المقاهي الطاهر حمزاوي - «من الشاي إلى الأتاي»..تاريخنا الاجتماعي الذي يدل علينا.. يسلط موضوع الشاي الضوء على المجتمع المغربي في ثوابته وتحولاته

"من الشاي إلى الأتاي..العادة والتاريخ" لعبد الأحد السبتي وعبد الرحمان لخصاصي من الكتب الهامة والمميزة التي لاقت إقبالا من طرف المتخصصين وبقية جمهور القراء،
ولم يكن مفاجئا أن يكون الطلب عليه واضحا خلال الدورة الأخيرة لمعرض النشر والكتاب بالدار البيضاء، وهكذا بعد طبعته الأولى سنة 1999 عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ودار أبي رقراق للطباعة والنشر، طبع الكتاب طبعة ثانية في سنة 2012.
في مقدمة الطبعة الثانية يتحدث المؤلفان عن فرضية الكتاب :»انطلقنا من فرضية مفادها أن المغرب يغادر»عصر الأتاي»، ومعناه أن الشاي أصبح مشروبا روتينيا، وفقد بطريقة تدريجية شحنته الطقوسية ودلالاته الرمزية. وعبر التنقيب في مختلف أنواع المصادر والنصوص، تبين لنا من جانب آخر أن الشاي دخل إلى المغرب في أوائل القرن الثامن عشر، وأن شرب الشاي في إطار الفضاء العائلي وطقوس الاستقبال والضيافة جاء في زمن متأخر، وأن انتشار الشاي عبر مناطق المغرب وفئاته الاجتماعية تطلب عقودا عديدة، ولم تكتمل هذه السيرورة إلا في العقود الأولى من القرن العشرين. وفي مستوى آخر، تبين أن الشاي لاقى في البداية مقاومة من جانب الفقهاء الذين واجهوه بالتحريم، مثلما واجهوا القهوة والتبغ وآلة الغراموفون وغيرها..».
لكن المقاومة لا تفتأ أن تصبح حبا لا يمكن التخلص منه ليصبح الشاي مقترنا بالمغاربة الذين تفننوا في إعداده، حتى كتبت فيه القصائد وتغنى به الفنانون. لكن غاية الدراسة لم تكن هي سرد كرونولوجي لتطور محطات علاقة المغاربة بهذا المشروب السحري، وإنما لكشف جوانب أخرى في المجتمع. يكتب المؤلفان «عوض أن نتناول استهلاك الشاي من منظور اقتصادي محض، اعتمدنا نافذة النصوص للقيام بعملية الملاحظة الإثنوغرافية والتحليل الأنثربولوجي الذي بحث في دلالات الطقوس ولغة الجسد». وبذلك «أمكن فتح الجسور بين الحياة اليومية والمجتمع والذاكرة. وإلى جانب ذلك، ساهمنا في مصالحة التاريخ مع الأدب والغناء، بحيث يشتغل النص الشعري والغنائي كوثيقة في كتابة تاريخ الممارسة الاجتماعية وتاريخ الصور والاستعارات والأحاسيس التي تعبر بقوة عن التجربة الجماعية». هكذا فإن موضوع الشاي سيكون طريقا نافذا لفهم المجتمع المغربي في كافة تحولاته. ومن ثمة تأتي فرادة هذه الدراسة «هكذا فهمنا، بعد حين، أن موضوع الشاي يسلط الضوء على جوانب مختلفة تهم المجتمع المغربي في ثوابته وتحولاته. فهناك بنية الدولة المخزنية التقليدية، والبنية الاجتماعية والمجالية، وأشكال التبادل، وأساليب التغذية، ومقومات الذوق، وفضاءات المعاشرة، والعلاقات بين الرجال والنساء، وخصوصيات التدخل الاستعماري الأوروبي، وردود الفعل تجاه الجديد والدخيل. وبالتالي فالشاي يمثل «ظاهرة اجتماعية كلية» حسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس».

هذا الكتاب من هذا المنظور لا يتوقف عند ما أصبح بحكم التداول الواسع مجرد عادة لا تثير السؤال، بل هو بحث في الثقافة «العالمة» المرتبطة بالمكتوب، وفي الثقافة «الشعبية» المرتبطة بالأداة الشفوية، حيث يظهر التعارض بين تصورين مختلفين انطلاقا من موقعين اجتماعيين، وهما «الخاصة» و»العامة». نقرأ في مقدمة الطبعة الأولى «نشأت فكرة إنجاز هذا الكتاب في أحد صباحات خريف سنة 1990، خلال جلسة دردشة وتعارف عقدناها في مقهى «الجمرة» بمدينة الرباط. وقد دار الحديث عن اهتماماتنا في مجال البحث، وتوقفنا عند موضوع العلاقة بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية، حيث لاحظنا أن الاقتراب من النصوص يدعو إلى إعادة النظر في التعارض بين الثقافتين، وإلى رصد ما يقع بينهما من تبادل وتقاطع». وتأسيسا على ذلك، فإن الدراسة بقدر ما تقدم معلومات وسردا تاريخيا تقدم نصوصا ارتبطت بهذا المشروب العجيب، فالشاي مشروب وطني بدأ استهلاكه والتغني به في أوساط النخبة قبل أن يصبح المشروب المفضل لدى الجمهور. ومن يكتب المؤلفان «نحن لم نخصص لموضوع الشاي دراسة مستفيضة، بل تعمدنا التوفيق بين التناول التاريخي والتناول الثقافي والأدبي».
مشروب عجيب حرمه الفقهاء
انتشر مثل الحقيقة
في الاستهلال لقصة الأتاي يورد المؤلفان مقطعا من كتاب إسحاق ديسرائيلي من كتاب «طرائف الأدب» 1790: «لقد انتشر الشاي بطريقة تذكر بطريقة انتشار الحقيقة. ففي البداية، كان المشروب الجديد موضوع تشكك عند البعض، ولم يعرف لذته سوى من تجرأ على تذوقه. وتمت مقاطعته في الوقت الذي عرف فيه طريقه إلى الاستقرار. وطعن فيه البعض في الوقت الذي اتسعت فيه شهرته. وانتصر الشاي في النهاية بفضل مزاياه الخاصة ومفعوله الذي لا يقاوم». وبهذه الطريقة انتشر الأتاي في صفوف المغاربة، بعد أن عبر محطات، وواجه صعوبات عدة وهو يتغلغل في جغرافية المغرب، وما صاحب ذلك من مواقف متباينة بين التحلية والحرمة من المنظور الفقهي، وكذا مضار ومنافع الإقبال على تناول هذه المادة. كل هذه المحطات يتتبعها المؤلفان، مذكرين بإيحاءات ذكر كلمة «الشاي» لدى المغاربة، وما تحمله من مضامين روحية ودينية، وكذا ارتباط تناول الشاي في مراحل ظهورها الأولى بالرجال دون النساء وتصنيفه كمشروب رجولي.
وقد بدأ الاحتفاء بالشاي في المجال الفني في المسرح بالمغرب، ثم انتقل الأمر إلى الأغنية، خاصة مع مجموعة ناس الغيوان في أغنية «الصينية» التي ذاع صيتها. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل انتقل إلى السياسة، إذ لم يكن الأتاي بعيدا عن الساحة السياسية الوطنية والدولية، بل كان في إحدى لحظات التاريخ عنصرا مؤثرا في التحولات الدولية الكبرى ولعب أدوارا رائدة في موجات الاستعمار العالمية، إذ «سبق لآخرين أن وظفوا نفس الموضوع في أواسط الستينات، في أغان دعائية كانت تخاطب المغاربة في تعددهم الجهوي، وتدعو إلى شرب المزيد من الشاي من أجل استهلاك المزيد من السكر، وذلك تلبية للقرار الملكي برفع ثمن السكر..». وبحضور الشاي في مجالس الحكام والساسة، «كأناس غير عاديين»، وعلى اعتبار أن إنتاج الطقوس والرموز تنطلق من بين أيدي السلطان، فقد كان للمخزن المركزي دور كبير في تغلغل الشاي في المدن والقرى والمداشر المغربية، وبالتالي التأسيس لاستهلاك الشاي، الدور الذي لم تنتظر السيادة المغربية طويلا كي تؤدي ثمنه الباهظ، وهنا المفارقة الغريبة التي يتحول معها الشاي إلى عنصر أساسي في دخول الاستعمار بالمغرب، وبالتالي خلق عادة مثيرة، إلا أن سلاح الشاي لم يكن فقط حكرا على القوى الاستعمارية في جميع المستويات، بل كان كذلك، في مستويات أخرى مخالفة، سلاحا للسلطان يخضع به القبائل.
الأتاي يطرق الأبواب
ثم يستقر
الشاي، كما هو معروف، مكانه الأصلي هو الصين، لكنه سينتشر عبر أزمنة في العالم، فقد وصل إلى أوربا في القرن السابع عشر، ثم دخل إلى المغرب، عن طريق الإنجليز، في مطلع القرن الثامن عشر، في عهد السلطان إسماعيل، حيث استعمل أول الأمر كدواء، وظل طيلة القرن الثامن عشر مقتصرا شربه على المخزن ودوائره، حيث كان من الهدايا التي تقدم من الأوربيين إلى السلطان وحاشيته.
لقد بقي الشاي في بداية القرن التاسع عشر منحصرا في البلاط وفي أوساط علية القوم. لكنه سيعرف في أواسط القرن التاسع عشر انتشارا في الوسط الحضري وفي سنوات 1860-1878: سيتوسع انتشاره ليمتد إلى البوادي المجاورة للحواضر. أما 1880-1892فيشمل مختلف البوادي المغربية. ولم يعد هذا المشروب السحري في متناول الجميع، إلا ابتداءً من الأربعينيات من القرن العشرين.
الأتاي..هدية وسلاح
ينتصر على الجميع
لعب الشاي الصيني الذي سوّقه الإنجليز بالمغرب، الدور الأساس الذي سهل التغلغل الرأسمالي الأوربي، والإطار الذي توسع فيه الاقتصاد النقدي.
ومن جهة الغذاء فقد مكن الشاي الحلو من الحصول على وحدات حرارية مهمة، بل أصبح المشروب الجديد مع مرور الزمن غذاءً تعويضيا في الأوساط الشعبية، كما تشهد على ذلك مائدة الفقير المكونة من «الخبز وأتاي». وعلى مستوى الرمز، اقترن الشاي في مخيال المغاربة بالجماعة والأنس والضيافة. كما أنه اقترن في المخيال بهدية الأوربيين للسلطان، وهدية السلطان لكبراء القبائل وشيوخ الزوايا قصد «إلغاء الحواجز وتيسير التواصل»، بل كذلك «لإبطال المقاومة وترسيخ روابط التبعية». كما كرس طقس الأتاي وإقامته مظاهر التراتب الاجتماعي إلى حد الإقصاء. فتحضير الشاي استلزم أوصافا محددة، مثل الوقار والاتزان والأناقة. وفي المقابل كانت إقامة المشروب محظورة على العبد والحرطاني والمعتوه.

من جهة أخرى، شكل تناول الشاي في المغرب لحظة انتقال من عصر «الحرية» إلى عصر الاستعمار والتبعية. إذ نظم إبراهيم أولحسين نايت إخْلف قصيدته الأمازيغية عام 1893، عبر من خلالها عن دوامة الإفلاس التي دخل فيها المواطن، كما رأى فيه خطة نصرانية لاحتلال البلاد وامتصاص موارده:
«غلا سَوْم السكر والشاي إلى ما لا يُطاق
بسَط المُعدم آنية الشرب
عدم الدرهم وتحمل الدين
ما يقضي دَيْنا حتى يسقط في ديون
إذا لقيَ الدائن ذاق أمامه المذلة
أضاع القوم الحُب وأذابوه في الماء
أفسد علينا الشاي عمل الخير وبدّل حال ذوي المزايا
من لم يشربه عُدّ في البطّالين
الشعير كَيْلُكَ المعَوّل
عليه، أما الشاي
فلأن الرومي يعرف أنك عَدُوُّه، فهو يرجمك بحجارة المدافع
والشاي بارودُها، وهو يعرف كيف يسدد
والعدو يضرب في البطن، وفيه الجراح القاتلة
أرسل علينا الرومي باخرتَه وألبسها الملاحف الزرقاء
أصابكم الرومي على مهلٍ بقوالب السكر».
يكتب المؤرخ محمد المغرواي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط عن الطبعة الأولى «من الشاي إلى الأتاي» أنه «قصة النبتة الصينية التي أصبحت قضية مغربية، حاول الزميلان الأستاذان عبد الأحد السبتي وعبد الرحمان لخصاصي تتبع جذورها وامتداداتها في الزمن والمجال والمجتمع، وفي المتن الفقهي والإبداعي وبين دفاتر التجارة وملفات الدبلوماسيين، وعلى مائدة المخزن وحلق الصوفية، وفي فضاءات رياضات سلا وفاس ومراكش، وفي مجالس أهل القرى والدواوير، فغدت قضية الشاي في هذا الكتاب أكبر من مجرد مادة للارتشاف والانتشاء اليومي واكتسبت صبغة قضية يؤرخ بها ولها». أما المؤرخ محمد حبيدة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة فيكتب عن الكتاب «يثير نموذج الشاي مجموعتين هامتين من القضايا المعرفية، الأولى فعالية المعالجة الإثنولوجية للتاريخ، فالتاريخ ليس فقط حفرا في الوثيقة المكتوبة، بل أيضا تحقيق، والتحقيق يستلزم النزول إلى الميدان، والثقافة الشعبية ميدان. فكما يقول بول فين: «حتى وأنت تتجول في السوق قد تلتقط إشارات تاريخية». وبخصوص الثانية فيقول: «الثانية: تاريخ التغذية كملتقى للتاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي
وتاريخ الأنساق الثقافية».»



الطاهر حمزاوي
نشر في المساء يوم 27 - 04 - 2013

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى