أ. د. لطفي منصور - قَبَسٌ أَدَبِيٌّ مِنْ كِتابِ “تَنْبيهُ الْبَصائِرِ” لِابْنِ دِحْيَةَ الْكَلْبِي، بِتَحْقِيقِنا وَدِراسَتِنا:

مِنْ أَسْماءِ الْخَمْر الْحَلَبِيَّةُ، لِأَنَّها تُحْلَبُ مِنَ الْعُنْقُودِ. وَتُحْلَبُ مِنْ حَبَّةِ الْعِنَبِ إذا عُصِرَتْ بِالْيَدِ، وَدِيسَتْ بِالرِّجْلِ ، فَشَبَّهًُوا الْحَبَّةَ بِحَلَمَةِ الضِّرْعِ. قَالَ حَسّانُ في الْجاهِلِيَّةِ: مِنَ الْكامِلِ
إنَّ الَّتِي عاطَيْتَنِي فَرَدَدْتُها
قُتِلَتْ قُتِلْتَ فَهاتِها لَمْ تُقْتَلِ
كِلْتاهُما حَلْبُ الْعَصِيرِ فَعاطِنِي
بِزُجاجَةٍ أَرْخاهُما لِلْمِفْصَلِ
بِزُجاجَةٍ رَقَصَتْ بِما في قَعْرِها
رَقْصَ الْقَلُوصِ بِراكٍبٍ مُسْتَعْجِلِ
يَقُولُ: إنَّ الَّتِي عاطَيْتَنِي فَرَدَدْتُها، يُخاطِبُ غُلامَهُ وَيَلُومُهُ وَيُؤَكِّدُ أنَّ كَأْسَ الْخَمْرِ الَّتِي ناوَلَها لِسَيِّدِهِ قُتِلَتْ، أَيْ مُزِجَتْ بِالْماءِ فَخَفَّتْ سَوْرَتُها، وَلِغَضَبِهِ الشَّديد دَعا عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِكَأْسٍ أُخْرَى صِرْفًا غَيْرَ مَمْزُوجَةً.
وَقَدْ أَحْسَنَ الشّاعِرُ كُلَّ الْإحْسانِ في تَجْنيسِ اللَّفْظِ في التَّعْبِيرِ “ قُتِلَتْ قُتِلْتَ”.
وَلِهَذا الْبَيْتِ حِكايَةٌ طَرِيفَةٌ، رَواها الْعالِمُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ القاسمِ الْأنْبارِيُّ (ت ٣٢٨ هج) عَنْ أَبي ظُبْيان الْحِمّانِي قالَ:
اِجْتَمَعَ قَوْمٌ عَلَى شَرابٍ لَهُمْ، فَغَنّاهُمْ مُغَنِّيهِمْ: إنََ الَّتِي عاطَيْتَنِي .. البَيْتَ، فَقالَ أَحَدُهُمْ: ما مَعْنَى “إنَّ الََتِي” فَجَعَلَها واحِدَةً، ثُمَّ قالَ “كٍلْتاهُما حَلْبُ الْعَصِيرِ” فَجَعَلَها اثْنَتَيْنِ؟ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ جَوابٌ. فَقالَ: امْرَأَتُهُ طالِقٌ ثَلاثًا إنْ لَمْ أَسْأَلْ الْقاضِيَ عُبَيْدَ اللَّهِ بنَ الْحَسَنِ (ت ١٦٨ هج) فَمَضَوْا يَتَخَبَّطُونَ الْقَبائِل حَتَّى انْتَهَوْا إلَى الْقاضِيِ عُبَيْدِ اللَّهًِ بنِ الحسَنِ، فَوَجَدوهُ يُصَلِّي، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ قالوا لَهُ: قَدْ جِئْناكَ في أمْرٍ دَعَتْنا لَهْ الضَّرورَةُ، وَشَرَحُوا لَهُ خَبَرَهُمْ، وَسَأَلُوهُ الْجَوابَ فَقالَ:
“قَوْلُهُ: إنَّ الَّتِي عاطَيْتَنٍي، فَانَّهُ عَنَى الْخَمْرَ، وَأمّا قَوْلُهُ كِلْتاهُما حَلْبُ العَصِيرِ، فَعَنَى الْخَمْرَ وَالْماءَ الذي مُزِجَتْ بِهِ. فَالْخَمْرُ عَصيرُ الْعِنَبِ، وَالْماءُ عَصِيرُ السَّحابِ، قالَ اللَّهُ تَعالَى: (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجًا) إذا شِئْتُمْ بَقيتُمْ، وَإلّا فَانْصَرِفُوا”. فَغادَرَ الْقَوْمُ شاكِرينَ.
عاطِني أَيْ أَعْطِنِي ناوِلْنِي، الٍمِفْصَلُ اللِّسانُ هُنا، كَأَنَّهُ قالَ لَهُ: ناوِلْني كَأْسَ خَمْرٍ مُسْكِرٍ يُرْخِي اللِّسانَ، وَهَذا في الجاهليَّةِ قَبْلَ الْإسْلامِ كَما جَزَمْنا.
وَذَكَرَ الْحَريريُّ صاحِبُ الْمَقامات في كِتابِهِ “دُرَّةُ الْغَوّاص، ص ٤٤٠” إنّ الْقِياسَ أنْ يَقولَ الشّاعِرُ : أَشَدُّهُما رَخاءً، لِأَنَّ الْأَصْلَ في هذا الْفِعْلِ رَخَوَ، فَبَنَى مِنْهُ كَما قالُوا: ما أَحْوَجَهُ إلَى كَذا، والأصَحُّ أنْ نَقُولَ: ما أَشَدَّ حاجَتَهُ”.
قَوْلُهُ: بِزُجاجَةٍ رَقَصَتْ في قَعْرِها ..، يَعْنِي أَنَّ الْخَمْرَ لِشِدَّتِها تََتَأَرْجَحُ في الْكَأْسِ ، كَما يَتَأَرْجَحُ راكِبُ ناقَةٍ قَلُوصٍ ، أَيْ شابَّةٍ قَوِيَّةٍ يَهْتَزُّ عَلَى ظَهْرِها لِسُرْعَتِها، فَهُوَ مُسْتَعْجِلٌ وَقَدْ أَرْخَى لَها الزِّمامَ.
إلَى هُنا.



كِتابٌ تنبيه البصائر، تحقيق كاتِبِ هذه السُّطور، ص: ٤٠-٤١.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى