلتها ولو أطلقت سراحي سأظلّ أفعلها.
ماذا تفعل الساعات بمنزل عجوز، لا عمل لديه سوى عدّ ثواني العذاب في مدى الانتظار الطويل.
ثم لأخبرك بأمر لا تعرفه !
منذ عرف أولاد هذا المسكين أن لصّاً داهم بيت والدهم الوحيد، صاروا أكثر اهتماماً ويتناوبون على تمضية الوقت معه.
للطرافة أخبرك، أنّي أخذت معي أيضاً التقويم المعلّق قرب سريره.
أما ما فعلته بكلّ هذه الساعات التي كان يوزّعها في كلّ ركن ،
فقد تبرّعت بإحداها لطالب مقصّر، وأخرى لعامل كسول، وثالثة للمواعيد العربية كي تضبط توقيتها على ساعة بيغ بن.
ورابعة احتفظت بها كمنبه ضروري لاستكمال لصوصيتي كعمل لا أتقاضى عليه أجراً سوى الجحود والنكران، ثمّ الوقوف كمجرم في قفص الاتهام.
"3"
لصّ القبلة
- ماذا سرقت أيضاً، هيّا اعترف ولا تحوجنا لاتباع أساليب ترغمك على إفراغ جعبتك من مسروقاتها الكثيرة كما يبدو.
- سأعترف، رغم أنه لا دليل ضدّي، ولا شيء يجبرني على ما سأقول .
كانت حلوة كقمر نيسان، تنتظره كلّ ليلة عند نافذتها، ومرّات نهاراً عند الباب.
وكنت أراها في رواحي والإياب، وينفطر قلبي حزناً على من أحبّت من لا يستحق حتى رفّة هدبها.
زير نساء مشغول عنها بنساء رخيصات لا يعرفن من أسماء الحبّ العظمى إلا الهوى.
وقد ترددت طويلاً قبل الإقدام على فعلتي الحمقاء تلك.
تسلّلت مع أشعة القمر إلى خدرها بعد أن تعطّرت بعطره الذي تحفظه عن ظهر قلب، و ارتديت ما يشبه ثيابه و استعرت صوته.
و فيما هي بين الصحو والغفوة سرقت منها قبلة طويلة.
يشهد الله أنّي كنت كرسول السماء لم تعتريني شهوة رغم جمالها الماحق، وكان كلّ همّي أن أهب تلك المسكينة ما تستحقّ من علامات الحبّ.
ثم تركت لها ورقة أخبرها بها أني مضطر للسفر والغياب، ووقّعتها باسمه الملوّث بالخسّة.
ثم أرسلت للدون جوان رسالة تهديد من مجهول أن يختفي تماماً من حياة هذه الجميلة
وإلا......
عرفت أن الحسناء تزوجت منذ فترة، وبقي أثر قبلة يتيمة عالق على شفتيها كوشم أثير.
"4"
لصّ الفرص
و من أطرف ما سرقتُ يا سيدي القاضي الفُرَص، فهل تُسرق حقّاً الفُرص؟!
كنت أرى الفرصة كفتاة جميلة يتهيّب الشبّان وكذا العجائز التقرّب منها خوفاً أو عجزاً فإذا ما عادوا لا يجدونها لأني أكون صيّادها المتربّص.
يقال أن الفرصة لا تأتي للمرء مرّتين وأنا لم أكن أنتظرها لتأتي بل أسعى إليها حيثما كانت وأسلك أضيق الدروب لأظفر بها.
ثم ماذا بعد ذلك ؟!
لا شيء..
أطلق سراحها مسجّلاً أمام نفسي انتصاراتي واحداً إثر الآخر.
فكأن هذه الفرص ما كانت إلا رقصتي البهلوانية على حبال المغامرة، أو فنادقاً أقيم فيها لأيام، أو بلداناً أسوح في بديع جمالها.
نسيت أن أخبرك يا سيدي
أنني كثيراً ما كنت أقنص الفرصة، ثم أقدمها بكلّ طيب خاطر لذي حظّ عاثر أو مسكين فتّح عينيه على مقولة أن الفرص للفهلويّ الشاطر.
فهل حقّاً أدعى سارقاً، طالما لا غاية عندي سوى التحدّي .. ثمّ الجود بما عندي ؟؟!!
"5"
لصّ الأفكار
"و ماذا عن سرقة الأفكار أيها اللصّ الظريف".
يشعر اللصّ بأن إطلاق القاضي عليه هذا اللقب يشبه وسام الشرف و إقرار مبطّن بأنه لا يضعه في خانة من نهبوا قوت الشعب و تسلّقوا على حساب مال حرام.
فينظر له بما يشبه الامتنان و يتابع :
يا سيدي.. ياااااا سيدي
هل عندك صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي.
يضرب القاضي بمطرقته على الطاولة، ويعقد بين حاجبيه لتنبيه هذا الظريف أن يراعي حدود الاحترام.
فيتابع: لا تظن لا سمح الله أن قصدي التطاول على مقامكم العالي..
ولكني قصدت أنك لو دخلت هذه المواقع لأدهشك الكمّ الهائل من الأفكار العظيمة التي سريعاً ما تتحول لغبار تذروه الرياح.
و أنا كلّ ما أفعله ان أقوم بدور الدجاجة في النبش عن حبّة القمح بين التراب ثم نقلها لجهات تملك قوة و إرادة تنفيذها، أو كأنّي فراشة تحمل حبات الطلع على جناحها وكل حظّها رشفة رحيق.
يتحدّثون عن شيء يدعى براءة اختراع أو حقوق النشر. و أنا أقول لو حرص صاحبنا على قيمة أفكاره ما فرّط بها لكل من هبّ و دبّ، و المفرّط وفق قانونكم أولى بالخسارة.
رغم ذلك، و للأمانة أقول
ما سرقت فكرة إلا وضعت تحتها كلمة "منقول".
"6"
لصّ الانترنيت
يبدو أن ملفّ قضية اللص الظريف كان كبيرا،ً والاستماع لاعترافاته ثمّ البتّ بها، يحتاج لأكثر من جلسة.
لكنّ أحداً من الحضور لم يبد تذمراً وكذلك القاضي..
كانوا يستمعون له بمتعة كبيرة ويتساءلون ماذا عساه أن يكون قد سرق أيضاً.
لمعت عيناه بمكر محبّب ثم قال: أتدري يا سيدي، لولا سرقاتي لرأيت أغلب البيوت خربانة و الطلاق أرخص من الفجل أيام كان الفجل رخيصاً.
بدا الفضول على وجه القاضي لكنه اصطنع الوقار وترك المتهم البريء يكمل اعترافاته.
"لقد سرقت أغلب كلمات السرّ من فضائهم الأزرق، والذي كان سيصير "كحلي على نيلي" لولا تدخّلي.
كانت الزوجات يتربصن بأزواجهن لتمسكن عليهم ممسكاً يدلّ على خيانتهم لهنّ عبر محادثات الواتس او الماسنجر وما شابهها من وسائل الاتصال.
كذلك كان الأزواج في استنفار دائم للقط الزوجات بالجرم المشهود.
و أنا.. وأعوذ بالله من كلمة انا..
قبل أن يكتشف كلّ شريك ما "يهبّبه" شريكه.
أدخل و أمسح كلّ دليل إدانة.. تاركاً رسالة صغيرة :
"كن على حذر.. الكعب العالي ينتظر رأسك"
أو..
احذري.. هذه المرة حصل خير.. إن لم تكفّي .. مصيرك بكفّي.
قل لي بربّك يا سيدي، هل هذا ما يدعونه بالتهكير، وأنا كلّ هدفي الحفاظ على صغارهم من سوء المصير.
"7"
لصّ الممنوعات
قال القاضي للصّ :
يا ابني يبدو أنك متورط جداً و يزيد تورّطك أمران :
أولهما أنك ضبطت متلبساً بالجرم المشهود.
وثانيهما اعترافك بما اقترفت.. والاعتراف سيّد الأحكام.
هات أيضاً ما تبقى في جعبتك من سرقات.
أخرج اللص من جيبه علبة سجائر ومن الأخرى زجاجة كحول، ففغر القاضي فاه العجب و سأله : من أين لك هذا؟!
و كطفل ضبط يمارس ما منع عنه تحت تهديد العقوبات الصارمة أجاب :
- علبة السجائر من سجين لا أعرفه تركها على رفّ الحمّام و الزجاجة من سجين آخر خبّأها عن الرقابة حشو وسادته.
- ما قصتك معهما وما دوافعك
- هي يا سيدي عادة قديمة تربّيت عليها بأن أصدّق مقولة أنّ التدخين مضر بالصحة، خاصة و أن جهات مسؤولة كتبتها حتى على علب السجائر.
أما الكحول فقاتل صامت.
جارنا المدمن مات بسببه.،
وفتاة بريئة اغتصبت تحت وطأته.
وأطفال يعنّفون من أبيهم السكّير..
هل أعدّ لك أكثر أم أنت يا سيدي أخبر ؟!
و هكذا بتّ أتصرف بحسن نيّة و أسرق من الناس بخفّة سجائرهم ومشروباتهم الروحية.
بحقّ الله يا سيدي لم سمّوها روحية و أين الروح من ذهاب العقل والاتزان؟!
- هل تظنّ نفسك مخوّلاً بإصلاح الكون.. يا فتى؟!
ثم أن سرقتك لهم لن تمنع مدمن من معاودة شراء ما فقد.
- فلتكن إذاً عقوبة يستحقونها بهدر أموالهم لاستجلاب المرض.
و للعلم يا سيدي فإني لا أرمي مسروقاتي كما هي، فلعلّ جامع القمامة يرى بها رزقة أتته من السماء.
بل أفتّت السجائر وأسكب الزجاجات، فلا عين رأت ولا أذن سمعت، وأجري و ثوابي عند الله.
"8"
لصّ الأبواب
"سرقت أيضاً يا سيدي أبواباً ونوافذ وحتى حيطان.
لا تسئ الظن بي يا سيدي.. فالمفترض أنك صرت خبيراً بنواياي البيضاء الموشّاة بالزهر.
هذه القصة بالذّات تحتاج لخطّة عمل و دراسة تاريخية للمسروق.
مثلاً.. أنا لا أسرق لا سمح الله باب بنك أو نافذة بيت محترم أو جداراً يحمي فقيراً.
أنا اتخيّر زبائني بحكمة.
هناك باب موصد على فتاة تحلم أن تكمل تعليمها كأقرانها، و أهلها يرون أنّ خير مصير لها انتظار نصيبها لعل بغلاً يريحهم من علفها.
اقتلع الباب والنوافذ وأفتح أفقاً للمسكينة لتحلم ثم تقوى على الخروج.
وهناك سجين بريء خلف القضبان لم تجر حتى محاكمته، نخر الصبر والأمل عظامه لسنين منتظراً عدالة السماء، وما من عدالة سوى أن أستخدم شياطيني الرحيمة وأخرجه .
وهناك أطفال في العراء خرجوا من بيوتهم لأنّ الحرب بنت كلب.
أحمل إليهم الأبواب والنوافذ و الجدران التي سرقتها، فينسون لحين ما ضعضعته الحرب في نفوسهم.
هناك بخيل يحرم أطفاله حقّ الاكتفاء بسياسة التقتير و التوفير، و يحصّن نقوده خلف أبواب وأقفال.
ومحسوبك خبرة بفتحها أو كسرها أو حتى تفجيرها..."
أوقف القاضي اللص عن الاسهاب في حكايا الأبواب، وأسند رأسه على كفّه يفكّر بنبيّ مختلف عما نزلت به السماوات..
و هو يتخيل كم حكاية لا تزال في جيوب هذا اللصّ الجوّال.
"9"
لصّ النوم
تابع اللص إفادته غير الكاملة، لتعذر سرد سرقاته البسيطة هنا و هناك :
حتى النوم لم ينجُ مني، وسرقته من عيون لا تستحقّ أن يغمض لها جفن.
كشبح تسللت لغرفة نومه ثم أطلقت هناك براغيثاً أحضرتها خصيصاً كرمى لعينيه، في اللحظة التي كاد فيها أن يغفو غارقاً في نعيم الأحلام.
لم تجد كل وسائله في قتل جنودي، لا الصاعق الكهربائي و لا البخّاخ الفعّال ولا حتى الناموسية التي تزمّل بها لتحميه من الاقتحام.
تسألني يا سيدي لماذا هذا الانتقام بحرمانه المنام؟!
كم ربّ أسرة اقترض منه بالربا و أمضى الليل يضرب أخماساً بأسداس ليهتدي لطريقة يفي بها هذا المرابي ماله.
كم عامل عنده جفّ عرقه دون أن ينال حقّه منه فوصل ليله بالنهار .
وذاك الشاب العصاميّ الذي تقدّم لخطبة ابنته، كم ليلة أمضاها يساهر النجوم لأن مصيره بهذا الطاغية محكوم.
العدالة تقتضي يا سيدي القاضي كما أراها، أن أسرق نوم هذا النكرة و أهبه لمريض يتألم أو لعاشق أنحل السهاد جسمه أو لعجوز لا تعرف ليلاً من نهار.
صمت اللص الظريف ثم أجهش بالبكاء.
أيها القاضي، لقد سبقتك السماء بالحكم علي فاستمع لختام قصتي.
"10"
الخاتمة
"اقضِ ما أنت قاضٍ يا سيدي.. فحقّك أن تنصب موازين العدل كما تراها عين سيادتكم طالما أقسمتم ألا يبات إنسان مظلوماً"
غرق الحضور بالدهشة و بدا لهم اللص الظريف كذلك الموسيقيّ الذي عزف فأبكى ثم عزف فأضحك ثم عزف فأنام ثم عزف فأيقظ.
منذ لحظات كان يتقافز كبهلوان لا يأبه من يشهد رقصته أو ما مصير حياته.
و الآن يبدو منكسراً حزيناً يستعجل انفضاض الجلسة ليختلي بهمّه الكبير.
و تحوّل القاضي لأب رؤوف، وراح يسأل اللص الظريف ماذا كان يقصد بانتقام السماء.
تنهّد اللص حتى كأنّ السماء تصدّعت وخرجت آه شاهقة كأنها ركعة صلاة بين قيام و سجود.
"لقد سرقت قلبي
أنا اللصّ الذي يسرق الكحل من العين، تسرق قلبه امرأة
هل تذكر دليلة يا سيدي كيف قصّت شعر شمشون فصار بلا حيلة.
كذلك فعلت بي أخت الشمس والقمر.
انا الذي يوماً ما أبهت للنساء و لا خطر لي ان يصعقني الحب.
اقرأ في عينيك وعيون الحضور الدهشة وحقكم أن تدهشوا.. وتسألوا.. لم لا تتزوجها؟!
لأنها ببساطة متزوجة ومخلصة لزوجها حتى نقيّ العظم.
رأيتها يوماً تجلس على مقعد في الحديقة مع طفلها! فأحسست قلبي وقع وتدحرج صوبها.
اصطنعت سبباً لأسمع صوتها فتناثر قلبي المتدحرج شهباً ونجوماً.
صرت أتردد يومياً على الحديقة وبدأ الطفل يتعلق بي، وهي تكتفي بابتسامة حيية حين ترى طفلها يلهو معي سعيداً.
من يومها لم أعد ذلك اللصّ الظريف.
لقد استردّ الله مستحقّاته مني بأن تسرق قلبي امراة متزوجة مخلصة ثم تمضي كأنها لم تقترف ذنباً".
لا يهمّ ما كان حكم القاضي بعدها..
فحكم السماء كان أقسى بكثير
وما زال اللصّ ينتظر أن تسرق هذه السماء زوجها لعلّ احتمالاً ولو واحد من مليون يكون شقّ نور في جحيم أشواقه، رغم يقينه أنها ستقول :
الإخلاص أن نكون أوفياء حتى لمن رحلوا.
تمّت
- من مجموعتي القصصية .. هبوب الروح
لصّ الشعور
وقف اللصّ أمام القاضي بكامل ظرافته وابتسامته التي راح يوزّعها بالمجّان على الحضور.
وحين أوضح القاضي له أنّ المحكمة تهبه حقّ توكيل محام.. رفض وقال :
"أنا محامي نفسي ولا أحد سيتفهّم دوافعي مثلي ".
- هل تقرّ وتعترف أنْك سارق محترف؟
- أجل يا سيدي
وهل ستعيد المسروقات لأصحابها؟!
- هيهات يا سيدي، كلّها الآن لم تعد ملكي.
- حدّثنا إذاً عن تاريخك اللصوصيّ، لعلّ المحكمة تجد لك دوافعاً وأسباباً للتخفيف من الحكم .
ابتسم اللصّ الظريف وسرحت عيناه في البعيد كأنّه يستذكر تاريخ أول قبلة، ثمّ قال :
"كان شاعراً مغموراً
أقف تحت نافذته كلّ ليلة لأثمل بسماع قصائده الشجيّة كأني أصغي لبحّة ناي.
قصائده التي غالباً ينهيها بنشيج مكتوم ثمّ يغرق في النوم.
وحين تلصّصت عليه وجدته قبل أن يسرقه النوم مني يمزّق ما يكتب ويرمي القصاصات في سلّة المهملات.
هل حقّاً ارتكبت جريمة حين رحت أتسلّل عبر نافذته وأجمع قصائده المنثورة ثم أنشرها للنور والهواء، مطبوعة باسمه لا باسمي.
ثمّ أنّي كنت أدري أنه سيمسك بي متلبّساً بعد أن ذاعت شهرته، ليعرف من أخذ القرار عنه بإخراجه من نشيجه لتصفيق الإعحاب"
"2"
لصّ الوقت
- و ماذا تقول عن سرقة الساعات من بيت العجوز؟!
أجاب اللص وبراءة الأطفال في عينيه :
نعم فعلتها ولو أطلقت سراحي سأظلّ أفعلها.
ماذا تفعل الساعات بمنزل عجوز، لا عمل لديه سوى عدّ ثواني العذاب في مدى الانتظار الطويل.
ثم لأخبرك بأمر لا تعرفه !
منذ عرف أولاد هذا المسكين أن لصّاً داهم بيت والدهم الوحيد، صاروا أكثر اهتماماً ويتناوبون على تمضية الوقت معه.
للطرافة أخبرك، أنّي أخذت معي أيضاً التقويم المعلّق قرب سريره.
أما ما فعلته بكلّ هذه الساعات التي كان يوزّعها في كلّ ركن ،
فقد تبرّعت بإحداها لطالب مقصّر، وأخرى لعامل كسول، وثالثة للمواعيد العربية كي تضبط توقيتها على ساعة بيغ بن.
ورابعة احتفظت بها كمنبه ضروري لاستكمال لصوصيتي كعمل لا أتقاضى عليه أجراً سوى الجحود والنكران، ثمّ الوقوف كمجرم في قفص الاتهام.
"3"
لصّ القبلة
- ماذا سرقت أيضاً، هيّا اعترف ولا تحوجنا لاتباع أساليب ترغمك على إفراغ جعبتك من مسروقاتها الكثيرة كما يبدو.
- سأعترف، رغم أنه لا دليل ضدّي، ولا شيء يجبرني على ما سأقول .
كانت حلوة كقمر نيسان، تنتظره كلّ ليلة عند نافذتها، ومرّات نهاراً عند الباب.
وكنت أراها في رواحي والإياب، وينفطر قلبي حزناً على من أحبّت من لا يستحق حتى رفّة هدبها.
زير نساء مشغول عنها بنساء رخيصات لا يعرفن من أسماء الحبّ العظمى إلا الهوى.
وقد ترددت طويلاً قبل الإقدام على فعلتي الحمقاء تلك.
تسلّلت مع أشعة القمر إلى خدرها بعد أن تعطّرت بعطره الذي تحفظه عن ظهر قلب، و ارتديت ما يشبه ثيابه و استعرت صوته.
و فيما هي بين الصحو والغفوة سرقت منها قبلة طويلة.
يشهد الله أنّي كنت كرسول السماء لم تعتريني شهوة رغم جمالها الماحق، وكان كلّ همّي أن أهب تلك المسكينة ما تستحقّ من علامات الحبّ.
ثم تركت لها ورقة أخبرها بها أني مضطر للسفر والغياب، ووقّعتها باسمه الملوّث بالخسّة.
ثم أرسلت للدون جوان رسالة تهديد من مجهول أن يختفي تماماً من حياة هذه الجميلة
وإلا......
عرفت أن الحسناء تزوجت منذ فترة، وبقي أثر قبلة يتيمة عالق على شفتيها كوشم أثير.
"4"
لصّ الفرص
و من أطرف ما سرقتُ يا سيدي القاضي الفُرَص، فهل تُسرق حقّاً الفُرص؟!
كنت أرى الفرصة كفتاة جميلة يتهيّب الشبّان وكذا العجائز التقرّب منها خوفاً أو عجزاً فإذا ما عادوا لا يجدونها لأني أكون صيّادها المتربّص.
يقال أن الفرصة لا تأتي للمرء مرّتين وأنا لم أكن أنتظرها لتأتي بل أسعى إليها حيثما كانت وأسلك أضيق الدروب لأظفر بها.
ثم ماذا بعد ذلك ؟!
لا شيء..
أطلق سراحها مسجّلاً أمام نفسي انتصاراتي واحداً إثر الآخر.
فكأن هذه الفرص ما كانت إلا رقصتي البهلوانية على حبال المغامرة، أو فنادقاً أقيم فيها لأيام، أو بلداناً أسوح في بديع جمالها.
نسيت أن أخبرك يا سيدي
أنني كثيراً ما كنت أقنص الفرصة، ثم أقدمها بكلّ طيب خاطر لذي حظّ عاثر أو مسكين فتّح عينيه على مقولة أن الفرص للفهلويّ الشاطر.
فهل حقّاً أدعى سارقاً، طالما لا غاية عندي سوى التحدّي .. ثمّ الجود بما عندي ؟؟!!
"5"
لصّ الأفكار
"و ماذا عن سرقة الأفكار أيها اللصّ الظريف".
يشعر اللصّ بأن إطلاق القاضي عليه هذا اللقب يشبه وسام الشرف و إقرار مبطّن بأنه لا يضعه في خانة من نهبوا قوت الشعب و تسلّقوا على حساب مال حرام.
فينظر له بما يشبه الامتنان و يتابع :
يا سيدي.. ياااااا سيدي
هل عندك صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي.
يضرب القاضي بمطرقته على الطاولة، ويعقد بين حاجبيه لتنبيه هذا الظريف أن يراعي حدود الاحترام.
فيتابع: لا تظن لا سمح الله أن قصدي التطاول على مقامكم العالي..
ولكني قصدت أنك لو دخلت هذه المواقع لأدهشك الكمّ الهائل من الأفكار العظيمة التي سريعاً ما تتحول لغبار تذروه الرياح.
و أنا كلّ ما أفعله ان أقوم بدور الدجاجة في النبش عن حبّة القمح بين التراب ثم نقلها لجهات تملك قوة و إرادة تنفيذها، أو كأنّي فراشة تحمل حبات الطلع على جناحها وكل حظّها رشفة رحيق.
يتحدّثون عن شيء يدعى براءة اختراع أو حقوق النشر. و أنا أقول لو حرص صاحبنا على قيمة أفكاره ما فرّط بها لكل من هبّ و دبّ، و المفرّط وفق قانونكم أولى بالخسارة.
رغم ذلك، و للأمانة أقول
ما سرقت فكرة إلا وضعت تحتها كلمة "منقول".
"6"
لصّ الانترنيت
يبدو أن ملفّ قضية اللص الظريف كان كبيرا،ً والاستماع لاعترافاته ثمّ البتّ بها، يحتاج لأكثر من جلسة.
لكنّ أحداً من الحضور لم يبد تذمراً وكذلك القاضي..
كانوا يستمعون له بمتعة كبيرة ويتساءلون ماذا عساه أن يكون قد سرق أيضاً.
لمعت عيناه بمكر محبّب ثم قال: أتدري يا سيدي، لولا سرقاتي لرأيت أغلب البيوت خربانة و الطلاق أرخص من الفجل أيام كان الفجل رخيصاً.
بدا الفضول على وجه القاضي لكنه اصطنع الوقار وترك المتهم البريء يكمل اعترافاته.
"لقد سرقت أغلب كلمات السرّ من فضائهم الأزرق، والذي كان سيصير "كحلي على نيلي" لولا تدخّلي.
كانت الزوجات يتربصن بأزواجهن لتمسكن عليهم ممسكاً يدلّ على خيانتهم لهنّ عبر محادثات الواتس او الماسنجر وما شابهها من وسائل الاتصال.
كذلك كان الأزواج في استنفار دائم للقط الزوجات بالجرم المشهود.
و أنا.. وأعوذ بالله من كلمة انا..
قبل أن يكتشف كلّ شريك ما "يهبّبه" شريكه.
أدخل و أمسح كلّ دليل إدانة.. تاركاً رسالة صغيرة :
"كن على حذر.. الكعب العالي ينتظر رأسك"
أو..
احذري.. هذه المرة حصل خير.. إن لم تكفّي .. مصيرك بكفّي.
قل لي بربّك يا سيدي، هل هذا ما يدعونه بالتهكير، وأنا كلّ هدفي الحفاظ على صغارهم من سوء المصير.
"7"
لصّ الممنوعات
قال القاضي للصّ :
يا ابني يبدو أنك متورط جداً و يزيد تورّطك أمران :
أولهما أنك ضبطت متلبساً بالجرم المشهود.
وثانيهما اعترافك بما اقترفت.. والاعتراف سيّد الأحكام.
هات أيضاً ما تبقى في جعبتك من سرقات.
أخرج اللص من جيبه علبة سجائر ومن الأخرى زجاجة كحول، ففغر القاضي فاه العجب و سأله : من أين لك هذا؟!
و كطفل ضبط يمارس ما منع عنه تحت تهديد العقوبات الصارمة أجاب :
- علبة السجائر من سجين لا أعرفه تركها على رفّ الحمّام و الزجاجة من سجين آخر خبّأها عن الرقابة حشو وسادته.
- ما قصتك معهما وما دوافعك
- هي يا سيدي عادة قديمة تربّيت عليها بأن أصدّق مقولة أنّ التدخين مضر بالصحة، خاصة و أن جهات مسؤولة كتبتها حتى على علب السجائر.
أما الكحول فقاتل صامت.
جارنا المدمن مات بسببه.،
وفتاة بريئة اغتصبت تحت وطأته.
وأطفال يعنّفون من أبيهم السكّير..
هل أعدّ لك أكثر أم أنت يا سيدي أخبر ؟!
و هكذا بتّ أتصرف بحسن نيّة و أسرق من الناس بخفّة سجائرهم ومشروباتهم الروحية.
بحقّ الله يا سيدي لم سمّوها روحية و أين الروح من ذهاب العقل والاتزان؟!
- هل تظنّ نفسك مخوّلاً بإصلاح الكون.. يا فتى؟!
ثم أن سرقتك لهم لن تمنع مدمن من معاودة شراء ما فقد.
- فلتكن إذاً عقوبة يستحقونها بهدر أموالهم لاستجلاب المرض.
و للعلم يا سيدي فإني لا أرمي مسروقاتي كما هي، فلعلّ جامع القمامة يرى بها رزقة أتته من السماء.
بل أفتّت السجائر وأسكب الزجاجات، فلا عين رأت ولا أذن سمعت، وأجري و ثوابي عند الله.
"8"
لصّ الأبواب
"سرقت أيضاً يا سيدي أبواباً ونوافذ وحتى حيطان.
لا تسئ الظن بي يا سيدي.. فالمفترض أنك صرت خبيراً بنواياي البيضاء الموشّاة بالزهر.
هذه القصة بالذّات تحتاج لخطّة عمل و دراسة تاريخية للمسروق.
مثلاً.. أنا لا أسرق لا سمح الله باب بنك أو نافذة بيت محترم أو جداراً يحمي فقيراً.
أنا اتخيّر زبائني بحكمة.
هناك باب موصد على فتاة تحلم أن تكمل تعليمها كأقرانها، و أهلها يرون أنّ خير مصير لها انتظار نصيبها لعل بغلاً يريحهم من علفها.
اقتلع الباب والنوافذ وأفتح أفقاً للمسكينة لتحلم ثم تقوى على الخروج.
وهناك سجين بريء خلف القضبان لم تجر حتى محاكمته، نخر الصبر والأمل عظامه لسنين منتظراً عدالة السماء، وما من عدالة سوى أن أستخدم شياطيني الرحيمة وأخرجه .
وهناك أطفال في العراء خرجوا من بيوتهم لأنّ الحرب بنت كلب.
أحمل إليهم الأبواب والنوافذ و الجدران التي سرقتها، فينسون لحين ما ضعضعته الحرب في نفوسهم.
هناك بخيل يحرم أطفاله حقّ الاكتفاء بسياسة التقتير و التوفير، و يحصّن نقوده خلف أبواب وأقفال.
ومحسوبك خبرة بفتحها أو كسرها أو حتى تفجيرها..."
أوقف القاضي اللص عن الاسهاب في حكايا الأبواب، وأسند رأسه على كفّه يفكّر بنبيّ مختلف عما نزلت به السماوات..
و هو يتخيل كم حكاية لا تزال في جيوب هذا اللصّ الجوّال.
"9"
لصّ النوم
تابع اللص إفادته غير الكاملة، لتعذر سرد سرقاته البسيطة هنا و هناك :
حتى النوم لم ينجُ مني، وسرقته من عيون لا تستحقّ أن يغمض لها جفن.
كشبح تسللت لغرفة نومه ثم أطلقت هناك براغيثاً أحضرتها خصيصاً كرمى لعينيه، في اللحظة التي كاد فيها أن يغفو غارقاً في نعيم الأحلام.
لم تجد كل وسائله في قتل جنودي، لا الصاعق الكهربائي و لا البخّاخ الفعّال ولا حتى الناموسية التي تزمّل بها لتحميه من الاقتحام.
تسألني يا سيدي لماذا هذا الانتقام بحرمانه المنام؟!
كم ربّ أسرة اقترض منه بالربا و أمضى الليل يضرب أخماساً بأسداس ليهتدي لطريقة يفي بها هذا المرابي ماله.
كم عامل عنده جفّ عرقه دون أن ينال حقّه منه فوصل ليله بالنهار .
وذاك الشاب العصاميّ الذي تقدّم لخطبة ابنته، كم ليلة أمضاها يساهر النجوم لأن مصيره بهذا الطاغية محكوم.
العدالة تقتضي يا سيدي القاضي كما أراها، أن أسرق نوم هذا النكرة و أهبه لمريض يتألم أو لعاشق أنحل السهاد جسمه أو لعجوز لا تعرف ليلاً من نهار.
صمت اللص الظريف ثم أجهش بالبكاء.
أيها القاضي، لقد سبقتك السماء بالحكم علي فاستمع لختام قصتي.
"10"
الخاتمة
"اقضِ ما أنت قاضٍ يا سيدي.. فحقّك أن تنصب موازين العدل كما تراها عين سيادتكم طالما أقسمتم ألا يبات إنسان مظلوماً"
غرق الحضور بالدهشة و بدا لهم اللص الظريف كذلك الموسيقيّ الذي عزف فأبكى ثم عزف فأضحك ثم عزف فأنام ثم عزف فأيقظ.
منذ لحظات كان يتقافز كبهلوان لا يأبه من يشهد رقصته أو ما مصير حياته.
و الآن يبدو منكسراً حزيناً يستعجل انفضاض الجلسة ليختلي بهمّه الكبير.
و تحوّل القاضي لأب رؤوف، وراح يسأل اللص الظريف ماذا كان يقصد بانتقام السماء.
تنهّد اللص حتى كأنّ السماء تصدّعت وخرجت آه شاهقة كأنها ركعة صلاة بين قيام و سجود.
"لقد سرقت قلبي
أنا اللصّ الذي يسرق الكحل من العين، تسرق قلبه امرأة
هل تذكر دليلة يا سيدي كيف قصّت شعر شمشون فصار بلا حيلة.
كذلك فعلت بي أخت الشمس والقمر.
انا الذي يوماً ما أبهت للنساء و لا خطر لي ان يصعقني الحب.
اقرأ في عينيك وعيون الحضور الدهشة وحقكم أن تدهشوا.. وتسألوا.. لم لا تتزوجها؟!
لأنها ببساطة متزوجة ومخلصة لزوجها حتى نقيّ العظم.
رأيتها يوماً تجلس على مقعد في الحديقة مع طفلها! فأحسست قلبي وقع وتدحرج صوبها.
اصطنعت سبباً لأسمع صوتها فتناثر قلبي المتدحرج شهباً ونجوماً.
صرت أتردد يومياً على الحديقة وبدأ الطفل يتعلق بي، وهي تكتفي بابتسامة حيية حين ترى طفلها يلهو معي سعيداً.
من يومها لم أعد ذلك اللصّ الظريف.
لقد استردّ الله مستحقّاته مني بأن تسرق قلبي امراة متزوجة مخلصة ثم تمضي كأنها لم تقترف ذنباً".
لا يهمّ ما كان حكم القاضي بعدها..
فحكم السماء كان أقسى بكثير
وما زال اللصّ ينتظر أن تسرق هذه السماء زوجها لعلّ احتمالاً ولو واحد من مليون يكون شقّ نور في جحيم أشواقه، رغم يقينه أنها ستقول :
الإخلاص أن نكون أوفياء حتى لمن رحلوا.
تمّت
- من مجموعتي القصصية .. هبوب الروح