مناف كاظم محسن - اللحظة الفاصلة

وقف على جانب الشارع الرئيسي. لقد حجز لدى طبيب الأطفال لابنته التي دخلت عامها الرّابع . طلب إجازة زمنيّة من عمله ووقف الآن في انتظار وصولهما معا, هي وأمّها على رصيف الشّارع العام المحاذي لعيادة الطبيب. السّاعة تقترب من الثالثة والنصف عصراً. السّماء ملبدة بالغيوم , والبرد القارص يتغلغل في العظام. ليلة البارحة لم يستطيعا النّوم, هو وزوجته, لقد أتعبهم السّهر معها. سعالها جافاً يستمر دونما توقف حتى تقترب من الاختناق. وعندما يحمرّ وجهها وتتسع عيّناها من شدة السّعال يحتضنها بخوف, شاعراً بالارتباك كلّما أحس بأنها ربما تموت بإحدى هذه النّوبات الحادّة الكريهة. لقد وبّختها امّها كثيراً عندما ابتدأت نوبات السّعال تتزايد, طالبة منها أن تقلل من حركاتها, أن تهدأ قليلا حتى تزول عنها هذه النّوبات المخيفة. لكنّها لم تتوقف عن اللعب والرّكض في أنحاء المنزل. حركتها مستمرة, مما زاد من سعالها. لقد اعتادت النّوم على ذراع أبيها. اعتادت زوجته ان تقول له بأنّه سوف يفسدها بعمله هذا. لكنّه لم يكترث بكلامها. فقد كان يحبُّها ... يحبٌّها جدا . يحبُّ كلامها, حركاتها البريئة ووجودها الذي انتظره ثمانِ سنوات. نعم لقد مرّت ثمان سنوات من الحرمان, ثمان سنوات واجه فيها الكثير من نظرات الشّفقة, والكثير من تدخل الآخرين الذين يفرضون أنفسهم عليه. يتصورون انّهم بذلك يحسّون بمعاناته, ويقدّمون له المساعدة. بينما في الحقيقة تمنى لو أنّه يستطيع أن يقول لهم الواحد بعد الآخر ((هذه حياتي الخاصّة وأنا أرفض من أيّ أحد منكم التدخل فيما لا يعنيه)), لكنّه لم يستطع أن يقول ذلك. لقد أقنع نفسه بأن أخلاقه لا تسمح له أن يكون فظّاً مع الآخرين. لم يكن عقيماً, ولم تكن زوجته كذلك. كلّ الفحوصات أثبتت أنّهما طبيعيان مثل بقيّة الأزواج. ربما لم يحن الوقت بعد, ربما بسبب عوامل نفسية, وربما بسبب عوامل روحيّة, يعرفها الروحانيّون فقط, ولا أحد غيرهم من له المقدرة على أن يفعل شيّء لهما, يجعلهما ينجبان طفلا يزرع لهم البهجة في أيامهما ولياليهما, مزيلا عنهما كلّ هذا الفراغ القاتل. في البداية رفض بشدة الذهاب الى الروحانيين أو ذهاب زوجته مع امّها اليّهم. لكنّه رضخ أخيرا, ووافق على أن تذهب مع امّها, عندما رأى تأثير الحزن والكآبة عليها. ليال طويلة يسمع بكاءها عاجزاَ عن فعل شيء يزيل كلّ ذاك الحزن عنها. ولكنّ دون جدوى. لم يستطع حتى الروحانيون على فعل شيء لهم. ظلّوا عاجزين أمام حلمه أن يكون أباً, وعن ازالة جزءِ يسيرِ من أحزان زوجته التي بدأ اليأس يتسرب إلى نفسها وصارت تحسّ انّها لن تكون امّا أبداً, وسوف تموت هكذا, تملؤها الحسرة لاحتضان طفل يخصها هي, هي وزوجها. رفض بشدة طلب امّه أن يتزوج بأخرى. لكنها أصّرت عليه أن يتزوج مرّة أخرى. لكنّه لم يتنازل عن موقفه مؤكّدا لأمّه بأنّ الله سوف يجازي صبره خيراً. الآن وبعد مرور أربع سنوات وخمسة أشهر على ولادة ابنته, تذكّر فجر ذلك اليوم عندما أيقظته إمّه وهي مضطربة جداً, وجهها مشع يعكس فرحاً طفولياً, قالت له ((لقد رأيت رؤيا.... زارني أبوك في المنام حاملاً معه طفلة وجهها كفلقة القمر قائلاً هذه حفيدتك التي انتظرتموها كلّ تلك السّنين, سوف تكون معكم بعد اثني عشر شهراً)). سجلت زوجته تاريخ ذلك الفجر المبارك, متأكدة من صحّة كلام عمّتها, بينما بقي هو ينظر الى فرح امّه واضطرابها ببلاهة, معتقداً في نفسه بأنّ ذلك ما هو الّا هلوسة, أو ربما أضغاث أحلام. لكن بعد مرور أشهر تأكّد من صحّة الرؤيا. منتظراً يوم ولادة زوجته بفارغ الصبر. الأيام تمرّ بطيئة والأشهر كأنها دهر. الانتظار ثقيلاً جداً. تمنّى لو تمرّ الأيام سريعاً وتأتي السّاعة الموعودة. ولن ينسى مهما مرّت عليه الأيام والشّهور والسّنين تلك اللحظة السّعيدة جداً, عندما وضعوا بين يديه طفلته. ملفوفة بالقماط ووجهها مشعٌّ كأنّها طير من طيور الجنّة، تبكي، أحسّها كملاك مسح على قلبه المضطرب فصار يفيض حبّاً وحناناً. سألته عمّته ماذا تسمّيها. ((انتظار)) أجابها دون تردد. لقد انتظرناها كل تلك السنين العجاف, لكنّها الآن أعطت لوجودنا في هذا العالم معنى.
ابتسم دون أن يدري, وهو يرى عبر الشّارع عندما وقفت سيّارة الأجرة ونزلت منها زوجته وابنته التي ما أن رأته حتى صاحت ((أبي)) راكضة تريد أن تعبر الشّارع لتكون قربه. صاح بها أن تقف بمكانها ولا تتحرك لكنّها لم تنتظر. أفلتت يدها من يد امّها وركضت باتّجاهه, رغم وجود السّيارات المسرعة في الشّارع. لحظة تشبه الكابوس فعلا. لم يستطع أن يلحقها, ركضت مسرعة لا ترى أحداً أمامها غيره, من دون أن تلتفت جانبا لترى السّيارة المسرعة القادمة باتجاهها. لم يستطع السّائق أن يوقف السّيارة الّا بعد أن ارتطمت بها, فارتفعت في الهواء مثل الرّيشة ثم سقطت على زجاجة السّيارة الأمامية, وتدحرجت ليرتطم رأسها على رصيف الشّارع. احتضنها أبوها بكلتا يديه. رأسها مضرجاً بالدماء. لم يعرف ماذا يفعل وهو يرى الدّماء تخرج من فمها مع كل نفس تأخذه بصعوبة. رمت زوجته نفسها فوقه صارخة, مرتعبة مما تراه أمامها, لكنّها لم تسطع أن تفعل شيئا سوى الصّراخ غير المنتظم. اسود العالم أمامه, وصار يحركها مثل المجنون, طالبا من الله ألاّ يأخذها منه, بعد كلِّ تلك السّنين من الانتظار, بعد كلِّ تلك اللّيالي من المرارة وهو ينصت عاجزاً لبكاء زوجته. لكنّها الآن بين يديه مغسولة بالدّماء, تنظر اليه بعينين مذهولتين ولا تستطيع أن تنطق بكلمة واحدة. وكلّما أسرعت أنفاسها كلما خرجت الدماء متدفقة من فمها.
((أبي)) أيقظه صوتها المحبوب فتلاشت كلّ تلك الخيالات في العدم. نظر اليها فرحاً, ناسياً كلّ ذلك الألم الذي أحسّه قبل قليل عندما أخذه خياله الى الخط الفاصل بين الحياة والموت. لقد رآها الآن, تمسك يد امّها, نازلتين من سيّارة الأجرة. انتبه اليها وهي تحاول أن تفلت يدها الصغيرة من يد امّها كي تعبر الشّارع اليه. صاح عليها أن تقف بمكانها, وركض بكلّ سرعته اليها, لا يبصر أيّ أحد أمامه غيّرها, هي فقط, ولا أحد سواها. لم يلتفت جانباً كي يرى السّيارة المسرعة باتجاهه. ارتطم بالسّيارة فارتفع جسمه عاليا في الهواء ثم سقط على زجاجة السّيارة الأمامية, فتدحرج ليرتطم رأسه على رصيف الشارع. أغتسل رأسه بالدماء. حاول ان يرفعه ليرى ابنته المحبوبة سالمة, لكنّه لم يستطع الرؤيا, شعر برأسه ثقيلا جداً, والأشياء صارت تبدو له مشوشة. أغمض عينيه مستسلما لآلامه, فأصبح كلّ شيء من حوله مصبوغا بالأسود.

مناف كاظم محسن
البصرة - العراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى