مصطفى نصر - جامع الشيخ

مر الشيخ أمام " ميدان القناصل "،(1) تابع العمال وهم يقطعون الأشجار، ويبعدونها عن وسط الميدان، وتساءل – بينه وبين نفسه - ماذا سيصنعون في هذا المكان؟!

كان العمال يحفرون، ورجل يضع غطاءً لرأسه يشبه الخوذة، يشرف على عملهم. وعندما وصل الشيخ للجامع، بدا شاردا معظم الوقت يفكر فيما يفعلونه في الميدان، وسأل رجلا مجاورا له عن ذلك، لكن لم يجد جوابا.
بعد فترة قصيرة، وهو سائر – كعادته - واجهه جسد فارس يعتلي حصانا ويكاد يقفز من عليائه، ودائرة واسعة حول الفارس وحصانه، ثم أربعة أسود سوداء عملاقة قابعة فوق الأرض مستعدة لالتهام من يقترب من المكان. إنهم يحرسون الفارس وحصانه.
سار الشيخ مهموما بما يرى حتى وصل إلى الجامع ثم اقترب من أحد الشيوخ الشبان المشهورين بالاطلاع والقراءة في كتب الدين، وسأله:
- أليست التماثيل محرمة في الإسلام؟
فصاح الشاب قائلا بلغة عربية وبصوت مرتفع ليسمعه كل من في المسجد: التماثيل حرام، لأنها قد تذكر المسلمين بالأوثان التي كانوا يعبدونها في الجاهلية، فيعودوا لعبادتها.
لم يجبه الشيخ بشيء. لكنه عقد العزم على مواجهة هذه التماثيل، والتخلص منها.
**
انبهر الخديو إسماعيل بما رآه أثناء زيارته لفرنسا من رقي وجمال الميادين التي تزدان بالتماثيل فأراد أن ينقل هذا الجمال الى مصر، فقرر إقامة العديد من التماثيل لتجميل ميادين مصر المحروسة. واتفق في ذلك مع المثال الفرنسي «الفريد جاكمار» - وهو أحد أشهر المثالين الفرنسيين الذين عاشوا في القرن التاسع عشر ( ١٨٢٤- ١٨٩٦) وتلقى تعليمه في مدرسة الفنون الجميلة في باريس –
وقرر الخديوي إسماعيل بالبدء في إقامة تمثال لجده محمد علي باشا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - ميدان المنشية الآن، أحد أقدم وأكبر ميادين المدينة، ويتوسطه حديقة الميدان التي يتوسطها تمثال برونزي ضخم لمؤسس مصر الحديثة محمد علي باشا. يقع الميدان في شارع نوبار باشا وشارع السبع بنات.
يوجد به مبان متعددة منها مبنى محكمة الإسكندرية الابتدائية (سراي الحقانية سابقا) التي تم انشاؤها العام1886. ويوجد أيضا قصر القنصلية الفرنسية بالإسكندرية.
ومن الأحداث التاريخية الشهيرة التي شهدها هذا الميدان، محاولة الإخوان المسلمين قتل جمال عبد الناصر في 26 أكتوبر1954، فيما يعرف تاريخيا بحادثة المنشية ثم خطابه الشهير بتأميم شركة قناة السويس في 26 يوليو 1956.
وفى ١٩ ديسمبر ١٨٧٢ كان الاحتفال الرسمى بإقامة تمثال محمد علي باشا وسط ميدان القناصل فتجمع كبار رجال الدولة، وعزفت الموسيقى العسكرية احتفالا بهذه المناسبة الجليلة. وأطلقت المدافع الطلقات. وتجمع الأهالي، خاصة من حي بحري القريب لمتابعة ما يحدث.
يومها، دار الشيخ حول المكان، ورأى كبار رجال الدولة يطوفون لمتابعة الفارس وحصانه من كل اتجاه.
يحكون إن البعض انبهر بمنظر التمثال، وظنوه فارسا حقيقيا سيهبط بعد قليل وسيجري بحصانه حول الميدان. كان الرجل الذي يمتطى الحصان مهيبا وبدا واثقا من قوته، أما الفرس فقد مثله المثال الفرنسي يخطو في ثقة وزهو، رافعا قدمه اليمنى عن الأرض، كما نجح الفنان في تمثيل شعر ورأس الفرس وذيله بواقعية شديدة، فيما صمم المعماري امبرواز بودرى قاعدة التمثال وعلى جانبيها كتفان صغيرتان من الرخام بينهما وحدة زخرفيه من المعدن على هيئة هلال ونجمة.
أما الأسود الأربعة، فقد كلف الخديو إسماعيل شريف باشا ناظر الداخلية بالاتصال بـ «جاكمار» عام ١٨٧١ لعمل أربعة تماثيل من البرونز على شكل أسود لوضعها بجانب تمثال محمد على باشا واقترح جاكمار أن تكون تلك التماثيل متوسطة الحجم وكلف لجنة من: المثال أوجين جليوم والمصور جان ليون لتتولى مهمة الإشراف على صناعة التماثيل، وخصص لهم مبلغ ١٩٨ ألف فرنك، وبالفعل تم تصنيع التماثيل من البرونز فى فرنسا ووصلت الإسكندرية.
**
سار الشيخ من ميدان القناصل حتى حي بحري، نام – كعادته – بعد صلاة العصر، واستيقظ قبل المغرب بقليل، توضأ وأسرع للجامع.
تذكر عندما استيقظ بأحداث طاردت نومه، الفرس الذي يرفع ساقه للأمام، مستعدا للوثوب، ثم الفارس ينزل عن حصانه، يتفقد المكان، ثم يقفز على المجتمعين في أسفل، يأمر الأسود الأربعة بأن تتحرك من مكانها، فتستجيب، وتجري خلف المشاهدين، لا لم تقترب من كبار الدولة، وإنما اختارت العامة، لحق كل أسد من الأربعة برجل، فتوقف وأخذ يأكله في أناة.
عدد المصلين في صلاة العصر عادة ما يكون قليلا، يزداد في صلاة المغرب والعشاء.
تحدث البعض عن الحدث الغريب، تمثال لفارس وحصان كأنه حقيقي، وأسود لا تستطيع الفصل بينها وبين الأسود الحقيقية.
قال الشيخ:
- ما رأيكم فيما فعله الخديوي إسماعيل؟
قال رجل مسن ببساطة شديدة:
- الرجل والحصان والأسود كأنهم حقيقة.
نظر الشيخ لآخر وسأله نفس السؤال. فأجاب:
- من حقه أن يكرم جده.
- لكن الدين الإسلامي يحرم الأوثان!
لم يجبه أحد. انشغل البعض بالصلاة، وأسرع البعض بالخروج من المسجد عائدين إلى بيوتهم.
لم يعد الشيخ إلى بيته، ظل وحده في الجامع، وازدحم المكان بالمصلين وقت صلاة المغرب، فقال الشيخ:
- شاهدتم احتفال إقامة التمثال وحصانه وأسوده؟
ابتسم البعض مستحسنا ما رأي، فقال الشيخ:
- لكن الأوثان محرمة في الإسلام.
قال شاب:
- هل سنعبدها؟
- محرمة رغم كل شيء.
لم يجبه أحد، البعض خرج من الجامع، وكان عادة ما ينتظر لصلاة العشاء.
أكمل الشيخ وكان مهموما:
- قاعدة التمثال دائرية، لتجبرنا على الطواف حولها كما نطوف حول الكعبة في الحج؟!
تمتم الكثير، وتصاعد الصوت، اختلطت بعض الكلمات ببعض. فأكمل الشيخ:
- أترضون أن نطوف حول رجل وحصان وأربعة أسود؟
صاحوا بصوت مرتفع:
- لا، لا.
ظل الشيخ في الجامع، صلى العشاء، وتحدث عن هذا كثيرا. سأله البعض:
- ماذا تريدنا أن نفعل؟
- نذهب للحديقة ونحطم الأسود الرابضة على الأرض.
قال رجل من بعيد:
- وكيف سنصل للرجل والحصان؟
- سنبدأ بالتماثيل القريبة.
**
سار الشيخ بعد صلاة ظهر الجمعة وخلفه الكثير جدا، مردين:
- لا، للتماثيل في الإسكندرية.
قبل أن يصلوا لميدان القناصل، كانت الشرطة قد أحاطت بالمكان لتحميه.
تقابل رجال الدولة مع الشيخ، سألوه عما يريد. قال:
- تزال كل التماثيل من مكانها.
قال كبير الشرطة:
- هذا لا يمكن تنفيذه.
وجود العدد الكبير من أهالي بحري أغرى الشيخ لأن يتحدى محدثه ويطلب ما يريد.
- لا فصال في حكم الله.
يقولون إن الخديو إسماعيل قد جاء بنفسه لتفقد الموقف. وقرر أن تتغير قاعدة التمثال، وتصبح مستطيلة حتى لا يضطر الناس والمركبات للطواف حولها، وأن ترفع الأسود الأربعة من مكانها، ولا يتبقى سوى تمثال جده محمد علي باشا وحصانه اللذان يطلان من عليائهما، ولا يستطيع أحد الوصول إليهما.
تم نقل الأسود الأربعة إلى القاهرة، اثنان منهما في أول كوبري قصر النيل، والآخران في نهاية الكوبري.
وصمت الشيخ مضطرا، خاصة عندما أصدر الشيخ محمد عبده فتواه الشهيرة بعدم تحريم التماثيل طالما كانت لتكريم أشخاص وليس لعبادتهم.
**
سار الشيخ أمام تمثال محمد علي باشا مزهوا بنفسه، فقد استطاع أن يجبر الخديو إسماعيل لأن يتراجع في قراره، ويغير شكل قاعدة تمثال جده، كما أجبره أن يبعد أسوده ويرسلهم للقاهرة، بعيدا عن أهالي حي بحري.
وذاع صيت "الشيخ" – فعرفه كل سكان الإسكندرية، وسعوا لمقابلته والتقرب إليه، وعرف باسم "الشيخ" – فأي سكندري معاصر له، ما أن يذكر كلمة " الشيخ" أمامه، حتى يعرف إن مستمعيه يقصدونه هو، فاتسعت تجارته وسعى إليه تجار مصر كلها، فازدادت متاجره. وقد أمر بذبح عدد من الخرفان ابتهاجا بانتصاره، وتابع الذبح وهو جالس أمام أكبر متاجره، فلاحظ أن كل الجزارين الذين جاءوا للذبح من اليهود. فشرد بعض الوقت، وفكر في حال الإسكندرية، اليهود والنصارى هم الذين يقومون بعملية الذبح، وعندما تحدث في هذا مع أكبر مساعديه، قال له:
- معظم الجزارين في مصر من اليهود، وقليل من النصارى.
فعاد بجسده النحيل إلى الخلف قائلا:
- وهل هذا يليق؟!
نجاحه في مسألة قاعدة تمثال محمد علي باشا وأسوده الأربعه، أعطته ثقة في نفسه. وأخذ يعد نفسه حتى جاء يوم الجمعة، فصعد على المنبر، وصاح منددا بذبح غير المسلمين، وأعلن قولته، بإن تناول اللحوم التي يذبحها غير المسلمين، حرام أكلها.
سعت قولته هذه في حي بحري، قريبا من الجامع الذي كان يخطب فيه، ووصلت لكل أحياء الإسكندرية، فعيد الأضحى على الأبواب، وستحدث أزمة، فقد كان اليهود يطوفون الحواري والشوارع والأزقة، معلنين عن رغبتهم في عملية الذبح، الآن أصبح عملهم محرما.
اليهود ينتظرون هذه الأيام بفارغ الصبر، فأجرة الذبح كبيرة، غير اللحم وجلود الخرفان والجواميس والبقر التي يحصلون عليها مقابل الذبح.
تم اجتماع اليهود في حارة اليهود القريبة، أكثرهم يعرفون عملية الذبح والسلخ، ويعيشون من أجرتها، لكن هذا الشيخ أفسد عليهم حياتهم. قرروا أن يسافر بعضهم إلى القاهرة، وإبلاغ الأمر لكبار المسئولين.
ووصل الخبر للخديو إسماعيل، عرف أن مثير الشغب في هذا الأمر هو الرجل الذي تحداه من قبل، وكان سببا في تغيير وضع قاعدة تمثال جده، وإبعاد أسوده عن الإسكندرية، فأمر الخديوي بالقبض عليه والتنكيل به، قال لشريف باشا – ناظر نظاره:
- لو سكتنا عليه، فقد يطالب بإقالتي والمطالبة بأن يكون هو حاكم البلاد.
وبدأت الشرطة في البحث عن الشيخ الذي هرب وتخفى في ملابس العربان، توطئة لنقله إلى ليبيا، فهم يعرفونه هناك، وما فعله مع الخديو إسماعيل وصل إليهم ويجلونه من أجله.
وصدرت الفتاوي في كل مكان بمصر، ترفض فتواه، وتؤكد أن ليس في الدين الإسلامي ما يحرم قيام اليهود والنصارى بالذبح.
ظل الشيخ محتجبا عن الشرطة التي تبحث عنه لسنوات عدة، واستطاع أن يرسل " المراسيل " للخديوي معتذرا، ومعلنا توبته، وأعلن بأنه أخطأ في فتواه وتراجع عنها، فسامحه الخديوي. وسمح له بالعودة للبلاد – وعاود الخطبة في الجامع. ثم بنى جامعا كبيرا في حي بحري، وقرر أن ينشئ مدرسة لتعليم القرآن وعلومه، وأن ينفق على طلابها كما ينفق الأزهر في القاهرة على طلابه. ومازال أهل بحري للآن، ما يسمعون كلمة "شيخ" حتى يتذكرون شيخهم، وجامعه الكبير، ومدرسته التي مازالت تقدم العلوم لطلابها، وبنت أسرة الشيخ من بعده، العديد من المساجد في أحياء الإسكندرية الكثيرة، يحمل كل منها اسم "جامع الشيخ".



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى