مصطفى نصر - المجهول

الأولاد الذين سبقوا عوض إلى مهنة جمع بقايا الورش، حكوا له عن كل شيء فيها، فيما عدا موقف الشرطة منها، لم يكن عوض يعتقد أن للشرطة دخلا في هذا الموضوع، فأصحاب الورش راضون عن أخذ مخلفات ورشهم وإن لم يأت الأولاد لأخذها؛ سيبحثون عمن يأخذها أو يرمونها فوق أكوام الزبالة ليتخلصوا منها، كما أن هذه المخلفات تباع لأصحاب متاجر تعرفهم الشرطة جيدا. ويعملون في عز النهار. والشرطة راضية عن عملهم، ولديهم رخص وسجلات تجارية ويتعاملون مع الضرائب، فما الذي يغضب الشرطة من مهنة كهذه؟!
المهم أن شرطيا سريا سار بجوار عوض وهو يمسك قفته الصغيرة. لم يهرب عوض منه، لو جرى ما لحقه الشرطي أبدا. فعوض يطير كالعصفور بجسده النحيل. ولماذا يجري منه وهو لم يفعل شيئا. وضع الشرطي يده فوق كتفه النحيل وسأله: ما هذا؟
أحس عوض بالخوف وندم لأنه لم يجر، ظن أول الأمر أن الشرطي يشك في أن معه مسروقات، فقال: لم أسرق شيئا.
لكن الشرطي لم يتركه إلا بعد أن سلمه لصول بدين في قسم " اللبان" القريب من الورش التي يتعامل عوض معها.
سبه الصول ودفعه في صدره وأمره بأن يضع قفته فوق البلاط العاري لكي لا يتسخ المكتب. وأدخل الشرطي السري يده فأخرج محتويات القفة: قطع نحاس صغيرة وزهر وقصدير وحديد. رآها الصول ثم أمر بإعادتها إلى مكانها ثانية.
لقد تأكدوا من عدم وجود مسروقات في القفة، فلماذا الإصرار على حجزه في القسم؟!
00
حجرة الحجز مليئة بالنسوة، فليس من المعقول أن يحجزوه مع الرجال وهو في سن صغير كهذا. فالرجال قد يعتدون عليه، خاصة أن جسده الصغير الضامر يعطيه سناً أقل من عمره الحقيقي بكثير. كان هو الصبي الوحيد بينهم.
بكى عوض، فهو يدخل قسم الشرطة لأول مرة في حياته. اقتربت منه محاسن وهي فتاة طويلة ترتدي ملابس مزركشة، ويظهر من وجهها آثار التزين. ربتت ظهره، ثم مسحت على شعره المجعد المتسخ بتراب الورش.
- ما الذي يبكيك؟
كان وجهها النحيف يبتسم. هي لم تزد عن السادسة عشرة، شعرها مصبوغ بالأصفر وفي هيئتها جرأة. نظر عوض إليها ومسح عينيه في عصبية، فاتسخ وجهه أكثر بالتراب العالق بيده، فضحكت الفتاة: ماذا فعلتْ؟
أشار إلى القفة وبكى ثانية، فضحكت بصوت مرتفع:
- كنت تلم الحديد من الشوارع؟
أومأ برأسه.
- هذه ليست تهمة. إذا ما جاء أحد من أهلك، سيستلمك في الحال.
حكت امرأة سوداء، شديدة النحافة - كان الكحل واضحاً في عينيها رغم ظلام الحجرة وسواد وجهها -:
- جاءوا إلى البيت عند الفجر وأخرجونا شبه عرايا، وضربوا الرجال الذين كانوا معنا، ثم طردوهم إلى الشارع.
قالت محاسن: المفروض أن يأتوا بالرجال مثلنا، فهم كانوا يفعلون ما نفعل.
بكاء عوض لم يؤثر في النسوة الجالسات، كما أثر في محاسن، الباقيات كن يتابعنه في صمت. بعضهن يبكين من أثر الضرب الشديد الذي لاقينه من المخبرين، وأخريات وضعن رءوسهن فوق أيديهن ساهمات.
لم تبد محاسن حزنا، كانت تبتسم طوال الوقت وتشعل السجائر في عصبية.
دخل شرطي سري شاب حاملا لفافة واقترب من محاسن، أخذ يمازحها وضحكت هي وصهللت، ثم أخذت اللفافة وعلب السجائر.
هي أكثرهن جمالا وأصغرهن سنا، لهذا يهتم الشرطي الشاب بها، ويتقرب إليها، قالت للنسوة حولها: تعالين لتأكلن.
قالت امرأة بدينة:
- قلبك خال يا محاسن.
- ستظلون هكذا إلى أن تعرضوا على النيابة في الغد.
قالت امرأة كان العمود الخرساني يحجبها، كما أنها لم تتحرك طوال الوقت ولم تتحدث حتى صارت جزءً من العمود:
- ألا يمكن أن ينتهي الأمر دون الوصول إلى النيابة كالمرات السابق؟
- لا أظن، فالضابط هذه المرة، مصمم على ذلك.
تناول البعض الطعام دون حماس، وملأت محاسن فمها الواسع بالطعام وأخذت تلوكه في أناة وكأنها مدعوة إلى حفل عرس.
شدت عوض إليها وأسندت جسده على جسدها المنتصب، أعطته سندوتشاً.
- لا.
- خذ يا ولد، فقد تتأخر هنا، ولن يسأل عنك أحد.
توجد في الحجرة بعض السيدات محتجزات في قضايا أخرى، كن أقل جمالا وملابسهن متسخة ومتآكلة. إحداهن ضبطت وهي تتسول على الكورنيش، وأخرى أدعت أن كل ما فعلته هو بيعها لورق اليانصيب. تظاهرت النسوة بتصديقها، وقالت امرأة بعد أن ابتعدت عنها:
- ورق اليانصيب ليس بجريمة، إنها تمارس الدعارة وتتوارى خلف بيع اليانصيب.
وامرأة أخرى ملامحها قاسية، تأففت من ملابس المومسات وقالت فخورة بكونها لصة:
- نسرق آه، إنما .......
كانت النسوة الأخريات تتحاشاها، ومحاسن تنظر إليها باستخفاف، ثم قالت بعد أن ابتعدت وبصوت خافت:
- لو وجدت من يرضى بها ما ترددت.
أحس عوض بالتعب الشديد وبرغبة في النوم. جسده الضامر لا يحتمل هذه المشقة. شدته محاسن إليها، وضعت رأسه فوق فخذها وجعلته ينام.
عندما استيقظ أحس بأن الحجرة قد ازدادت إظلاما. ومعظم السيدات نائمات، والغطيط بكل أنواعه يأتي من كل جانب في الحجرة المتسعة.
لكن محاسن لم تنم. ولم تتحرك خشية أن يصحو عوض.
جاء الشرطي السري الشاب، قال لمحاسن:
- كل الضباط غادروا القسم، ولن يعودوا قبل ساعتين على الأقل.
استيقظت بعض النسوة في ضيق، وتثاءبت البعض.
هرشت امرأة رأسها. السيدات اللاتي ضبطن في قضايا مثل هذه من قبل؛ يعرفن ما سيحدث. العرض على النيابة في الغد، ودفع الكفالة المطلوبة، ثم الإفراج إلى حين موعد القضية.
قدم الشرطي الشاب سيجارة إلى محاسن. بعض النسوة كن يتابعن ما يحدث في ضيق، يحسدنها لاهتمام المخبرون بها. حتى عندما ضربوهن، لم تلق محاسن ما لاقته الأخريات، ترفقوا بها. حتى الضابط كان يمازحها ونصحها قائلا:
- مازلت صغيرة يا محاسن، وتستطيعين أن تلحقي نفسك.
دخل مخبر آخر واشترك في الحديث، قالت محاسن بصوت مرتفع:
- أخاف أن يطب الضابط فجأة.
- - تأكدي مما قلته لك.
وأكد الزميل الآخر على قوله، فقالت:
- أين؟
- في دورة المياه.
صاحت غاضبة:
- لا، أقرف.
قال الآخر:
- أأمن مكان وسط حجرتي الحجز، فمنها نكشف الباب الكبير، ونرى الداخل إليه والخارج منه.
أومأت برأسها، وخرج المخبران فرحين.
اللمبة الوحيدة المعلقة في السقف خافتة وبعيدة، والنسوة نائمات وهن جالسات، والمرأة ذات التقاطيع القاسية التي تسخر من المومسات، نامت ممدة فوق الأرض العارية مصلوبة، وأرسلت غطيطا عاليا كأنها تحتضر.
قالت محاسن لعوض وهي تربت خده:
- أريدك في خدمة.
لم يجبها، الخوف والحزن جعلاه غير قادر على النطق.
- اتبعني.
ترك قفته الصغيرة.
بعد أن خرجوا أغلق الشرطي الحجرة ثانية بالقفل.
المسافة بين حجرتي الحجز ( الرجالي والنسائي) ليست طويلة، ولمبة بعيدة ترسل ضوءً كابيا ناعسا، قالت محاسن لعوض:
- انظر إلى باب القسم، إذا ما دخل أحد أخبرني.
لم يجبها، ذهب إلى المكان الذي حددته له، قالت:
- خاصة الضباط.
باب القسم ظاهر أمامه رغم بعده.
حالة كسل اجتاحت القسم كله. بعض الجنود يتثاءبون فوق مقاعدهم.
وقفت محاسن، التصقت بالحائط وكشفت عن ساقيها. ثم رفعت ساقا واحدة، وثنتها ككلب يبول. ودخل المخبر الشاب إليها، نظرت هي إلى عوض مشجعة في ابتسام، وكأن المخبر يتعامل مع جسد آخر غير جسدها.
لم يمكث المخبر الشاب طويلا ودس في يدها المبلغ الذي حددته. ثم جاء آخر وفعل مثله.
ملت محاسن الوقفة، فلم تعد تنظر إلى عوض. تابعت المخبر الذي يلتصق بها في ضيق وقرف، وفجأة صاح عوض:
- ضابط.
أسرع المخبر مرتعدا وهو يستر نفسه. وزرر بنطلونه. ثم نظر إلى مدخل القسم، فرأي جسداً كبيراً يتحرك في اهتزاز من بعيد ويقترب. صاح المخبر في عوض بعد أن صفعه غاضبا:
- إنه عمك محروس.
كان الوافد هو الصول البدين الذي تسلم عوض عند حضوره في الصباح، قال المخبر الشاب:
- لك شوق يا عم محروس؟
- بكم؟
- بجنيه.
- ماشي.
ابتعد المخبر واستعد الصول للدخول. محاسن أطول منه بكثير. فاشرأب حتى يصل إليها. كان يلهث وهي تتباعد. تريد أن تخترق الجدران لتهرب.
دخل عليها بجسده الممتلئ، كرشه خنق جسدها كله. أخذت تلهث وتزوم ككلب يحتضر.
الوقت يمر وهي تئن، والرجل كما هو معلق وكرشه يلتصق بها. بكت، ثم صرخت، ثم دفعته بعيدا عنها.
عادت إلى حجرة الحجز منهكة، بكت، وارتمت على أرض الحجرة:
- صول كالبغل، جعل ظهري يتسلخ من الحائط.
قالت امرأة من بعيد متشفية:
- وما الذي يغصبك على هذا؟!
- الكفالة يا أختي، من أين سأدفعها؟!
في الصباح، دفعهم المخبرون إلى عربة الشرطة الكبيرة. أمسكت محاسن بيد عوض قائلة:
- لا تخف، وكيل النيابة سيسألك، رد عليه بلا خوف وهو لن يؤذيك.
الغريب في الأمر أن المخبرين والصول – الذين تعاملوا معها – كانوا يدفعونها مع الأخريات ويسبونها مثلهن، وكأن لا شيء حدث بالأمس. وضابط يقف يعد الداخلات إلى العربة بصوت خافت وهو يشير بأصبعه.
أعادوهم بعد العرض على النيابة، دفعهم شرطي كان يمسك بعصا طويلة، ويسب كل واحدة بكلمات جارحة متلذذا بلصق عصاه في أماكن حساسة من أجسادهن. وعندما رأى عوض آتيا من آخر العربة المظلمة، صعب عليه أن يمر دون أن يذيقه مما أذاق الأخريات، فسب أمه بنفس الكلمات التي وصف بها النسوة.
في حجرة الحجز كان الجو غير الأمس، الكل صامت حزين، بعضهن لم يأت أحد لدفع الكفالة لهن.
جاء الشرطي السباب، ونادى على ثلاث سيدات، إحداهن كانت محاسن التي ابتسمت لعوض قائلة:
- سأخبرهم في البيت.
وسألته عن عنوان بيته. بينما الشرطي يصيح ويهدد، فأسرعت إليه وهي تلوح لعوض من بعيد مبتسمة لتطمئنه.
أحس عوض بالغربة بعد رحيل محاسن، لم تقترب واحدة منه لتعوضه عن الأمان الذي أخذته محاسن معها. انزوى بعيدا عنهن. وضع رأسه فوق قفته الصغيرة ونام.
استيقظ على قدم الشرطي، تدفعه في مؤخرته. لاعناً أمه بكلماته المفضلة والمنتقاة.
وجد عوض أمه عجبة وخالته هانم أمام الصول البدين. كانت أمه تبكي وهانم تنظر حولها في حيرة.
بصمت أمه على الأوراق وسبها الصول بكلمات أقل حدة من كلمات الشرطي الآخر. هددها بأنها ستسجن إذا قبضوا على ابنها ثانية متلبسا بجمع الحديد أو أعقاب السجائر.
بعد أن خرجوا من الباب، صاح عوض فزعا:
- نسيت القفة في الداخل.
شدته أمه:
- - دعها، لا نريدها.
سار معهما كسيفاً حزينا. ربتت أمه شعر رأسه المجعد والمتسخ قائلة:
- تحملت الهم بدري.
وقالت هانم: لولا الفتاة الجميلة التي جاءت وأخبرتنا، ما عرفنا طريقك.
سألته أمه: من أخبرها بذلك؟
شرد قليلا ثم قال: إنها تعمل في قسم الشرطة، موظفة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى