اليوم [27 مارس] هو يوم المسرح العالمى، وفيه، عادة ما تفتح المسارح أبوابها للجمهور مجانا، ليحتفل مع المسرحيين بعيدهم ...
الغريب هو أننى تخرجت فى المعهد العالى للفنون المسرحية (عام 1984) ، وعلى الرغم من أننى متخصص فى المسرح، وكتبت نصوصا مسرحية (لى كتابان منشوران) ونقدا ودراسات كلها منشورة، وحصلت على جائزة فى التأليف وأخرى فى النقد ، إلاَّ أننى ؛ أنا الذى أضعت من عمرى عامين فى كلية الحقوق ، وطردنى أبى من البيت وووو ... لأجل المسرح، كرهته كما لم أكره شيئا آخر فى حياتى كلها ، فمنذ سنوات ، والفرجة على العروض المسرحية صارت تعذبنى ، وتصيبنى بالإختناق وبالمرض أحيانا ...
آخر عرض رأيته ، كان منذ عدة سنوات، بعد إنقطاع دام لأكثر من عامين تقريبا - بعدها قررت إلغاء مشاهدة العروض المسرحية من حياتى كلها، بل وأكثر من هذا، فجميع الدراسات التى كتبتها على مدار سنوات، وجمعتها فى "ستة كتب كبيرة الحجم"، طردتها من جهاز الكمبيوتر وتخلصت منها.
أحيانا ما أسأل نفسى :
لماذا اتخذت هذا الموقف الجذرى ، العنيف ، من المسرح ؟ ، ألم يعد هناك أمل فى العودة إليه ؟...
فى الحقيقة ، حين تركت عالم المسرح ، وبدأت أنشغل بعالم الرواية- واهتمامى بها قديم- كان ذلك يعود إلى أننى اكتشفت أن الشروط التاريخية التى أفضت إلى وجود "الدراما والمسرح"، انتهت تماما، فكما بدأت تاريخيا انتهت تاريخيا أيضا.
وإجمالا- رغم أننى أشرت إلى هذا الأمر كثيرا فى مقالات سابقة- إلاَّ أنه بالإمكان القول إن [موت الواقع والتاريخ والذات- والأنثروبولوجيا] الحادث الآن، هو ما يجعل من استمرار الدراما والمسرح أمرا مستحيلا... للدرجة التى تحولت معها الدراما إلى ثرثرة والعرض المسرحى إلى صورة تحيل إلى صور أخرى؛ دون الإشارة إلى أية واقع، وها هو مسرح الصورة يغمرنا بقوة، تاركا كل متفرج على حدة غارقا فى نص منولوجى من تأليفه هو، لا يشاركه فيه أحد ، حتى الجسد نفسه، "جذر الوجود" وأحد أهم المرتكزات الثقافية؛ إذ تتقاطع عليه جميع الخطابات الممكنة؛ فى محاولة لامتلاكه، يتحول إلى وسيلة للعبور بالإنسان إلى "كون فارغ- يشغل حيِّزه إله مفترض، بلا هوية"... وهو ما يتنافى مع طبيعة المسرح.
وبطبيعة الحال، تحَوُّل الأنثروبولوجيا إلى ركام "خُردة" لا معنى له، وموت الواقع والتاريخ والذات، جميعا يمثلون الوضعية العامة الراهنة، إلا أن "الرواية"- وعلى الرغم من عمليات القتل التى تمارس ضدها، بجميع الوسائل وبمختلف أنواع الأسلحة- إلا أنها لازالت قادرة على أن تجعل من "اللغة" موطنا للعالم- عوضا عن "الصورة"- وهو ما يؤهِلها لإعادة بناء الرموز الأنثروبولوجية من جديد، والحفاظ على تراث التجربة الإنسانية فى العالم.
نعم، لهذا تحديدا كانت الرواية هى البديل الجمالى عن المسرح.
الرواية تحتاج لإلمام موسوعى بالوجود برمته، لأن الرواية هى "العالم الآخر" المختبئ وراء العالم الذى نراه ونلتقى به كل لحظة ، كما أن هذا العالم الآخر، لا يمنح نفسه بنفسه لأحد ، وعليك أنت بالبحث عن مفرداته وعناصره بنفسك، وإعادة بنائه بصبر قد يستغرق عمرك كله ...
نفس الشئ [كان] يحدث فى المسرح- قبل تحوله إلى الصورة- لكن الفرق بينهما يكمن فى أن المسرح "كان شعرا قابل للتجسيد أو للعرض" ، لذا لم يكن التلازم بين الشعر والمسرح ، على مدار التاريخ ، غريبا أبدا ، وكذلك "واحدية الصوت أو المنوفونية"؛ كما يذهب (باختين) ، ذلك أن الشعر والمسرح يشتغلان على (لغة شفرية خاصة جدا، ذات طبيعة كونية- إذ يرتبطان باللاوعى الجمعى)، تلك اللغة تتميز بالإختزال الشديد الذى يفضى حتما إلى (صناعة الرموز) ، عملية التشفير هذه هى ما أطلق عليه (عملية ضغط العالم الآخر) ؛ فالعالم يخضع لعمليات تقطير قصوى - لذا لم يكن غريبا أبدا أن يصير للمسرح لغته الرمزية الخاصة ، (وهى نتاج مجموعة هائلة من الأنظمة الجمالية والإجتماعية والإيديولوجية ... المرئية والمسموعة) ..
أما الرواية ، فعلى الرغم من خضوعها هى الأخرى لمجموعة من الأنظمة إلا أنها أكثر إنفتاحا من المسرح بما لا يوصف ، إذ يتمدد فيها "العالم الآخر- الرمزى" على راحته تماما ، متجاوزا الأنظمة الروائية نفسها . لذا لم يكن غريبا أيضا أن تلتصق الرواية بالواقع ، للحفر فى تربته عما يتجاوز به واقعيته، هذا فى الوقت الذى لم يكن المسرح يتناول فيه الواقع إلا مُرَمِّزا ، أى من خلال لغته هو (الطقوسية بجلاء) ...
وللأسف، التطور التكنولوجى، ومن قبلِه التطور الحداثى والتعدد الأيديولوجى، واعتبار المسرح مدرسة "أخلاقية و سياسية... إلخ"، وقسره على الإنغراس فى الإجتماعى والسياسى، والإنغلاق عليهما- كل هذا أعاد تعريف المسرح بتجريده من طقوسيته وكونيتة، ليجلعله مجرد [فم كبير] يتكلم من خلاله أناس موفدون من قِبَل مجالات معرفية أخرى لا تمت إليه بصلة.
وهاهو قد تباعد عن نفسه بمسافات يتعذَّر قياسها!...
الغريب هو أننى تخرجت فى المعهد العالى للفنون المسرحية (عام 1984) ، وعلى الرغم من أننى متخصص فى المسرح، وكتبت نصوصا مسرحية (لى كتابان منشوران) ونقدا ودراسات كلها منشورة، وحصلت على جائزة فى التأليف وأخرى فى النقد ، إلاَّ أننى ؛ أنا الذى أضعت من عمرى عامين فى كلية الحقوق ، وطردنى أبى من البيت وووو ... لأجل المسرح، كرهته كما لم أكره شيئا آخر فى حياتى كلها ، فمنذ سنوات ، والفرجة على العروض المسرحية صارت تعذبنى ، وتصيبنى بالإختناق وبالمرض أحيانا ...
آخر عرض رأيته ، كان منذ عدة سنوات، بعد إنقطاع دام لأكثر من عامين تقريبا - بعدها قررت إلغاء مشاهدة العروض المسرحية من حياتى كلها، بل وأكثر من هذا، فجميع الدراسات التى كتبتها على مدار سنوات، وجمعتها فى "ستة كتب كبيرة الحجم"، طردتها من جهاز الكمبيوتر وتخلصت منها.
أحيانا ما أسأل نفسى :
لماذا اتخذت هذا الموقف الجذرى ، العنيف ، من المسرح ؟ ، ألم يعد هناك أمل فى العودة إليه ؟...
فى الحقيقة ، حين تركت عالم المسرح ، وبدأت أنشغل بعالم الرواية- واهتمامى بها قديم- كان ذلك يعود إلى أننى اكتشفت أن الشروط التاريخية التى أفضت إلى وجود "الدراما والمسرح"، انتهت تماما، فكما بدأت تاريخيا انتهت تاريخيا أيضا.
وإجمالا- رغم أننى أشرت إلى هذا الأمر كثيرا فى مقالات سابقة- إلاَّ أنه بالإمكان القول إن [موت الواقع والتاريخ والذات- والأنثروبولوجيا] الحادث الآن، هو ما يجعل من استمرار الدراما والمسرح أمرا مستحيلا... للدرجة التى تحولت معها الدراما إلى ثرثرة والعرض المسرحى إلى صورة تحيل إلى صور أخرى؛ دون الإشارة إلى أية واقع، وها هو مسرح الصورة يغمرنا بقوة، تاركا كل متفرج على حدة غارقا فى نص منولوجى من تأليفه هو، لا يشاركه فيه أحد ، حتى الجسد نفسه، "جذر الوجود" وأحد أهم المرتكزات الثقافية؛ إذ تتقاطع عليه جميع الخطابات الممكنة؛ فى محاولة لامتلاكه، يتحول إلى وسيلة للعبور بالإنسان إلى "كون فارغ- يشغل حيِّزه إله مفترض، بلا هوية"... وهو ما يتنافى مع طبيعة المسرح.
وبطبيعة الحال، تحَوُّل الأنثروبولوجيا إلى ركام "خُردة" لا معنى له، وموت الواقع والتاريخ والذات، جميعا يمثلون الوضعية العامة الراهنة، إلا أن "الرواية"- وعلى الرغم من عمليات القتل التى تمارس ضدها، بجميع الوسائل وبمختلف أنواع الأسلحة- إلا أنها لازالت قادرة على أن تجعل من "اللغة" موطنا للعالم- عوضا عن "الصورة"- وهو ما يؤهِلها لإعادة بناء الرموز الأنثروبولوجية من جديد، والحفاظ على تراث التجربة الإنسانية فى العالم.
نعم، لهذا تحديدا كانت الرواية هى البديل الجمالى عن المسرح.
الرواية تحتاج لإلمام موسوعى بالوجود برمته، لأن الرواية هى "العالم الآخر" المختبئ وراء العالم الذى نراه ونلتقى به كل لحظة ، كما أن هذا العالم الآخر، لا يمنح نفسه بنفسه لأحد ، وعليك أنت بالبحث عن مفرداته وعناصره بنفسك، وإعادة بنائه بصبر قد يستغرق عمرك كله ...
نفس الشئ [كان] يحدث فى المسرح- قبل تحوله إلى الصورة- لكن الفرق بينهما يكمن فى أن المسرح "كان شعرا قابل للتجسيد أو للعرض" ، لذا لم يكن التلازم بين الشعر والمسرح ، على مدار التاريخ ، غريبا أبدا ، وكذلك "واحدية الصوت أو المنوفونية"؛ كما يذهب (باختين) ، ذلك أن الشعر والمسرح يشتغلان على (لغة شفرية خاصة جدا، ذات طبيعة كونية- إذ يرتبطان باللاوعى الجمعى)، تلك اللغة تتميز بالإختزال الشديد الذى يفضى حتما إلى (صناعة الرموز) ، عملية التشفير هذه هى ما أطلق عليه (عملية ضغط العالم الآخر) ؛ فالعالم يخضع لعمليات تقطير قصوى - لذا لم يكن غريبا أبدا أن يصير للمسرح لغته الرمزية الخاصة ، (وهى نتاج مجموعة هائلة من الأنظمة الجمالية والإجتماعية والإيديولوجية ... المرئية والمسموعة) ..
أما الرواية ، فعلى الرغم من خضوعها هى الأخرى لمجموعة من الأنظمة إلا أنها أكثر إنفتاحا من المسرح بما لا يوصف ، إذ يتمدد فيها "العالم الآخر- الرمزى" على راحته تماما ، متجاوزا الأنظمة الروائية نفسها . لذا لم يكن غريبا أيضا أن تلتصق الرواية بالواقع ، للحفر فى تربته عما يتجاوز به واقعيته، هذا فى الوقت الذى لم يكن المسرح يتناول فيه الواقع إلا مُرَمِّزا ، أى من خلال لغته هو (الطقوسية بجلاء) ...
وللأسف، التطور التكنولوجى، ومن قبلِه التطور الحداثى والتعدد الأيديولوجى، واعتبار المسرح مدرسة "أخلاقية و سياسية... إلخ"، وقسره على الإنغراس فى الإجتماعى والسياسى، والإنغلاق عليهما- كل هذا أعاد تعريف المسرح بتجريده من طقوسيته وكونيتة، ليجلعله مجرد [فم كبير] يتكلم من خلاله أناس موفدون من قِبَل مجالات معرفية أخرى لا تمت إليه بصلة.
وهاهو قد تباعد عن نفسه بمسافات يتعذَّر قياسها!...