إيمان المحمداوي - لا تخاريف لبيسوا...

خرج من دار النشر وفي داخله هوّة سحيقة، كأنه تخلّى عن نفسه حين سلّم مجموعته القصصية إلى الناشر، فطالما عاش حياة شخوصها، وتأثّر بأحاسيسهم وعواطفهم، ومثل كلّ مرّة بعد الانتهاء من الكتابة، يخامره شعور يدور في الفراغ ذاته، إذ لا حياة له، ولا مشاعر، ولا انفعالات سوى ما يعيشه داخل الشخوص التي يكتبها، حتى أحلامه اقتصرت على أحلامهم، أفكارهم، متطلباتهم، على عكس كلّ الذين من حوله، كان يهرب من السكينة المفرطة التي يحيا فيها، لم يعشق امرأة يومًا ما، كي يشتاق لها، ويعيش ألم فراقها، أو لذة الشجار معها، أو خيانتها له، أو خيانته لها، إلا عبر أحداث يعيشها في قصصه، كما لم يعاقر الخمرة يومًا، ولم يدخن سيجارة أو نرجيلة، ولم يتشاجر مع أحدهم، ولم يقتل أحدًا أو ينقذ حياة أحدهم، إلا داخل أحداث سطّرها على الورق، هكذا عاش القاص حكيم الحكواتي - كما كان يسمي نفسه- حياة هادئة، مستقرة وسكينة حدّ الإحساس بخمول نبضه، وكسل ذهنه حين يكون بعيدًا عن مخيلته والشخوص التي ابتكرها لقصصه. قد يتمنّى الكثير من قرائه العيش وسط هذا السياق من الحياة، لكنهم لا يشعرون بتلك التقلبات النفسية حين يزج بنفسه وسط أحداث يتخيّلها، ويتعايش مع شخوصها، هم فقط يستمتعون في قراءة ما يكتب.
مرّ الحكواتي – كعادته في كل يوم جمعة- على شارع المتنبي وقبل الوصول إليه لا بد له أن يمرّ بشارع الحيدر خانة؛ لشراء بعض الكتب التي خزنتها ذاكرته، أو التي تثير في نفسه الرغبة باقتنائها، لا سيما الكتب التي فرشها أصحابها على رصيفي ذلك الشارع المكتظ بالكتب على الأرصفة وبين رفوف المكتبات الكبيرة، والسراديب التي قد تحوي آلاف الكتب القديمة والنادرة. جميع البنايات في شارع الحيدر خانة وأزقته الضيقة على الطراز البغدادي القديم، فالتجوال في هذا الشارع وأزقته يكفي لشحن خيال شخص مثل حكيم، فالكتب هي عالمه الوحيد، وجلّ وقته يقضيه مع كتب ديستوفسكي، وتشيخوف، وكامو، وسارتر، ونيتشه وهيدغر وفرويد، ونجيب محفوظ، عبد الرحمن منيف، ....وغيرهم.
انفرشت مجموعة كبيرة من الكتب القديمة على الرصيف، كتب غيّرت الواقع بقوتها ومعرفيتها، كان الوقت خريفًا، والريح تعبث بها وتقّلب صفحات بعضها، حتى يظن من يمرّ من أمامها بأنها كومة من أوراق تناثرت على الرصيف بفعل الريح، ولا فائدة منها. كان يقف بجانب تلك الكتب صبيٌّ بملابس رثّة، لفحت الشمس بشرته الغضة حتى تيبّست وتشرّبت بسمرتها، مشغولًا بأكل (سندويش) لا يشبه سندويش المطاعم الشعبية، يبدو أنه أحضره معه من المنزل، خبز عراقي ملفوف لا يعلم ما يحوي داخله، لحظتها، تملّك الحكواتي فضول غريب، فسأل بائع الكتب:
ماذا تأكل؟
ابتسم الصبي بودٍّ، وقّرب السندويش منه قائلًا:
تفضل يا أستاذ، سندويش بيض مسلوق جهزته لي أمّي.
شكره وأخذ يقلّب في الكتب، ثم سأله عن مؤلفات حكيم الحكواتي من دون أن يخبره عن هويته، وهل يستطيع أن يوفر له نسخًا منها لو أعطاه العناوين؟ وأخبر الصبي بأنه معجب بكتابات هذا الكاتب التي لا هوية إجناسية محددة لها، أخبره بطريقة مبسّطة ومقنعة، محاولًا إيجاد صدى لكتاباته في السوق المحلية. هزّ الصبي رأسه وهو يبتلع لقمته التي كان يلوكها، وأخبره بأن تلك الكتب غالية على بسطته البسيطة، فهي لا تتوفر إلا في المكتبات الكبيرة، بنسخها الفاخرة الجديدة. وبعدما أجابه الصبي بالنفي، انشغل بالبحث بين كومة الكتب، واشترى كتابين، كتاب (التأثير) لروبرت تشالديني، وكتاب (الاكتئاب) لكوام ماكنزي، أخذهم الصبي من يد حكيم، ثم وضعهما في كيس بلاستيكي، وحين سلّمه حكيم النقود قال الصبي له مبتسمًا:
أظن أن أهم أسباب الاكتئاب هي الرفاهية المفرطة والفراغ العاطفي.
ابتسم حكيم متسائلًا:
كيف استنتجت ذلك؟
جاء رد الصبي بعفوية وبساطة بعد بلع لقمته:
لو كان يعمل طيلة النهار، ويعود متعبًا لبيت مليء بالأطفال بضحكاتهم وعراكهم، فلن يبحث إلا عن طعام يسد جوعه، ومكان يستريح فيه، فلا وقت يسعفه، ولا مكان ينفرد فيه كي يعاني من الاكتئاب.
إذًا أنت سعيد وممتلئ بالحياة والأمل.
بالتأكيد كلّ انسان له طموحاته وآماله مهما كانت بسيطة، فأنا أطمح يومًا أن أملك مكتبة كبيرة وأبيع فيها مثل تلك الكتب التي سألتني عنها.
هل قرأت يومًا بعضًا من الكتب التي تبيعها؟
ربما لا تصدق يا أستاذ لو قلت لك: إن الكتابين اللذين تحملهما، قد استوعبت كلّ ما بداخلهما.
ممتاز، وهل قرأت كتب حكيم الحكواتي؟
بعضًا منها استطعت استعارتها من مكتبة صديقي، وهي جميلة حقًّا، لكني أظن أن اسم الكاتب له تأثير في بيع كتبه أكثر من تأثير ما يكتبه.
كيف ذلك؟
ماذا لو نشر حكيم الحكواتي كتابًا باسمي هل سيجد له الصدى نفسه؟
فكرة رائعة، لعله يفعلها.
ضحك الصبي حتى كاد يغص في لقمته، ثم أخذ نفسًا وقال:
باسمي أنا… مستحيل، فأولئك الكتاب المجانين، لن يحتاج أحدهم إلى اسمي كي يختبئ خلفه، ربما يفعل مثل ما فعل بيسوا ويختار اسمًا من مخيّلته.
أووو.. تعرف بيسوا أيضًا!
أحب جنون ذلك الرجل كثيرًا.
بيسوا ليس مجنونًا يا بني، هو رجل عبقري، وعندما لا يجد الرجل نظيرًا له، ولا يجد من يفهمه أو يجاريه، فهو يميل للانعزال ويشعر بالوحدة، لذلك استخدم بيسوا عبقريته للخروج من تلك الوحدة بخلق حياة وأناس من مخيّلته، يفهمهم ويفهمونه.
بالتأكيد لا أقصد الجنون بمعناه المتعارف عليه، وإنما لكونه عبقريًا كان لا بدّ له أن يقتل تلك الوحدة، عبر خلق مجتمع من أناس يتلاءم معهم، يحادثهم ويشاركهم حياته، يحاسبهم على أخطائهم، ويوجههم، ويتفاخر بنجاحاتهم، كما يؤازرهم في كبواتهم، وقد عرف الناس من كتب بأسمائهم فقط، لكنّي أظن أن تلك الأسماء هم بعض من الذين لم يعلن عنهم.
أتعلم يا بني أن لكلّ مؤلف أكان روائيًا أو قاصًا أو شاعرًا جزءًا من تخاريف بيسوا، فتلك الشخوص والأحداث التي ابتدعوها هي أيضًا حياة أخرى للهروب من الواقع، حياة تملأ الفراغ الذي يسكنهم، ويغذي خيالهم الخصب.
أبهره ذلك الصبي بذكائه كثيرًا، على الرغم من صغر سنه، قد لا يكون ناجحًا في كل شيء، لكنه بذل جهدا، فعل ما لم يجرؤ عليه الكثير، فإذا ما نظر المرء إليه جيدًا، لوجده غنيًّا في شيء لا يملكه الكثير ممن يملكون قدرات أكثر منه، لذلك قرّر حكيم مع نفسه أن يخلق منه كاتبًا شهيرا، أولًا يكتب له مجموعة قصصية وينشرها باسمه. وبعد أن يصنع منه اسمًا معروفًا، سيجعله هو من يكتب القصص بمساعدته حتى يعتمد على نفسه، ويكون بعد ذلك ندًّا له حقًّا، وأخذ يكلم نفسه: "سأخلق كاتبًا ندًّا لي في الحياة الواقعية وليس مثل بيسوا، اسمًا من خياله فقط" يكلم نفسه وهو يتجه نحو مقهى الشابندر بخطاه الوئيدة، يحمل دفتره الصغير وقلمه في جيب سترته، كان ذلك المقهى في نهاية شارع المتنبي بالقرب من مبنى القشلة، شُيّد منذ أكثر من قرن على الطراز البغدادي الأصيل، كان وما زال ذلك المقهى مركزًا لتجمع الشعراء والفنانين والمفكرين وأصحاب الكلمة وملهمًا لهم، فلا بدَّ للباحثين عن الكتب القيمة من بين أروقة مكتبات شارع المتنبي أن يمرّوا بهذا المقهى، والجلوس بين أقرانهم، وقد لا تجد تجمعًا ثقافيًّا في العالم مثل تجمع مقهى الشابندر الذي حافظ على أصالته على الرغم من كل التقلبات السياسية والاجتماعية التي لم تبتعد بتأثيراتها عنه.
دخل المقهى وجال بنظراته نحو الجدران التي تراصّت عليها لوحات فنية وصور لأدباء وفنانين وسياسيين وغيرهم ممن مرّوا بهذا المقهى وعُرِفوا فيه، كان المكان مزدحمًا، هناك من يحتسي القهوة أو الحامض أو الشاي، أو يقرأ كتابًا، أو يحمل آلة موسيقية ويدندن مع نفسه، وهناك من يدخن الأركيلة. لقد شدّ انتباهه من بين الحشد الكبير داخل المقهى، ثلاثة أشخاص تراوحت أعمارهم بين الخمسين والسبعين عامًا، يجلسون على أريكة خشبية تراثية، لا يُحدّثُ أحدهم الآخر منكبين على الكتابة، كان أحدهم يكتب في جوّاله بينما يكتب الآخران على الورق، اقترب منهم وألقى التحية، ردّ عليه اثنان منهم ولم يردّ صاحب الجوّال، بدا وكأنه غارق في عالمه الخاص، ولا يعي ما يحدث حوله، جلس على الأريكة المجاورة لهم في الركن القريب منهم، وأخرج دفتره وقلمه وأخذ بالكتابة:
"طلبتُ حزمة من ضوء الشمس وأنا أخرج من بيتنا الرطب، بعد مرور ليلة ماطرة على جدرانه الطينية وسقفه المهترئ، أبحث عن القليل من السكينة مع خبزة حارة أخذتها من أمي وهي تخرجها من التنور الطيني، كنت أسير وسط الحقول متسائلًا مع نفسي، عن مكاني في هذا الوجود، بماذا يحتاجني الآخرون وبماذا أحتاج لهم؟ هل أشاركهم أحلامهم؟ هل لي حلمي الخاص الذي لم يطلع عليه أحد؟ لعلّي لا أملك حقًّا غير الحلم، كلّنا نحلم، لكن من منّا حقق حلمه وسط كل تلك الانتكاسات في هذا العالم البالي، قد يسعى البعض بكل جهده، وقد يظلّ الآخرون أسرى أحلامهم التي لا تتحقق أبدًا، كانت تقول لنا أمي دائما:
علينا أن نحمد الله على النهار الذي يمرّ بنا ببساطة وقلوبنا مطمئنة.
لكني أجد أن ذلك هو الجهل الذي يدعو للسخرية، فلا يمكن أن نحدد السعادة والاكتفاء على أرض مستقرة من تحتنا، وسماء تظلنا بهدوء، أود أن ألمس أحلامي وهي تطفوا على ابتسامتي، أريد البحث عن تلك السلسلة الضائعة من أيامي، حتى وإن حزمتُ حقائبي ورحلتُ عن الأرض المستقرة، فقربي منها وفراقها سيّان حين لا أجد في تلك الأرض أحلامي، أودّ الرحيل للبحث عن إيماني بذاتي.
ها أنا أسير وحيدًا، لكني أستطيع رؤية طاقتي التي أفتقدها وأنا بينهم، عليّ مواجهة نفسي بأني لا شيء بينهم، وأن أفتخر بنفسي وأنا وحيدٌ أتصرف بما يليق بي، لكنّي ما زلت ذلك الفاشل الذي لا يبذل مجهودًا غير الاستغراق في الحلم، سعادتي المزعومة لا أراها إلا في الحلم. وتعود بي قدماي إلى ذلك البيت الرطب حين تستنجد معدتي وهي تطلب بعض الغموس لتلك الخبزة الخالية".
وضع الحكواتي قلمه خلف الدفتر، ثم قرّب الدفتر من عويناته، وأخذ يعيد قراءة ما كتب وينقح ما فاته في استعجاله اثناء الكتابة، وفي النهاية أراد أن يكتب اسم الصبي في آخر الورقة، لكنّه تذكّر بأنه لم يسأله عن اسمه، فقرر الرجوع إليه واطلاعه على ما كتب له، وما ينوي القيام به معه، لكنّه قبل أن ينهض من مكانه جاءه صوت الصبي ذاته، قائلًا:
أستاذ أنت تمسك بهذا الكتاب منذ أكثر من نصف ساعة، لا تقلّبه ولا تأخذه ولا ترميه.
ضحك ونهض من مكانه وغادر وهو ما زال يضحك حين تذكّر بأن كل ما مرّ به، وذلك الحديث مع الصبي الأخرق ما هي إلا من تخاريف بيسوا، أما الصبي فأخذ يهز بيده ويتمتم مع نفسه:" من يرى أناقة هذا الرجل لا يصدق أنه مجنون."


إيمان المحمداوي - من مجموعتي القصصية الأخيرة ( قرابين إيرشيكال )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى