فاتن فاروق عبد المنعم - زيارة للموتى

لا بد أنك مختل العقل، هل من المعقول بعد أن استرحنا من الحياة الدنيا تعود أنت إليها مرة أخرى؟!

لي حفيد يشبهني رغم أني الجد السابع، ولم يرني أحد ممن هناك، ولا يعرفونني، لكنني سعيد بهذا الحفيد، الذي يحمل اسمي "عز الدين".. أنا فخور به، يرتدي ملابس الفرنجة، ويحمل في يده كتبًا مثلهم، ويجيد قراءتها، ويقول: إنه ينتوي أن يصبح رائد فضاء، وما فهمته من هذا الذي يريده أنه يريد أن يصعد فوق القمر.

كان ينطق الجملة الأخيرة بشيء من الهيبة والفخر، عن حفيده الذي بلغ من الرقِّي مثلما كان الفرنجة، عندما احتلُّوا مصر في القرن الثامن عشر، بينما كان المصريون في فقر مدقع، ويعانون من ذلِّ وقهر المماليك ثم الفرنسيين الفرنجة، الذين حلُّوا على المصريين ليذيقوهم ويلات ذل آخر.

ها هو أمامي أراه ولا يراني، آنست في وجهه سمت الوجهاء، عمره عشرون سنة، ومازال دون زوجة، بينما أنا عندما كنت في مثل سنِّهِ، كانت لي زوجة وثلاثة أبناء.

الآن يجلس إلى مكتبه على عينيه نظارة لتحسِّن نظره، هكذا يسمُّونها، وأمامه كتب كبيرة مثل تلك التي كان يكتبها الورّاقون، ولكنها أجود حتى من كتب الفرنجة، وأمامه قطعة زجاج مثبَّتة على إطار من معدن، ومتصلة بلوحة مستطيلة سوداء عليها أزرار تشبه تلك التي يضعها الخياط على الملابس، يقوم بالضغط عليها فتظهر له الكلمات مكتوبة، أسمعه دائمًا يقول: إنه يذاكر أشياء كثيرة مختلفة لتنمية مهاراته لأنه ينوي السفر إلى ألمانيا، بعد أن ينهي دراسته بمصر، لا يوجد معاهد لتخريج روّاد فضاء في مصر؛ لذلك فهو يعقد النية على السفر لإشباع تطلعاته الشخصية.

ما أسعدني! آه لو كنتَ موجودًا في زمن المماليك والفرنسيين الفرنجة؛ إذن لأطلْتَ رقابنا جميعًا أثناء سيري، لاحظت شيئًا مهمًّا، المصريون وجوههم غريبة، غير مقبلين على الحياة، أو لعلهم لا يشعرون بهذه الحياة، ردود أفعالهم غريبة، وأحيانًا متوقفة، ساهمين، شاردين، واجمين، كأنهم فقدوا القدرة على الفعل، كنت أجوب الشوارع، فشعرت أني أسير بين أموات، وليس أشخاصًا مفعمين بالحياة، يناطحون السحاب ويتحدَّون ارتفاعه، رغم أنهم أرغد عيشًا منا، ورغم فناء المماليك، وجلاء الفرنسيين الفرنجة، فمازالوا بائسين، مثلما كنا، يتجرعون المرَّ والحنظل؛ فالصدور لم تتنفس الصعداء بعد.



عز الدين يجمع أقلامه الآن ليذهب إلى الامتحان، يخطو سريعًا، متعجلاً، يستقل حافلة كبيرة بها الركاب محشورون، تتماسُّ أجسادهم، ينفثون الإرهاق والزهق واليأس والإحباط، يطالعون من آن لآخر أساور في معاصمهم، يسمُّونها الساعات، كلٌّ له وجهته، يتدافعون في قسوة يبدو أن هذه هي جهنم، فأين الجنة إذن؟

أرى حفيدي يهرول يستقل معديَّة يعبر بها النيل، بدلاً من أن يركب حافلة أخرى تطيل الطريق وهو المتعجل.

يبدو الركاب بهيئات تشي بأنَّهم يعملون في مهن مختلفة، يتدافعون ليركبوا، كان عز الدين آخرَهم، يدير المراكبي دفّة المعدية ويتقدم في المياه قبل أن يركب عز الدين، الذي يقفز إلى المعدية فلا يتمكن، ويسقط في النيل، ويحاول الركاب استدعاء الحياة في نفوسهم لحيظات قصيرة، فيقولون للمراكبي: انتظر حتى يلحق بنا، فيقول لهم: لن أعطّل سبعين من أجل واحد، فيعودون إلى حالتهم الطبيعة من فقدان الإحساس بالحياة، ومضى قائد المعدية بقافلة الأموات بينما حفيدي يصارع من أجل البقاء، حجب الماء الهواء عن رئتيه، وكأن الماء رفق به من البقاء في عالم الموتى الذي كان يرغب في أن يغادرهم ليصبح رائد فضاء.

استسلم مذعنًا لضربات الماء الذي لا يجيد إزاحته، واستسلم جسده للرقاد، في قاع النيل ذي الفرعين، الذي كان في زماننا سبعة أفرع، مضت ثلاث ساعات حتى حضرت الشرطة واستخرجت جثَّته وسجلت له شهادة بانتقاله من عالم الأموات إلى عالم الأحياء.

تعليقات

جميل ..نص فيه فكرة .. في عقل الكاتب اراد توصيلها عبر هذه الانثيالات المترتبة للوصول للحدث الغامض ما بين القديم والحديث عز الدين شخصية مرتبطة بالماضي ولكن الحاضر ليس كالماضي وربط رقم سبعة كسنة وسبعة ظهور من الاجداد فيها سر يكمن في روح القاصة المبدعة (فاتن فاروق عبد المنعم)... وزيارة للموتى اشارة الى ان الاحياء هم الاموات والاموات هم الاحياء..
 
أعلى