مصطفى نصر - التل الأخضر

كل الأولاد في المؤسسة الاجتماعية يرتدون الشورت الأزرق المتآكل والقميص الرصاصي الممزق القديم إلا الولد نادر، فله وضع خاص ومعاملة خاصة.
هو في حوالي السادسة من عمره، جميل الوجه، وجسده يميل للامتلاء، تهتم به دادة أنجيل التي تشبه الخواجات، وتمازحه ويمازحها، تضمه إليها وتقبله كإبنها.
يرتدي في المساء بيجامته وشبشبه ويتجول بين أبنية المؤسسة.
يقولون إن أم نادر ماتت وهو طفل يحبو، فتزوج والده الغني من امرأة أخرى. اكتشفت – بعد الزواج – إنه يتبول على نفسه في الفراش، فأصرت على أن يفارقها حتى لا يفسد فرشها. ولأن الرجل ليس له أقارب يستطيعون احتمال طفل يتبول على نفسه في الفراش، ولأنه – أيضا – قد أحب زوجته الجديدة ولا يستطيع أن يرفض لها طلبا؛ فقد جاء بالولد إلى المؤسسة القريبة جدا من بيته، طالبا من مديرها أن يبقيه عنده، وسينفق عليه.
يعطي الرجل لدادة أنجيل نقودا، يقولون إنها أكثر مما تتقاضاه من المؤسسة، ويوصيها بأن تعد له فراشه كل صباح وأن تغير ملابسه المبتلة. وأن تخفي سره عن الأولاد الآخرين.
لكن كل من في المؤسسة يعرف هذا عنه، فإذا ما غضب أحد الأولاد منه، يقول له " يا أبو شخة ". لكن رشاد لا يترك هذا الولد دون عقاب، فوالد نادر يدفع لرشاد أيضا.
يأتي الرجل إلى المؤسسة ببذلته الأنيقة محملا بالهدايا لولده ولبعض العاملين هناك. ويتحدث مع ابنه مداعبا، لكن الولد يسبه من وقت لآخر لأنه طرده من بيته ونصر زوجته عليه.
يسهر الرجل مع العاملين في المؤسسة لوقت متأخر من الليل، ثم يقبل ابنه ويخرج عائدا إلى زوجته التي يحبها.
عيب الرجل الوحيد – في المؤسسة – إنه لا يأتي بهدايا للأولاد المودعين بها، معتمدا على أن العاملين في المؤسسة سيحمون ابنه من الأولاد. لذا، لم يكن الأولاد يحبونه، وكانوا يتحرشون بابنه نادر رغم علمهم بما سيلاقونه من عقاب على يد رشاد.
**
جاء سعد لزيارة عوض بعد أن بلغه الخبر من عجبة أمه.
رآه جالسا وسط الحوش الترابي مع الأولاد، وبدر يدور بعصاه بينهم، ليضربهم دون سبب، متسليا ولاهيا.
نادى رشاد على عوض وسمح له بأن يختلي بصديقه بعض الوقت. أخذا يتحدثان، كان سعد ممسكا بكتاب، لم يبد عوض اهتماما بذلك، فسعد دائما يمسك كتابا، لكنه قدمه هذه المرة إليه:
- اقرأه، سيسليك في ظروفك هذه.
أخذه عوض، لم يستطع أن يعيده إليه وقرر أن يعطيه لأمه عندما تأتي لزيارته في الغد، سيوصيها بأن تصونه، تضعه تحت مرتبة السرير إلى أن تجد سعدا، فتعيده إليه. هكذا هو عوض، يعطيه سعد كتبا كثيرة ليقرأها، فيبقيها عنده لبعض الوقت، ثم يعيدها إليه، مدعيا إنه قرأها.
جاء أحمد عبد العال – الموظف المسئول عن عوض – كان سعد يرتدي ملابس جيدة ونظيفة، قال عوض فرحا:
- سعد صديقي، هو تلميذ في مدرسة.
- أية مدرسة؟
قال سعد:
- العطارين الإعدادية.
- جئت متشعبطا في الترام طبعا؟
- لا، راكبا الترام بتذكرة.
نظر أحمد عبد العال إلى الكتاب في يد عوض:
- ما هذا؟
- رواية " التل الأخضر " ليقرأها عوض هنا.
أحس الموظف بأن أشياء تحدث لم يحسب لها حسابا من قبل، قال لعوض:
- تجيد القراءة؟
- نعم، سعد يعيرني كتبا كثيرة لأقرأها.
أمسك أحمد عبد العال بالكتاب وأخذ يقلب صفحاته، وعوض يرتعش خوفا من أن يطلب منه أن يقرأ أمامه. فهو يقرأ بصعوبة، لكن الرجل أعاد الكتاب إليه مبتسما، وربت ظهر سعد مبديا إعجابه. أحس عوض بالارتياح وبحب شديد لسعد، فزيارته – تلك – رفعت من قيمته لدى الرجل المسئول عنه في المؤسسة، وذلك سيؤدي حتما إلى الإسراع بالإفراج عنه، وأحس بحب شديد لهذا الكتاب، تحسس ملمسه الناعم، كان كتابا صغيرا، وغلافه أخضر، وكلمة " التل الأخضر " مكتوبة باللون الأبيض وصفحاته صفراء سميكة الحجم ( مازال عوض يتذكره وكأن ما حدث كان بالأمس )
لن يعطي الكتاب لأمه في الغد عند زيارتها له لتعيده لسعد، بل سيتمسك به، ويطلب من الموظف المسئول عنه أن يحميه من رشاد ومن الولد بدر، نعم لن يسمح لهما بأن يمزقاه.
بعد أن أنصرف سعد، عاد عوض بالكتاب إلى " الحوش " نظر الأولاد إليه في دهشة. تصفح الكتاب فرحا. وجلس يقرأ بعض الكلمات، وجد صعوبة في استيعابها، لكنه لم ييأس، اقترب منه الولد بدر بعصاه:
- تقرأ يا ابن الكلب، تظن نفسك في مدرسة؟!
يستطيع عوض أن يصرعه، لكن رشاد، ذلك العملاق، ماذا يستطيع معه؟!
أمسك عوض الكتاب وأخفاه، ثم أسرع إلى أحمد عبد العال قبل أن يترك مبنى المؤسسة ويعود لبيته، وجده يستعد للرحيل. كان بدر خلفه بعصاه، فهروب عوض منه هكذا أمام الأولاد؛ سيهز مكانته أمامهم.
تراجع بدر عندما رأى أحمد عبد العال أمامه، ووقف خارج الحجرة ليتصنت:
- ماذا تريد يا عوض؟
- بدر يطاردني بعصاه، يريد أن يمنعني من القراءة.
- استدع رشاد حالا.
أسرع عوض، عاد بدر بعصاه منكسا رأسه، لم يطارد عوض عندما ظهر أمامه. وعندما وصل إلى الأولاد وجدهم يتحدثون وكأنهم لم يروا عوض وهو يتحداه ويجري منه.
قال أحمد عبد العال لرشاد:
- دع عوض يقرأ كما يشاء.
أومأ رشاد برأسه، وعاد مع عوض قائلا في عتاب:
- لماذا لجأت إليه؟!
- هو الذي قال لي.
ظن أن رشاد سيضربه، لكنه فوجئ به يربت ظهره قائلا:
- اقرأ كما تشاء.
عاد عوض إلى الأولاد اللاهين بأحاديثهم، وانزوى بدر بعيدا، يمسك بعصاه في لا مبالاة. وقرأ عوض ثانية، حتى عندما أمر رشاد الأولاد بالقيام لتناول الغداء، لم يقم، وظل كما هو يقرأ. أحس أن الكتاب يحميه من هجمات رشاد ورعونة بدر، فزاده هذا تمسكا به.
بعد الغداء، أمر رشاد الأولاد بجمع الورق من الحوش وحمل الخضروات التي جاء بها حامد على عربة كارو تقف خارج الدار، وأمر رشاد البعض بكنس الحجرات، لكن عوض بقى يقرأ كما هو، ولم يطلب رشاد منه شيئا.
سالت الدموع فوق وجه عوض حزنا على السيدة " جين كاربتر " بعد أن تركها ولدها الوحيد وسافر إلى اليابان، فعاشت في الفقر تستجدي الناس إحسانا. تذكر أمه عجبة فهي لا شك تعاني الآن من الحاجة بسبب حبسه في هذه المؤسسة، فأبوه لا يعمل وأخوته صغار. سخر بعض الأولاد من بكائه المفاجئ والذي ليس له مبرر، فهم لم يروا رشاد يضربه ولا الولد بدر. فما الذي يبكيه؟! وجاء البعض مهنئا لأنه قهر بدر، شدوا على يده فرحين.
لم يشترك بدر في العمل – كعادته – لكنه جلس حزينا والأطفال يتحركون حوله غير خائفين منه، بل سخر البعض منه وهو سائر.
**
عند موعد النوم كان عوض قد قرأ نصف الكتاب تقريبا، وأحس بلذة كبيرة في تتبع أحداثه. مر به رشاد مبتسما في سخرية، لكنه لم يطلب منه إطفاء المصباح ولم يأمره بالنوم كما فعل مع سائر الأولاد.
في الصباح اكتشفوا هروب بدر، قال رشاد إنه قفز من فوق السور، لكن الأولاد قالوا همسا وفي حذر:
- إن رشاد هو الذي فتح له الباب في المساء بعد أن دفع له.
وتقرب رشاد من عوض. لم يعد يضربه كما يضرب الآخرين، اقترب منه وهو يقرأ، ربت ظهره وطلب منه أن يحكي له موضوع الكتاب. كان رشاد أمامه كطفل يسعد لسماع الحكايات ويدهش لها، قال لعوض:
- أقضي وقتي هنا في المؤسسة، لأن ليس لي أصدقاء ولا أهل.
في أول إجازة لعوض، سأله رشاد:
- ستذهب للسينما مع أصدقائك؟
- نعم.
- يمكن أن أذهب معكم؟
واتفقا على اللقاء، قابله عوض مع صديقيه سعد وسيد أمام باب سينما الهمبرا من ناحية شارع كلية الطب، كان رشاد مرتبكا وخجولا. بعكس تصرفاته مع الأولاد داخل المؤسسة.
قال رشاد:
- عزيز يعمل مدرسا للرسم في إحدى المدارس الإعدادية ( كان مسموحا في ذلك الوقت، أن يجمع الموظف الحكومي بين وظيفتين حكوميتين، حتى صدر قانون العاملين في عام 1959 الذي منع ذلك )
دفع عزيز رشوة لمسئولين في الوزارة ليعينوه في المؤسسة بجانب عمله في المدرسة من أجل ( مزاجه )، ولو ضغطوا عليه لعمل دون أجر، بل سيوافق أيضا لو طلبوا منه أن يدفع جزءًا من راتبه نظير الحضور إلى المؤسسة، فهو معروف على مستوى إدارة التعليم في الإسكندرية، بميله إلى الأولاد. ولقد عاقبته الوزارة من قبل ونقلته إلى الواحات، ثم سعى للعودة إلى الإسكندرية ثانية. ووجد ضالته في المؤسسة، فالأولاد سهل الإيقاع بهم، فهم يفرحون بالمال والهدايا كما أنهم ليس وراءهم من يدافع عنه. فمهما اشتكوا لن يسمعهم أحد. بعكس أولاد تلاميذ المدرسة التي يعمل بها، فمن الممكن أن يكون أحدهم ابن مسئول كبير ( يقلب ) الدنيا عليه، وقد يرجعه الواحات ثانية، أو يؤدي إلى فصله أو حبسه.
لم يعترض أحد في المؤسسة على تصرفات عزيز، الكل راضٍ بما يفعل. فعندما يدخل من الباب، يهرع الأولاد فرحين ومرددين: " بابا عزيز، بابا عزيز "، كالقطط الضالة عندما تتجمع حول من يرمي لها ببقايا طعامه، يعطيهم عزيز الطعام والحلوى ويجمعهم في مرسمه ليعلمهم الرسم.
يدفع لأنجيل لكي " تحمي " الأولاد الذين يختارهم؛ بالماء الساخن والصابون، وتنظفهم له، فيضاجعهم في مرسمه.
الوحيد الذي يريده عزيز ولم ينله، هو الولد نادر، فالولد جميل ومربرب لكن أنجيل تحبه وتصر على حمايته، وتردد لعزيز دائما:
- ما دمت أنا هنا، لن تناله.
والولد نادر غير فاهم لما يحدث، ويسأل أنجيل من وقت لآخر:
- لماذا تبعديني عن بابا عزيز، إنه يحبني ويقدم لي الهدايا الكثيرة، إنني أحبه أكثر مما أحب أبي.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى