د. سيد شعبان - تجاعيد الزمن!

لا أدري ما الذي جاء بطيف جدي الصاوي إلي هذه الليلة؟
هل اقترب رحيلي عن هذا العالم المسكون بالقلق؟
كنت دائما أتسمع حكاياته من أمي التى لم تبقى في ذاكرتها غير ومضات من حديث جدتي؛ مات منذ زمن طويل،ولأن الحكايات مثل وشم على جلد لا يمحو الزمن خيوطه،بقيت تلك السيرة ماثلة في عقلي أستدعيها وقتما أريد،فكما تعلمون هوايتي القص،على كل رأيته هذه المرة وقد حمل عصاه،بعض شياه تتبعه،لم يكن مفتول الشارب،كان متعبا فقد تراكمت الهموم عليه،مع أنه قادم من ذلك الزمن الذي حمل أنفاس الطيبين هكذا اعتادت جدتي أن تتحدث عنه، فالجدات لا يغادرن الماضي رغم بعض ألمه ،حديثه يجعلنه رفيقا فيما تبقى من عمرهن ،الرحيل صوب الأرض التى احتوت أجساد الآباء،الآن الذاكرة أكثر فتوة،كلبه يتبعه مثل ظله،لم ينطق بكلمة واحدة،لا أدري أتلك هي صورته في عالم الحقيقة أم أنا من كونها من شتى وجوه العائلة؟
لم أهتم بذلك كثيرا كل ما أعيه أنني أبحث عن شيء ما،لم تكن ثمة وثيقة واحدة تثبت وجوده ،الشاهد الوحيد أنه مر من هنا،ربما لأن الآخرون ارتحلوا،أخذتهم النداهة بعيدا،ألقت بهم حيث المتاهة التى لا عودة منها،لم أكن محظوظا بطبيعة الحال؛أن تبقى في أرض تتنكر لك تلك محنة قاسية،بدأت أتلمس الطريق،الكل ذكرني بابن الصاوي،هل حقا أنا ولده؟
ربما .
فالمتنبي ربته جدته،ظل مجهول النسب فما سره أن لقب بابن عيدان السقا!
حاولت التخلص من تلك الذاكرة الممتلئة بالغرائب،كم أرجو أن أمحوها!
أن ألقي بها في النهر غير آسف،بقيت لي منه السمة،الوشم العلامة على ظاهر يدي،لست على كل حال هجينا،الآن تركت حرفة جدي الصاوي،هربت من شياهه،وضعت ثيابه في صندوق خشبي،حتى عصاه جهدت أن أحشرها بين طيات الملابس العتيقة،تأبت علي!
لا أدري ما الذي جعلها تقف شاخصة هكذا؟
السوس نال من طلائها،لم ينفد إلى قلبها،بعد ما يقارب الثمانين عاما نظرتها فإذا هي فتية كأن لم تختف من أمس البعيد،هل عادت له شياهه من جديد؟
كانت سيفه ،
الربوة التى كان يقف عندها ليرعى اختفت معالمها،تحولت لوكر يبيض فيه الشيطان،يشرف منها على الوادي الذي كان أخضر!
لملمت بقايا جدي،استجمعت مفرداته التى سمعتها من جدتي كل ليلة كانت تجمعنا،هي تمتاز بتلك الحكايات،تضع حبات الفول السوداني،ثم تسرد في غير انقطاع كيف ضرب جدنا الصاوي أحد العساكر الإنجليز بتلك العصا، ذلك الوغد يريد أن يسرق شاة،ربما كان شعرها يغطي نصف ظهرها يتماوج مثل أعواد الصفصاف عند حنية النهر،يومها أسال دمه وألقى به في قرارة حفرة عند مقابر المجرية!
كانت عصية مثل مهرة عربية، تلك الحكايات مثلت هذه الليلة كائنات بشرية لا أحدد لها وجها مميزا كل ما أعيه منها ذلك الوشم المختزن على جبهتها،الحياة تتدفق بكآبة ،السحنة الحمراء عادت تتلصص على مربد الشياه،غاب مجددا جدي صاوي،التابع الذليل يختلس النظر إليها،يراغمها بل يراودها عن حملانها،الرعاة خارج البادية،يلوكون سمر المدينة غناء ولهوا،خصورهم تثنت مثل بغي جاءت من بلاد الثلج والخمر!
تنبهت الفجر موعد،رغم القهر




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى