عبد الرحيم التدلاوي - الثراء الثقافي المغربي في رواية"تراتيل أمازيغية " للكاتب مصطفى لغتيري.

قدَّم الكاتب مصطفى لغتيري في روايته “تراتيل أمازيغية” الصادرة في طبعتها الثانية سنة 201 عن غاليري الأدب، قصة مملكة أمازيغية مزدهرة، حيث تنسج علاقة قوية بين أميرها ـ الذي سيصبح فيما بعد ملكا ـ مع أمير إفريقي اختطفه النخاسون وباعوه في المملكة الأمازيغية.
لقد كان الأمير الإفريقي هبة سماوية أنقذت غيلاس من وحدته القاتلة بعد أن لم يجد في أبناء قبيلته من يصلح صديقا له بسبب خوفهم منه وتقديسهم لشخصه.
جاء الأمير الإفريقي مصادفة إلى مملكة الأمازيغ في قافلة تتاجر بالبضائع والبشر، ولما وقع نظر الأمير الأمازيغي عليه، شعر أنه إزاء الصديق المنشود، فاشتراه وحرره، وسماه أوسمان، ليصير أخا روحيا له، ويزوجه أخته، ويقيم له عرسا في اليوم نفسه الذي أقام فيه عرسه.
و تذكرنا صداقتهما بصداقة جلجاميش وإنكيدو. سيواظب الأميران معا على التزود بالعلم من الحكيم «ايفاو» الذي سيطلعهم على أخبار الشعوب وعاداتهم فيحفزهما ذلك للقيام برحلة طويلة، يكتسبان خلالها معارف كثيرة وخصالا حميدة، تتوطد علاقتهما أكثر فيهديه أوسمان صدفة، ستكون تميمة غالية، ويهديه بدوره نجمة في السماء، يعودان للقبيلة بتجربة صيرتهما قويين ومختلفين، ليفاجآ بموت الملك.
‎ يتوج غيلاس ملكا للبلاد، ويتخذ أوسمان وزيرا له، ويزوجه أخته «تورين» وقد كان اختطاف الرومان للأميرة «توسمان» خطيبته، منعرجا مهما في سير الأحداث وفي تاريخ الملك نفسه حيث سيقرر تحرير ابنة شيشنيق، ويلقن الرومان درسا قاسيا جعلهم يعيدون النظر في أحكامهم للشعوب المخالفة، وأساسا الشعب الأمازيغي، وهو ما تحقق بفضل ما أبداه صحبة وزيره وبقية الفرسان من شجاعة وتفان في الدفاع عن الحرمات.

سيعيش الصديقان حياة ملؤها العلم والمغامرة والتحدي والغزو والقدرة على تكبيد المستعمر أفدح الخسائر، إلى أن أتى خنجر الغدر ليضع حدا مأساويا لهذه الصداقة التي عبر فيها وسمان عن وفائه التام لملكه غيلاس بعد أن تعرض للطعنة حماية له.
من هنا، قرر الملك غيلاس الحرب على المعتدين إلى أن يتم طرد المحتل بتوحيد القبائل الأمازيغية المتفرقة والمرعوبة من الغازي.
تحكي الرواية، إذن، انخراط الأميرين في حرب استنزاف ضد الغزاة الرومان الذين عاثوا في الأرض فسادا، وخاصة بعد اختطافهم لأميرة أمازيغية، فقدم الأميران دروسا بليغة في البطولة والنجدة وكرم الأخلاق.
ويمكن اعتبار الرواية قبل أن يتم دسترة اللغة الأمازيغية صرخة ضد الإقصاء، ودعوة لقبول الاختلاف وذلك بالاعتراف الكامل بهذا المكون الأساسي للهوية المغربية، وإدماجه إدماجا كاملا في حياتنا.
لقد عالجت الرواية موضوعا غير مطروق من قبل في المشهد الروائي والأدبي ببلادنا، وهو ما يؤكد أن المبدع لغتيري في بحث مستمر عن تيمات جديدة، تبعد عنه شبح النمطية خوفا من السقوط بين براثن تكرار نفسه من خلال الكتابة في نفس الموضوعات المطروقة؛ فقد تناول مجموعة من التيمات تعد ضمن المسكوت عنه أو اللامتحدث عنه، من قبيل المثلية بشقيها.
كما تطرق لموضوع العنصرية، وموضوع الحدود بين الدول ، وخاصة بين الشقيقين المغرب والجزائر، كما تطرق لهيمنة الفكر الخرافي على الذهنية المغربية والعربية.
تجمع الرواية بين ثلاثة أبعاد، وهي: البعد التاريخي، والبعد الواقعي، والبعد العجائبي، في تركيبة ذكية، تسعى إلى إثارة موضوع مهم ألا وهو التنوع، والثراء الذي تعرفه الثقافة المغربية، وتدعو إلى الحفاظ على اللحمة المغربية بالاعتراف بكل المكوانت المشكلة له.
ويظهر العجائبي في دور الصدفة والنجمة في سير الأحداث وتطورها؛ فالصدفة مكنت الأميرين من النجاة من الكائنات الممسوخة، الشوهاء والمخيفة، والنجمة من نجاة غيلاس الملك من قبضة الرومان والاستعداد لتحرير الأميرة وبقية أتباعه، وهو ما تحقق. فتدخل العنصرين العجائبيين كان بغاية استمرار الأحداث وتطورها والسير بها قدما باتجاه النهاية التي ظلت مفتوحة.
يمكن اعتبار مغامرة الصديقين في مدينة النحاس وما جرى لهما فيها بمثابة استباق موجز لما سيقع مستقبلا، وبالأخص، زرع وتأكيد دور غيلاس في توحيد القبائل الأمازيغية. وهو استباق لم يكسر بينة السرد السائر صعدا باتجاه النهاية الدرامية، التي تجلت في مقتل أوسمان بخنجر الغدر، وبقيت مفتوحة على الوعد الذي قطعه الملك غيلاس على نفسه، من جهة، وانتظار تحقق النبوءة بتوحيد القبائل من جهة أخرى.
لقد جاء السرد بضمير المتكلم الشاهد على الأحداث، ونهض به غيلاس أميرا وملكا، ولم يفلت قبضته عن السرد إلا للجدة والحكيم لكونها خير شاهد عما يسردانه. بمعنى أن غيلاس حين تغيب عنه الأحداث ولا يكون ملما بها يفسح مجال القول لغيره لملء الفجوات. فالجدة، مثلا، تحكي، باعتماد الأسطورة، كيف صار جده البعيد ملكا على مملكة الأمازيغ، هو المطرود من قبيلته؛ فقد وجد الطريق مفروشة للملك في وجهه؛ بعد أن أبدى شجاعة في تخليص الحيوان ومقارعة الفرسان الذين سعوا إلى الفتك به، فكان الرجل المناسب ليتولى ملك الإمارة الأمازيغية التي توفي ملكها ولم يعثر على من يخلفه، وقد لعب حكيم تلك القبيلة دورا في هذا التتويج. وبذلك تحقق للجد ما وعدته به أرواح الأجداد حين خلص الحيوان من القتل.
ختاما:
تخوض رواية "تراتيل أمازيغية" كما سابقاتها غمار طرق موضوع مسكوت عنه، وتخرجه من صمته إلى فساحة الكلام، بلغة بسيطة وسرد مشوق، يعتمد على المغامرة والحرب.






مصطفى.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى