محمد عمار شعابنية - "الفرحزن" أو ثنائية الفرح والحزن في شعر سالم الشعباني ( من خلال المجموعة الشعرية " فرِح أم حزين ّ)

في علاقته الأولى بالنشر أصدر الشاعر سالم الشعباني في سنّيْ الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين من عمره مجموعتيْن شعريّتيْن سنتًيْ 1976 و1977حملت الأولى عنوان " أحزان" ومُهرت الثانية بـ " أغنيات منجمية .. كان يُمكن أن تكون الأولى " أحزان منجمية " لأنها تنطوي على قصائد لا تخرج عن هذا السياق ولكن الملحوظ في الكتابين هو أن الحزن والغناء قد اشتركا في نسج خيوط أغلب القصائد التي كتبها الشاعر في شبابه أي أثناء الفترة الزمنية التي أسّسنا فيها اتجاه الشعر المنجمي في ستينيات القرن الماضي انطلاقا من الشاعرين المرحومين أحمد المختار الهادي ومحمد الطاهر سودة باعتبارها أسبق منّا ولادة بعدة سنوات ووصولا إلينا ( سالم وأنا) .. وهذا ما يجعلنا نصرح بأن باعثي حركة الشعر المنجمي والمخلصين للكتابة فيها هم هؤلاء المذكورين وإن ْ التحق بهم تعاطفا أو تأثرا شعراء آخرون منهم عامر بوترعة وأحمد عامر رحمهما الله ..وبعدهما حسن بن عبد الله وصولا إلى شكري مسعي وهذا الالتحاق يُثبت أننا لم ننطلق في ما كتبنا من فراغ بل نهلنا من معين صادق ومُسهم في فضح السلوكيات السيئة المسلطة على المنجميين ومتحسس مواجعهم ومعاناتهم المهنية الشرسة .
إلا أننا ونحن واقفون على منصّة واحدة ولم نكن على خلاف و لم نخف اختلافاتنا في التوجهات والأساليب والتناولات ليتفرد كل واحد منا بقناعاته التعبيرية وفي ذلك إثراء للتجربة ووقاية لها من التناسخ الشعري المطابق للأصل .
ولعل انشغال الشاعر سالم الشعباني في قصائده بالشفافية التصويرية وتبسيط التعبير الشعري ليتسنى فهم خطاباته من طرف المنجمين ينخرط في قناعاته بأن الشعر في جميع توجهاته وأحاسيسه يجب أن يكون واضحا وضوح الصدق .. وقد تناولت الأستاذة مروى بن علي في رسالة جامعية حول الشعر المنجمي تحصلت بواسطتها على شهادة التبريز سنة 2013 بالمدرسة العليا للمعلمين بإشراف الدكتور محمد صالح بن عمرأعماله فعلقت على تجربة بقولها :
(و جنح سالم الشّعباني إلى مأنوس اللّفظ و الشّائع المفهوم من الكلام حرصا على التّواصل مع العمّال الذّين تفشّت في صفوفهم الأميّة . يقول في قصيدته "لغة العمّال "
لن نكتبَ شعرا للعمّالِ
عويصَ الفهمْ
فالشّعرُ اليومْ
لا يحتاجُ إلى قاموسْ
و رجالِ الدّاموسْ
قرؤوا
فهموا
حفظوا ديواني
إنّ هذا المقطع بمنزلة الميثاق الشّعري الذّي ألزم الشّاعر به نفسه انطلاقا من قناعة محصّلها أنّ الشّاعر المنجميّ ينبغي أن يكتب في المقام الأوّل للعامل المنجميّ. و إلاّ لما كان لهذا الشّعر أيّ مبرّر للوجود.
و لم يتوقّف هذا الحرص عند الرّغبة و النيّة و التّنظير. بل تجاوزها إلى التّطبيق. فالمتأمّل في قصائد سالم الشّعباني يجد معظمها إن لم نقل كلّها مكتوبة بلغة يفهمها المتلقّون، قريبة من مستوياتهم التّعليمية والذّهنية ، كلماتها عربيّة فصيحة لا محالة لكنّ ألفاظها من المعجم المشترك بين الفصحى و الدّارجة.)
فهل أخلص سالم لهذا الميثاق في مجموعته الشعرية الثالثة ّ فرِح أو حزين " التي نشرها سنة 2015 بعد وقفة زمنية ليست للتأمل بل لانشغالات مهنية دقيقة وعسيرة ومتعبة تحملها بصبره بعدما أخفق غيره في القيام بها على الوجه المطلوب بشركة فسفاط قفصة ولم تترك له الأوقات الملائمة لكتابة الشعر إلا في مناسبات نادرة ومتباعدة ؟
يأتي الجواب بنعم مع حرص الشاعر على توسيع رؤيته الشعرية فنيا وفكريا ليرتقي بالعبارة فيها إلى مستوى الصورة المضيئة والخيال الخصب وليبرهن للقراء على أنه قادر على أن يؤسس لبساطة البث خطابا بتسم بجزالة اللغة وجمالية البناء بقصائد اتسمت بثنائية الفرح والحزن .. إلا أن القارئ العادي لا يستطيع إن يهتدي إلى ذلك وهو يتفسح بفكره بين واحدة وعشرين قصيدة موزعة على أغراض متعددة عشر نصوص عمودية وأحد عشر نصا مرسلا (حر) خصوصا إذا كانت هناك شهادات من كتاب وفلاسفة وشعراء تنفي وجود الفرح في عالم يسيطر عليه الحزن كما يؤكد ذلك أبو القاسم الشابي في إحدى قصائده:
تَرجو السَّعادَةَ يا قلبي ولو وُجِدَتْ
في الكونِ لم يشتعلْ حُزنٌ ولا أَلَمُ
ولا استحالتْ حياةُ النَّاسِ أجمعُها
وزُلزلتْ هاتِهِ الأَكــــوانُ والنُّظمُ
فما السَّعادة في الدُّنيا سِــوَى حُلُمٍ
ناءٍ تُضَحِّي له أَيَّامَهـــــــا الأُمَــمُ
أو تعلن عن استحالة الإبداع عند الفرح كما صرّح بذلك شكسبير حين قال:
" لا يبدع الفيلسوف ولا الشاعر ولا الأديب بالفرح ولا بالاحتفاء بالوجود. إنهم يبدعون بمسحة الحزن تصبغ وجدانهم لدى شعورهم بالفقدان."
لذلك وجب تدخلي بقراءة أفكّ فيها شفرات عنوان المجموعة لأؤكد على أن ثنائية الحزن والفرح في شعر سالم الشعباني لم تؤثر على إبداعه بل هي متصلة بذاته ومشاعره أثناء ممارسة فعل الكتابة وهو المقتنع بأن الشعر العربي منذ جاهليه إلى الآن يصعب أن ينسج خيوط عُلوّه بانتشار الفرح فيه، لأن الفرح لا ينتج شعرا عظيما ، ولا يمكن لشاعر عضوي منخرط في قضايا مواطنيه أولا ومتأثر بهموم الإنسانية ثانيا أن ينحدر بحروفه إلى أنانية الشعور بأنه يحيَى السعادة إلا إذا كان أبا جهالة حسب تعبير المتنبي " وأبو الجهالة في الجهالة ينعم "
إذن عن أي فرح وحرن سنتحدث ؟
فلماذا يطرح سالم على نفسه سؤاله " فرِح أم حزين " ، إذا كان الشاعر لا يتلمس ولا يتحسس الفرح في شعره لأن مواصلة الكتابة عنده تعني أنه قلِق ومنفعل ومنشغل بما يحيط به .. وهذه الحالات لا تؤسس لغير الحزن ؟
والحزن ملموس ومحسوس في مواقع كثيرة من قصائد المجموعة التي سنعرض بعض أبياتها أو أسطرها بينما سنبرهن على أن الفرح بوْح رمزي يبرز من خلال شعور صاحبه بالإرتياح إزاء بعض الأفعال أو المواقف التي أنجزها أو اكتسبها عن جدارة :
في قصيدة اقتباس نقرأ ما يلي :
وليس عندك إلا فيض مكرمة
كأن جيبك قد وقّفته حُـبُســــــا
وليس عندي إلا ما ألـوذ بـــــــه
لو ضاقت الأرض بي أو خاطري هوسا
لفظ أراوده مـا أن يطـاوعنــــي
يجري القصيد عليلا هيّنـا سلِســـا
هو اعتراف بشيء من الاطمئنان، والاطمئنان حالة من حالات الفرح التي تتلبّس الإنسان لتشعره بالهدوء والرضا على النفس دون أنْ تنسيَه التفكير في الآخرين.
ويتجلى نفس الإحساس عند ما يلتفت الشاعر إلى ابنه فيراه يمشي بخطى ثابتة في مسار حياته.. ففي قصيدة « حسان " يخاطب الوالد ولده بوثوق :
سترقى وترقى درجة بعد درجـة
وترقى وترقى سلّما ثمّ سُلّمـــــا
ونمضى إلى العليـاء حتى تنال ما
تروم وتلقى في المجـرات أنجما
فعلا ارتقى حسان وتخرّج مهندسا منذ سنتين لذلك تجلى هناء الأب في ما يلي :
فرحت كثيرا فرحة ليس مثلها
ولا بتّ مشغولا ولا متأزمــــا
ولا بتّ مهموما ولا بتّ ساهرا
ولا بتّ في غم ولا متألمــــــا
فقط ، يظهر الفرح في ما سقناه بصريح العبارة لأن الموقف يرتبط بانبهار أب بابنه ولا يمكن في حالة كهذه أن يكتم فرحه .
وفي قصيدة " إليسا الساحرة " يتضاعف الانبهار وكل انبهار لا يلامسه الحزن ما دام في حدود الممكن والمعقول .. ويخاطب الشاعر إليسا بذكر مفاتنها الساحرة مستعملا حرف النداء" يا" تسعا وثلاثين مرة في كل العبارات التي يذكر فيها جوانب من روعتها وجمالها في القصيدة التي تتكوّن من مائة وثلاثة أبيات من الشعر المرسل، ومنها في الصفحة الأولى من القصيدة:
ـ يا أحلى من كل الأسماءْ
ـ يا هيفاءْ
ـ يا ذات القدّ الناعم والشعر الليموني .
ـ يا أحلى امرأة في لبنانْ
ـ يا أحلى من حبّة توت
ـ يا سر ّالجوهر والياقوت
ـ يا ذهبا ، هل برجك برج الحوت
ـ ـ يا نبع حنان
وإذ يتفطن الشاعر إلى أنه لم يأخذ من الفرح نصيبا كافيا ولم يبرأ من الحزن الذي أحاط به فيأتي" فرِح أم حزين " وهو عنوان الكتاب وإحدى قصائده ليبحر في نصه الذي يفتتحه بالسؤال العنوان:
أأنا فرِحُ
أم يُخيّل لي أنني فرِحُ
والذين يحيطون بي فرِحون ؟
أم ترى كان حُلما جميلا
ولمّا أفقت وجدت الذين يحيطون بي
جثثا لا يعون ولا يفقهون
ذلك أن الأمانات لم تعد محفوظة والخيانات متواترة إلى درجة أن الإنسان لم يعد قادرا على الوثوق حتى في أقرب أقربائه ما دامت القيَم معروضة للبيع والشراء :
صاحبي منذ عاميْن كسّر لي معْولي
وأزاح إلهي الذي كان منتصبا
شامخا في شوارع برلينْ
أأنا فرِح وحزينْ
والذي اغتالني صاحب قال لي لن أخون .
تمت كتابة هذه القصيدة منذ سنوات طويلة وها أن ما ذكره فيها الشاعر يتكرر من خلال السياحات وتغيير المواقع السياسية والتخلي عن المبادئ أمام الإغراءات المالية والمناصب .. فهل يبق بعد ذلك فرح ؟
وفي قصائد الانتماء التي يُظهر فيها الشاعر انحيازه إلى فئات بشرية مسحوقة كالمنجميين والكادحين والفقراء وجند الأشقياء ويظلّ الحزن مسيطرا على أسطرها وأبياتها حتى عندما لا يتفوّه كاتبها بكلمة حزن أو بكلمة مجاورة لها .. ولعل قصيدة " ثم فاجأتكم باحمرار الشرايين من الأمثلة الدالة على ذلك وقد وقفت أمامها لأنها تمثل قمّة شعرية مما صاغه سالم الشعباني ببنائها المحكم الذي تنسجم فيه الأفكار مع الإيقاع ويحصل فيه التوليف بين اللغة والمعنى المتسع دون أن تضيق عنه العبارة ليعلن عن ضيق ووحشة وفخاخ منصوبة في الشوارع عليها أغطية من دماء :
المدينة موحشةٌ
والعصافير مذعورة
فأين تحطّ العصافير هذا الصباحْ
وكل الشوارع مملوءة بالفخاخْ
مخضّبة بالدماءْ
أليس هذا هو الحزن الذي يهاجم الشاعر عندما تنتابه خيبة ناجمة عن حب فاشل هو ليس حب امرأة لأنه حب أرض أرقته ولم يتحقق فيها حلمه لها ولسكانها فيمرض ويفكر في التخلي عن حمل أثقالها :
هذه الأرض أرّقنا حبّها
واستراح الذي تاب من حبّها
ثم أنت المريض
ظامئ والغمام الذي
أنت تلهث في إثره
عاقر لا يفيض
والفرحزن ـ وهو توليفة بين الفرح والحزن من اقتراحي ـ تتجلى ثنائيته ناصعة في قصائد الانتظار .. وقد تكون خاتمة الانتظار مفرحة أحيانا ومترحة أحيانا أخرى ..فالذي ينتظر الإعلان عن نتيجة مناظرة اجتازها يستعد لإحدى الحالتين إذ قد ينجح وقد يخسر ، والحارق إلى إيطاليا عليه أن يتوقّع الغرق في البحر أو الوصول إلى أحد شواطئها .. والأمثلة كثيرة للاستشهاد ببعضها .. لذلك أتخلص منها إلى قراءة في قصيدة « سوف يأتي " وفيها انتظار لمن هو غائب ويرغب الشاعر في قدومه لينقض البشرية مما يرهقها من أزمات اقتصادية وحيف اجتماعي.. وقد لا يأتي ... وأذكر أننا سنه 1991 ( سالم وأنا) شاركنا في مهرجان شعري طلابي بكلية الآداب بمنوبة وكان من المدعوين إلى جانبنا الشاعر السوري الكبير شوقي بغدادي .. وبعدما قرأ سالم هذه القصيدة خاطبه ونحن في استراحة قهوة بقوله ( ولكنه لم يأت يا أستاذ سالم ) .. وبعدما بقى سالم يترقب بين الحلم والاستقالة من الرجاء .. ومن أسطر القصيدة أعرض ما يلي :
سوف يأتي ويفجؤنا
وقد ذبل الزهر من حولنا
بربيع الفصولْ
ثم يبقى ونحن نزول ..
يتجلى في ما سبق إصرار الشاعر على أن المنتظر قدومه سيأتي ليقول له :
يا رفيقي ..
أعدْ صنمي وحصاني
أعدْ صنمي واقفا وحصاني يسابقْ فحول الخيولْ
أعدْ لي يدي ... معولي... منجلي.. وقعَ مطرقتي
أعدْ لي الفراشات يمرحن بين الحقول ِ.
هذه قراءة مستعجلة فرضها عليّ ضيق وقت الطلب وتحديد تاريخ العرض ولم أشأ وضع نقطة النهاية قبل القيام بإحصاء كلمتيْ فرح وحزن وما تفرّع عنهما من مشتقات اسمية وفعلية لأتوَصّل إلى النتائج التالية :

×الفرح:
1) باع فرحته ـ س3 ص9.
2) فرحت كثيراـ بيت 1 ص18.
3) فرحة ليس مثلها ـ بيت 1 ص19.
4) فرِح أم حزين ـ عنوان ص 40.
5) أأنا فرح أم حزين س 1 ص40.
6) أأنا فرح أم حزين ؟ س2 ص42 .
7)أأنا فرح أم حزين ؟ س2 ص 44 .
8) وولت فرحة درست س4 ص45.
9) فرحة الأطفال س 6 ص91 .
10) أفرحت يوم العيد ـ س8 ص91.
× كلمات وأفعال مجاورة للفرح ؟
بهجة ـ انشراح ـ بسّام ـ جذلان ـ المغني ـ نشوة ـ منشرح ـ المسرّة ـ الغبطة ـ فرحان ـ
× الحزن :
1) ليالي الشتاء الحزين ـ س4 ص 10 .
2) ذلك الثلاثاء الحزين ـ س 9 ص 91 .
× كلمات وأفعال مجاورة:
شجن ـ مهموم ـ غم ـ لوعة ـ هم ـ أبكى ـ نوحي ـ انتحبي ـ مُعَنّى ـ يبكي ـ اكتئاب ـ أوجاعه ـ حداد ـ الغضب ـ
ما لفت انتباهي في العرض أعلاه هو أن سالم قد ذكر الفرح في مجموعته الشعرية عشر مرات بينما كرر الحزن في كلمة حزين مرّتيْن، فهل يُعزى ذلك إلى أنه يرغب في أن ينتفي الحزن نهائيا مما يكتب ؟ ,
أنا لا أتمنى ذلك لأن توهّج الشعر في شجنه .. وكما قال المسعدي: الأدب مأساة أو لا يكون .

محمد عمار شعابنية
المتلوي في24 و25 ديسمبر 2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى