د. سيد شعبان - الساعي..

بعد مرور هذه الأعوام، لا يزال بي حنين إلى التسكع في ممرات المدينة التى أحببتها، دونما وجهة أدع قدمي تتحرك في أي اتجاه، فالمسافات تلتقي أبعادها، كل ما علي أن أعاود السير، هاتف في داخلي (ابحث عنها في تلك المدينة، ربما تجدها وربما لا، كل ذلك مرتهن بقدر) أضعت عمري ولم أنل منه ما تمنيت، حياتي مثل نداهة- حكت لي جدتي عنها-تمسك بخناق النساء ومن ثم تلقي بهن في النهر، جرفني الحنين ، أصبحت حطام رجل لايملك من دنياه غير تلك الحقيبة، بها أوراق هويتي، بضعة آلاف من الجنيهات هي كل ثروتي مكافأة نهاية الخدمة، ها أنا أخيرا قد تحررت من ثقل الوظيفة التي قيدتني ثلاثين عاما، يا لجمال الحرية!
لكن ذاكرتي أصابها العطب، لم يحدث هذا من قبل، لن أحكي لأحد هنا عن وجهتي، وهل لي من هدف؟
الأماكن في تلك المدينة العجوز صارت كئيبة، حتى النساء متشحات بالسواد، من بعيد أتى بائع الصحف، إنه يتأبط حزمة من صحيفتي الأثيرة، اشتريت واحدة منه لم يحدث هذا من قبل كثيرا ما عجت مكتبتي بأعداد منها، عند نهاية الشارع يوجد مطعم دخلت إليه، لأول مرة منذ فترة طويلة أتناول طعامي وحيدا، كنت أمضغ اللقمة وأتذكرها، أين هي الآن؟
كانت مثل ظلي، حين تزوجنا امتزجت روحينا وتعانقا إلفي ود،تركت فراغا لا يسد، وها أنا الآن أبحث عنها في مسارب المكان الذي شهد أول لقاء بيننا، انتهيت من طعامي سريعا، فهذا هو اليوم الأول من حياتي الجديدة، ترى هل ما تزال هي الأخرى تنتظر عودتي،عند الباب كانت تقف ،تعلم موعد قدومي، نظل صغارا طالما جرى الحب في شرايين قلوبنا.
أغضبتها فقد كتت متوترا، حين اقترب موعد إحالتي إلى المعاش شعرت بأنني فقدت سبب وجودي، مللت منها، تمنيت أن لو فارقتني هي الأخرى، شعرت بفراغ قاتل، أضعت عمري بين أروقة العمل الحكومي، والآن صرت مثل جواد عجوز يحتاج إلى رصاصة الرحمة، لم أستطع أن أجد متنفسا خارج ذلك الإطار الضيق الذي سجنت نفسي داخله، كنت أسخر من زملائي الذين يشتغلون بالهم العام، مثل الدمية كنت أتحرك، أغمضت عيني عن كثير من الحماقات التي كان يرتكبها رؤسائي،اللمبة الحمراء كنت أنا من يشعلها، ظننت أن الإخلاص واجب علي، جروا كنت أقبع أمام الباب، أصبت بالصمم المخزي، كنت بارد القلب،لا يحق لساع أن ينظر أمامه!
وها أنا اليوم أغادر ذلك المبنى، لن تقام لي مراسيم وداع، وهل لمثلي تكريم؟
لقد كرهت نفسي يوم أن جعلت منها حمالة وشايات، لست شريرا هكذا كنت أقنع نفسي، كل ما كنت أفعله أن أمد من يجلسون في الحجرة المضاءة بالألوان الحمراء بما يحتاجونه، تحاشاني الجميع، أطلقوا علي "الشمام"- بالفعل كان يفعل الكثير، يكفيه أن الجميع كانوا يتهامسون في حضوره، يوم أن رحل الفرعون على غير عادته تكلم كثيرا، لم بشاركهم فرحتهم، تبين لهم أنه على تلك الشاكلة، وهذا يكفي أن يكرهوه- حتي هي كرهت ذلك في، حياتي ارتهنت بساداتي، وها أنا اليوم حذاء قديم بال،لن يحنو علي أحدهم بكلمة، وهل سأجدها
ربما تكون ماتت من يدري، أو لعلها آوت إلى أحد أقاربها، وهل عاد لها غيري، لقد قطعت صلتها بأهلها:
أكثرهم مات، والباقون لا يسرهم أن يكون الشمام قريبا لهم، الأجرب ينفر منه الآخرون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى