محمد مصطفى العمراني - مصيبة خالتي غنية.!

بعد مطاردة مضنية استطاعت أمي أن تلقي القبض علي وأن تنتزع من بين أسناني السن التي ارتخت كثيرا ولم اجرؤ على نزعها ، أغلقت فمي بشكل دائم خشية أن يعيرني الأطفال بأنني " أفرم " (1) كنت جاهزا لرشقهم بالحجارة في حال وصفي بـ " الأفرم " .

لم تنته طقوس نزع السن فقد ايقظتني أمي باكرا ، صعدت فوق الأكمة بجوار منزلنا وما إن بزغت الشمس حتى رميت لها سني وقلت لها كما علمتني أمي :

ـ يا شمس يا طاسة يا طرمباسة بالبحر غواصة أعطيني سن غزال ولا تعطيني سن حمار .

مرت أيام وبدأت أحس بأصبعي السن الجديدة التي نبتت ، تشوقت لرؤية سن الغزال الذي سينبت في فمي ، أنا لا أعرف الغزال لكني بعد أيام سأرى سنه في فمي .

بعد أيام صحوت باكرا للذهاب إلى المدرسة لكنني لم أستطع فتح عيوني كأن هناك من أغلقها بصمغ قوي أثناء نومي ، هل هي مزحة سخيفة من إخواني أم أنني قد أصبت بالعمى ؟!

صرخت من الخوف ، أخبروني أنه رمد وسينتهي بعد أيام ، غسلت أمي عيوني بالماء الحار واستطعت أن أفتحها قليلا وأرى ، قالت أمي :

ـ اصعد إلى الأكمة ونادي على الناس الذاهبين إلى السوق حتى يجيبوك.

ـ وإذا أجابوني ماذا أقول لهم ؟

قل لهم :

ـ بعيوني جد المجدي يلعن أبو جدكم على جدي.

قلت مستغربا :

ـ لماذا ألعن جدهم وجدي ؟!

قالت أمي بجدية :

ـ إذا أردت أن تشفى من الرمد لابد أن تقول هكذا .

صعدت إلى الأكمة بجوار منزلنا وناديت على المتسوقين حتى أجابوني فلعنتهم ولعنت جدي معهم وعدت .

بعد جفاف طويل هطل المطر غزيرا فصعدت خالتي غنية إلى الأكمة بين المطر وظلت تصرخ تحت المطر :

ـ صوت الأعجم صوت الأعجم فطر قلبي صوت الاعجم .

هذا قلبي قد قطر دم ، صوت الأعجم صوت الأعجم .

نظرت إليها من النافذة والمطر يهطل بغزارة والرياح تكاد تعصف بها إلى أسفل التل وصرخت مستغربا :

ـ لماذا تصرخ خالتي بين المطر ؟!

قالت أمي :

ـ لكي تمتلك حنجرة ذهبية مثل فيروز ، تحلم منذ صغرها أن تغني بالتلفزيون وأن تطوف العالم وأن تصبح غنية فعلا .

ـ من فيروز ؟!

ردت أمي :

ـ فيروز مغنية لا تعرفها .

وعدت أسألها :

ـ هل وقفت فيروز بين المطر وصرخت : صوت الأعجم صوت الأعجم ؟!

قالت أمي بتضجر :

ـ أووف منك ومن أسئلتك ؟!

نظرنا من النافذة فلم نجد خالتي غنية ، أسرعنا بين المطر ، وجدناها أسفل التل ، الدم يتدفق من رأسها ، تصرخ وتتألم ، أسرعنا نحملها بصعوبة ونتعثر بين المطر سقطت منا عدة مرات حتى وصلنا إلى المنزل ، مددنا خالتي على السرير وأسرعت أمي توقف نزيفها بوضع مسحوق الحلف والحلتيت (2) على الجرح ، ظلت تصرح وتتألم .

طردتنا أمي من الغرفة لتنزع ثياب الخالة وتلبسها ملابس جافة ، ظلت الخالة على السرير لأيام تئن وتتألم وأمي تعالج جروحها ، أصفر لونها وشحب وجهها وتغير صوتها الناعم إلى صوت أجش حتى كأن فئران القرية في حلقها يأكلن خبزا يابسا .!

بعد أيام نبتت سنتي معوجة ولم أشف من الرمد رغم أني قد لعنت الناس ولعنت جدي معهم لكن مصيبتي كانت أخف كثيرا من مصيبة خالتي غنية .!
ــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ الأفرم : منزوع السن .

2ـ مساحيق من الأعشاب البرية كان الناس قديما يعالجون بها الجروح .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى