حسين نيازي - فرخة

كانت ساحة السجن التي تتوسط عنابره الرمادية لا تزال غارقةً في ضباب الفجر. فتح رئيس الحرس نافذة حجرته على مصراعيها ووقف يستقبل الهواء البارد بجسده العاري. بدا المشهد أمام عينيه التي لم تتخلصا بعد من أسر النوم أشبه بحقلٍ يحاول التنفس بعد حريقٍ مدمر. أوقد النار تحت براد الشاي الضخم ثم أشعل سيجارة وأخذ ينفث دخانها في بطء متفكراً في ما حدث بالأمس. مسح التفكير بلادة النوم من على ملامحه وأحل محلها يقظة حانقة. بالأمس تجرأ واحدٌ من السجناء الجدد على تحديه. كان من عاداته أن يمنح كل قادمٍ جديدٍ إلى عالمه إسماً من اختياره هو. فباكتسابِ إسمٍ جديد يعكس بلا لبسٍ ضآلة الشأن، يدرك الوغدُ من هؤلاء أن ذاته التي طالما عرفها وأُعجب بها قد ذابت للأبد كما تذوب بصقةٌ في ماءٍ آسن. لكن حقيرَ الأمس لم يُدرك أنه قد وُلد من جديدٍ في عالم تحكمه نواميسٌ أخرى. توهم أن بإمكانه أن يكون رجلاً في هذا العالم لمجرد أن أمه لم تلده أنثى في حياته السابقة. ما أكثر ما يعول الأغبياء على ما اعتادوه من صُدف. أما هو فقد أدرك بخبرته الطويلة وراء الأسوار أن هذا السجين الفرِح بضخامة جسده سيكون بحاجةٍ لمن يساعده على التخلص من عاداته القبيحة. بمجرد أن وقعت عيناه عليه وهو يغادر سيارة الترحيلات لمح في عينيه لمعةً ساخرة، وحدث ما راهن نفسه عليه. رفض السجين أن يُذعن عندما أمره أن يكرر على مسامع السجناء الآخرين والحرس الواقفين الإسم الذي منحه إياه. ولأنه لم يكن من عادته أبداً أن يكرر الأمر مرتين فقد أشار لأحد الحراس بنزع الأغلال عن يدي وقدمي العربيد المتمرد حتى يوقن الجميع أنه ليس بحاجة للقيود الحديدية لكي يفرض إرادته، ثم قام بخلع الحزام الذي يتعلق به مسدسه وناوله لحارسٍ آخر تحسباً لأي مفاجأة مستبعدة. لم يكُن غرضه من نزع قيود السجين أن يمنحه فرصة خوض قتال متكافيْ، بل لكي يستطيع الأخير أن يركض أمامه. لا يكتمل الدرس إلا عندما يرى الأوباشُ واحداً منهم يحاول الفرار من الجحيم كما تحاول عذراء الفرار من محاصرة رجلٍ حسم أمره. وقبل أن يدرك السجين ما هو مُقدم عليه كان قد صب عليه حِممَ غضبه كما يصب الشاي المغلي في كوبه هذا. تناول رشفة طويلة من الشاي الساخن وأشعل سيجارة ثانية ولم يستطع مغالبة الابتسام عندما تذكر كيف أطلق أحد الحراس صرخة مكتومة عندما أصابته ركلةُ طائشة من حذائه الثقيل. لكن ابتسامته سرعان ما زالت. فقد السجين وعيه قبل أن ينطق الإسم الذي اختاره له. اللعين! بصق دماً وأسناناً وزحف على ركبتيه وبطنه واستلقى على ظهره وبال في سرواله، لكنه لم يردد الإسم الذي آمره به. سنرى. كان قد أمر حارسين بسحب السجين المغمى عليه من قدميه إلى زنزانة انفرادية ليقضي بها أول لياليه. وكان واثقاً أنه بمجرد أن يُفتح باب الزنزانة سيخرج منها شخص جديد. أتظن يا بن العاهرة أنك من أول من آتى إلى هنا. وعندما انتهى من شايه كان الضباب قد انقشع وبدأت الشمس في نشر أشعتها البطيئة على ساحة السجن أمامه. وضع رأسه تحت صنبور الماء البارد وارتدى ثيابه وغادر حجرته نحو الزنازين الانفرادية. ألقى عليه الحارس تحية الصباح فردها كعادته بإيماءة صامتة من رأسه ثم سأله بصوتٍ قصد أن يكون مسموعاً "أين من بال في سرواله؟". اتجه الحارس نحو زنزانة فتبعه. بمجرد أن انفتح الباب رأى السجين يتراجع نحو الجدار ويلتصق به كفأر. كانت عيناه قد دُفنتا تحت ورم أزرق فلم يستطع تبين نيته. خطا خطوتين داخل الزنزانة وأشار للسجين أن يتقدم نحوه. سار السجين نحوه ببطء خافضاً رأسه. "ما اسمك؟" سأله بنبرة محايدة. "فرخة". أتته إجابة الرجل الواهنة من فم متخثر بالدماء. نظر له ملياً قبل أن يقول بنبرة جادة:" سأتوقع منك يا فرخة كل يوم بيضة". لم ينتظر إجابة الرجل وخطا خارج الزنزانة ليأمر الحارس بضم السجين للقطيع. لقد انتهى الأمر كما توقع تماماً. "ماذا عن الآخر يا ريس؟". نظر للحارس مستفهماً ففسر الأخير: " ذاك الذي كان يبكي". اللعنة! لقد نسيه تماماً. سجينٌ بدينٌ قصير كالكرة لم يتوقف عن البكاء منذ أن وطأت قدماه أرض السجن فأمر به فوراً أن يودع في زنزانة انفرادية لكي لا يشوش بكاءه على تركيزه في التعامل مع المتمرد. "دعنا نراه". فتح له الحارس زنزانة البدين فوجده مستلقياً على بطنه بلا حراك ووجهه لصق الحائط بينما اختفت يمناه تحت جسده. ذكرته مؤخرة السجين الممتلئة بعجيزة امرأة أبيه التي طالما أراحت صباه. ركله فيها صائحاً:" إنهضي يا عاهرة"، لكن الرجل لم يتحرك. أيكون خوفه قد قتله؟ انحنى عليه وجذبه من رأسه ليوقظه ففتح البدين عينيه المغمضتين فجأة. قبل أن ينبس رئيس الحرس كان البدين قد رفع يمناه قليلاً وحركها بما بدا لرئيس الحرس للحظة كأنه يرسم بها خطاً وهمياً في الفراغ. لكنه فجأة قام منتفضاً كأن عقرباً لدغه. جحظت عيناه وشعر ببرودة غريبة تغزو أوصاله. تراجع ملتصقاً بالجدار وحاول أن ينظر نحو الحارس لكن الألم لم يمكنه من تحريك رأسه. لمس بيديه المرتعشين عنقه فشعر بالدم الساخن يتدفق عليهما فرفعهما أمام عينيه الزائغتين غير مصدق. حاول الحارس أن يسنده لكنه دفعه بعيداً عنه بآخر ما تبقى له من قوة واندفع خارج الزنزانة يتخبط. تناهى لمسامعه صوت بكاء البدين الهيستيري بينما أخذت ذراعاه ترتفعان عالياً في الهواء كأنه يحاول التحليق. آخر ما وقعت عليه عيناه كان السجين الذي تمرد بالأمس والذي كان واقفاً أمام باب زنزاته المفتوح ينظر بذهول. وتم تعميم منشور على إدارات السجون بمنع استخدام الأكواب المصنوعة من الصفيح في الزنازين، حتى لا ينزع السجناء مقابضها ويصنعون منها أنصالاً حادة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى