أ. د. لطفي منصور - اسْتِراحَةٌ مَعَ حِكايَةٍ جَميلَةٍ في خَبَرِ عاشِقَيْنِ:

وَقَعَتِ الْقِصَّةُ في أَيَّامِ هارونَ الرَّشِيدِ وَمَعَهُ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ حِكاياتِ أَلْفِ لَيْلَةٍ وَلَيْلَةٍ. ضَحِكَ الدَّهْرُ الْعابِسُ لِلنّاسِ في خَلافَةِ هارونَ الرَّشِيد، وَعاشُوا في رَخاءٍ وَأَمْنٍ وَسَكينَةٍ، وَكَثُرَ الْأُدَباءُ والشُّعَراءُ وَالْعُلَماءُ، والْمُتَرْجِمونَ بَعْدَ تَأْسيسِ بَيْتِ الْحِكْمَةِ في بَغْدادَ قَلْعَةِ الْعِلْمِ.
يُحْكَى أَنَّ هارونَ الرَّشِيدَ دَعا غِلْمانًا وَجَوارِيَ مِنَ الْفِتْيانِ والْفَتَيات، مِمَّنْ راقَ مَنْظَرُهُمْ، وَأَخَذُوا مِنَ الْحُسْنِ وافِرَهُ، فانْتَقَى أَرْبَعِينَ غُلامًا جُرْدًا مُرْدًا كَأَنَّهُمْ الْأَقمارُ، وَجَعَلَهُمْ عَنْ يَمِينِهِ. ثُمَّ انْتَقَى أَرْبَعينَ جارِيَةً عُرُبًا أبْكارا، وَأوْقَفَهُنَّ عَنْ شِمالِهِ، وَخَطَبَ فيهِمْ جَميعًا عَنْ أُصولِ الْخِدْمَةِ في الْقُصُورِ الْمَلَكِيَّةِ، وكانَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الْخَدَمِ والْخادِمات مَقْصُورَةٌ خاصَّةٌ بِهِ يَسْكُنُها.
وَحَدَثَ أنْ عَشِقَ مَمْلوكْ جارِيَةً مِنَ الجَوارِي، فَكَتَبَ لَها وَرَقَةً يَقولُ: مِنَ الْكامِلِ
إنِّي رَأَيْتُكِ في الْمَنامِ ضَجيعَتِي
أَحْسَى بِكَفِّكِ مِنْ زُلالٍ بارِدِ
فَلَمَا انْصَرَفُوا ناوَلَها إلَيْها في الطَّريقِ، فَقَرَأَتْها وَكَتَبَتْ جَوابَها تَقُولُ: مِنَ الْكامِلِ
خَيْرًا رَأَيْتَ وَكُلُّ ما أَمَّلْتَهُ
سَتَنالُهُ مِنِّي بِرَغْمِ الْحاسِدِ
وَناوَلَتْهُ الْوَرَقَةَ وَتَمَّ الْأَمْرُ بِاجْتِماعِهِما في الْمَقْصورَةِ .
فَلَمّا وَقَفُوا حَسْبَ النِّظامِ كُلٌّ في مَوْقِعِهِ في خِدْمَةِ أَميرِ الْمُؤمِنين، نَظَرَ الخَليفَةُ أنَّهُ قَدْ نَقَصَ غُلامٌ مِنَ الْيَمِينِ وَجارِيَةٌ مِنَ الشِّمالِ، فَاغْتاظَ غَيْظًا عَظِيمًا، وَطَلَبَ مَسْرُورًا الْخادِمَ جَلّادَ أَميرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقالَ لَهُ: يا مَسْرورُ اِمْضِ وَأْتِنِي بِرَأْسَيْ الْغُلامِ وَالٍجارِيَةِ.
فَلَمّا جاءَهُما مَسْرورٌ وَجَدَهُما مُتَعانِقَيْنِ ، وَهُما كَالْقَمَرَيْنِ لَمْ تَسْمَحْ لَهُ نَفْسُهُ أنْ يُزْعِجَهُما، وَبَقِيَ مَبْهُوتًا يَنْظُرُ إلَيْهِما، وَرَأى فَوْقَ رَأْسَيْهِما وَرَقَةً كُتٍبَ بِها الْبَيْتانِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّما، فَكَتَبَ تَحْتَهُما بَيٍتًا ثالِثًا: مِنَ الْكامِلِ
مُتَعانِقَيْنِ عَلَيْهِما حُلَلِ الرِّضا
مُتَوَسِّدَيْنِ بِمِعْصَمٍ وَبِساعِدِ
وَأَبْطَأَ مَسْرُورٌ عَلَى الخَلِيفَةِ خَبَرُهُ، فَطَلَبَ خادِمًا آخَرَ وَقالَ لَهُ: اِمْضِ فَأْتِنِي بِرُؤُوسِهِمِ الثَّلاثَةِ مَسْرورِ والْغُلامِ وَالْجارِيَّةِ.
فَمَضَى الْعَبْدُ الثّانِي فَلَمّا وَصَلَ إلَيْهِمْ رَآهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحالَةِ مُتَعانِقَيْنِ ، وَهُما مِثْلُ الشَّمْسِ والْقَمَرِ، وَرَأَى الْوَرَقَةَ عِنْدَ رَأْسَيْهِما مَطْروحَةً، وَمَسْرورٌ باهِتٌ لَهُمْ، فَأَخَذَ الْعَبْدُ الْآخَرُ الْوَرَقَةَ وَكَتَبَ بَيْتًا رابِعًا يَقُولُ: الْكامِل
وَاللَّهِ ما رَأَتِ الْعُيُونُ بِأَسْرِها
كَالْعاشِقَيْنِ عَلَى فِراشٍ واحِدِ
فَلَمّا أَبْطَأَ الْخادِمُ الثّاني عَلَى الْخَليفَةِ نَهَضَ وَقالَ: هذا أَمْرٌ لا يَكْشِفُهُ غَيْرِي. ثُمََ أَخَذَ سَيْفًا بِيَدِهِ وَقالَ: أنا لَها. فَلَمّا وَصَلَ إلَيْهِمْ رَآهُمْ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ ، وَالْخادِمانِ باهِتانِ لَهُما (باهِتانِ هُنا مِنْ بَهَتَ بِمَعْنَى نَظَرَ، وَهِيَ عِنْدَنا في الدّارِجَةِ)
رَأَى الْخَليفَةُ الْوَرَقَةَ فَأَخَذَها وَقَرَأَها، فَرَقَّ قَلْبُهُ لَهُما فَكَتَبَ بَيْتًا خامِسًا: مِنَ الْكامِل
فَلَئِنْ تَوافَقَتِ النُّفُوسُ عَلَى الْهَوَى
فَالنّاسُ تَضْرِبُ في حَديدٍ بارِدِ
(المعنَى أنَّ الْحُبَّ أَقْوَى مِنْ كُلِّ مانِعٍ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ النُّفوسِ ، وَمَنْ يُعارِضُهُ كَمَنْ يَضْرِبُ في حَديدٍ بارِدِ، أَيْ جُهْدُهُ يَذْهَبُ سُدًى)
ثُمَّ إنَّ الْخَليفَةَ أَخذَ الْخادِمَيْنِ مَعَهُ، وَتَرَكَ الْغلامَ وَالْجارِيَةَ نائِمَيْنِ ، وَدَعا بٍالْقاضي والشُّهودِ، وَكَتَبَ كِتابَ الْأَرْبَعِينَ مَمْلوكًا عَلَى الْأرْبَعينَ الجَواري، وَأقامَ الْأَفْراحَ في بَغْدادَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ، وَعَمَّ الْفَرَحُ وَالسُّرورُ كُلَّ بِيْتٍ في بَغْدادَ الْمَحْروسَةِ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى