د. محمد عبدالله القواسمة - السيرة الذاتية وزمن الكتابة

من المعروف أن السيرة تعني، في صورة عامة، قصة حياة. وهي نوعان: سيرة ذاتية، وسيرة غيرية. والسيرة الذاتية يسرد فيها المؤلف قصة حياته بخلاف السيرة الغيرية التي يسرد فيها سيرة غيره. وقد يتناول المؤلف في كلا النوعين قصة الحياة كلها أو جزءًا منها. وما يهمنا في هذه المقالة هو الحديث عن زمن الكتابة في السيرة الذاتية؛ لأنها الأكثر شيوعًا، والأقرب إلى الكشف عن شخصية مؤلفها.

وزمن السيرة الكتابي نعني به ذلك الزمن الذي يجلس فيه المؤلف ليكتب سيرته الذاتية، وهو زمن يعتمد في الدرجة الأولى على استعادة الذكريات بوساطة الذاكرة، وربما يسندها المؤلف بوثائق أو مذكرات خاصة يحتفظ بها لهذه الحالة.

إن زمن كتابة السيرة الذاتية زمن يطل فيه المؤلف على أحداث خبرها ومر بها في ماضي عمره، أحداث اختار أن يستلها من شريط ذكرياته ليقدمها للآخرين في شكل سيرة.

يلجأ كثيرون إلى كتابة سيرهم الذاتية في نهاية العمر، عند اقترابهم من الرحيل. فكتب ميخائيل نعيمة سيرته الذاتية "سبعون" وهو في السبعين من عمره، وكتب إحسان عباس سيرته "غربة الراعي" وهو في السادسة والسبعين، وكتب محمود السمرة سيرته" إيقاع المدى" وهو في الثالثة والثمانين. كما أصدر محمد داودية سيرته الذاتية "من الكسارة إلى الوزارة"، وكذلك عبد القادر الرباعي "حكاية وشم " هذا العام وقد تخطيا السبعين من العمر. هكذا يبدو أن العمر الذهبي لكتابة السيرة الذاتية هو السبعون وما بعدها.

لكن لماذا يتجه الناس إلى كتابة سيرهم الذاتية في وقت متأخر من العمر؟

يذكر بعضهم في مقدمة سيرته أنه يكتب سيرته من أجل أن تنتفع الأجيال بما جاء فيها؛ فهو خبر الحياة على مدى سنوات طويلة، نجح في مواضع وفشل في أخرى، وهو يرغب في أن يضع خلاصة تجربته أمام الآخرين ليسلكوا الطريق السليمة التي اتبعها في نجاحه، ويتجنبوا الأخرى التي لم يحالفه الحظ فيها.

قد يكون هذا صحيحًا، ولكن الأصح أننا نكتب سيرتنا الذاتية لأسباب ذاتية بحتة؛ فالمرء في عمر متقدم، وقد وهن عظمه، وابيض شعره، وأدرك أنه يسير نحو نهايته؛ فلم يعد يتقن غير استعادة الذكريات، يكررها على مسامع من حوله، ويتلذذ بذلك. وهو والحالة هذه لا بد أن يفكر في كتابة سيرته، فما عليه إذا كان قادرًا على الكتابة إلا تدوين ما يقوله على شكل سيرة.

ومما يغرينا في كتابة سيرتنا الذاتية في عمر متقدم الرغبة في الخلود، واستمرار ذكرانا بعد الموت الذي يقترب منا، كما أن لدينا الرغبة في كشف حقائق لم نتبينها إلا في هذا العمر. فتوجد أخطاء لا بد من إظهارها والاعتراف بها؛ لتنظيف ضمائرنا، أو على الأقل لتخفيف آثارها علينا، كما فعل جان جاك روسو في اعترافاته. كما توجد في ماضينا أحداث لم نستطع أن نفسرها، ونتبين أسبابها إلا في هذا العمر، ويوجد أناس نحنّ إلى تذكرهم، ونرغب في أن نعيد إليهم بعض الفضل، وفي المقابل يوجد أناس نرغب في كشف سيئاتهم لنخفف من إحساسنا بالألم والمرارة. فليس غير فن السيرة من يحقق لنا تلك الأهداف؛ لأنه الفن الكتابي الأقوى من غيره من أجناس الكتابة على البقاء والانتشار والتأثير، وبواسطته نستطيع أن نقدم حياتنا للآخرين كما نراها نحن؛ أي حسب رؤيتنا وتفكيرنا.

كما لا نعجب أن يكتب كثيرون السيرة الذاتية في السبعين أو الثمانين؛ فلن يلحقهم وهم في هذا العمر؛ جراء ما قد أبدوا ما تتطلبه السيرة في العادة من صراحة، وجرأة، وصدق البوح، كثير من اللوم أو العذاب. وإذا ما حدث ذلك فسيكونون قادرين على الاحتمال فيما تبقى لهم من حياة.

في النهاية نقول: إن كتابة سيرتنا الذاتية في أي زمن نرتئيه، تواجهها في مجتمعنا العربي مصاعب جمة، فالسيرة فن لا يتطلب القدرة الإبداعية فحسب بل أيضًا القدرة على الصدق والشفافية والصراحة والموضوعية، والبعد عن النفاق والمبالغة والتملق، وهي صفات من الصعوبة أن تتوافر في مجتمعاتنا العربية.

لكن يظل أفضل زمن لكتابة السيرة الذاتية هو زمن الشيخوخة، زمن السبعين فصاعدًا؛ فهو زمن الحرية، والتحرر من الخوف، وفهم الحياة على حقيقتها الصادمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى