سحبتني السيدة من يدي لتدفع عني الحرج، وعبرت بي الطرقة الضيقة، وهي تتفادى بمهارة الاصطدام بأثاث البيت الصغير، تفعل ذلك كامرأة علقت سنواتها بسخاء على جدران هذا البيت.
أشعر بيدها ترتجف، أصابع ممتلئة خشنة، تليق بربة بيت. في الحجرة ضوء خفيف يتسرب من خصاص الشيش المغلق، ورائحة لم أميزها أبداً.
وقفتُ عند الباب فيما تحركتْ هي في اتجاه السرير، انحنتْ بجسدها قليلاً وهمست باسمِه، مرة واحدة: حمدى.
عادت بوجه حزين إليّ وقالت: نائم.
اقتربتُ قليلاً، وتأملتُ وجهه الشاحب ناتئ العظم، والهالات الدكناء حول عينيه اللتين لم أعرف إنْ كانتا مغلقتين أم مفتوحتين. مددت يدي ومسحت برفق فوق شعره الملبد بالعرق، وجبهته الدافئة. عندما توجهت للخروج لم أفكر في مصافحتها، فما رغبت في ملامسة تلك الارتجافة الخشنة مرة أخرى.
عند الباب قالت بهذا الصوت الهامس: رمضان كريم .
بمجرد أن عبرتُ الشارع، رأيتهم يجلسون في مكانهم المعتاد. من بعيد بدا لي أحمد طه بقامته الطويلة، وبشرته السمراء. ربما كان يبحث عن مقعد، فيما جلس عيسوي بجوار عبد اللطيف، وهو ينفث دخان الشيشة من فتحتي أنفه الواسعتين. وحين جلستُ، كانت أكواب الشاي مازالت تصعّد بخارها بهدوء.
دون أن ينظر إليّ، مد مبسم الشيشة ناحيتي، فتناولته في صمت. حينئذ وضع صبى المقهي كوب الشاي الرابع بمجرد أن رآني.
كنا نرقب حركة الشارع المصطخب بنظرات مصمتة، ولم يكن مباغتاً لنا هذا الاصطخاب في شارع كهذا، غير أن حركة الناس بدت أكثر نزقًا وتوترًا، ربما يشعرون بالقلق بشأن الغد.
بين كل هذه الضوضاء، كان صوت أغنية وحيدة يتميز بترنيمة جنائزية في وداع رمضان، ربما تخرج من كل البيوت والمحال في لحظة واحدة: “والله لسه بدري.. يا شهر الصيام” تبدو كنداء كوني ينطلق في الجو بلا حدود.
أخيرًا، تكلم عبد اللطيف، وقال إنها مهزلة أن نواجه كل سنة بهذا الاضطراب في تحديد موعد العيد.. وتمنى ألا يكون العيد غدًا.
قال بقلق إنه لديه جزءان من القرآن لم يختمهما بعد.
وحين أحس أن أحدًا منا لا يشاركه قلقه بشأن العيد صمتَ. تحرّج أحمد طه وقال على سبيل المشاركة: فعلاً .. الأيام بتجري.
لابد أن عيسوي أكثرنا افتقاداً لحمدى، فعيسوي هو الذي علمه لعبة الشطرنج، ولابد أنه في لحظة ما ندم على ذلك، حين اكتشف أنه علم إنسانا شيئاً رهن عليه كل حياته، أدمنه حتى راح يقامر بكل شيء ليشهد موت الملك، ولابد أيضًا ندم لما أدرك أنه خلق لنفسه منافسًا عنيدًا ومتفوقًا عليه في أغلب الأحيان، وعلى أية حال، كان هو الوحيد بيننا الذي يشارك عيسوي هذه اللعبة بعدما أطلق أحمد شكري لحيته وحرم على نفسه لعب الشطرنج، ثم شيئا فشيئاً حرم المقهي، حتى اختفي تماماً أو ذاب بين آلاف الوجوه المطموسة، ولم يعد من المتوقع أن نراه ثانية إلا في مشهد مأساوي كذلك الذي رأينا فيه فواز مطاوع، على صفحات الجرائد، مقتولاً بالرصاص.
لم يرفع عيسوي مبسم الشيشة من بين شفتيه حتى وهو يلتفت ناحيتي ويسألني: زرته؟
هززت رأسي، فقال: كلمك؟
قلت: كان في غيبوبة، لم يشعر بوجودي.
أعاد وجهه ناحية الشارع وقال بسخط: الحال من سيء لأسوأ.
كان يفاخر بأنه الوحيد بيننا الذي يحمل ذكريات الحرب بالقرب من قلبه؟ ويعرف أن هذه الشظايا تتحرك بإصرار ناحية القلب، ولا تمل بعد كل هذه السنين أن تسعى لقتله.
في الأيام التي يحلو لي فيها ذكر شيء عن الحرب لأبناء أختي، أو عندما يسألونني، كنت استعير جانبًا من حكايته، أفعل ذلك كلما انتهت حكايتي دون أن تثير في عيونهم دهشة ما، ويظلون يحتفظون بابتساماتهم الفئرانية تجاهي. حتى عندما أخبرهم أنه كان يمكن ألا يكون لهم خال لو أن هذه الشظايا اندفعت في اتجاه القلب بضعة مليمترات، لم يفكر أحدهم أن يسألني: إذن أين الجرح؟.
في واحدة من زياراتي، كنت أجلس بجواره على حرف السرير. كان غائصًا في جلبابه الأبيض النظيف، وكانت تلك الرائحة التي لا أميزها أكثر حضورًا. نجح في ابتسامة منحها لي وبسرعة أغمض عينيه، همستُ باسمِه فهمس باسمِي، وبدلاً من أن أبكي اعترفت له أني أستعير حكايته، أنسبها لنفسي وأحكيها لأبناء أختي، ابتسم من جديد وهمس بحروف لم أسمعها فقلت:
حروبنا لم تعد تعنيهم.
– وتبادلنا النظرات في صمت.
كانت زوجته قد حكتْ لي، كيف أصر على اصطحابهم لمبنى بانوراما الحرب، وهناك داهمته بشدة تلك الآلام التي تعاوده كلما فاحت في الجو رائحة رمضان، أو حتى ، كلما سمع صوت الشيخ رفعت.
ولا أحد يصدق أن طبيبًا لا يعرفه، أخرجه من بين الجثث التي تم التصديق بدفنها، ليعيش بقلب جريح عشرين عامًا.
قال عيسوي إنهم أهملوا علاجه حينها، كان يمكن إخراج هذه الشظايا .
قلتُ إن أخطار الجراحة، كانت كبيرة، وحين أخبروه بذلك رفض أن يقامر بحياته، مع أنه بعد ذلك قامر بكل شيء.
شَخَرَ عيسوي وقال إنهم حفنة قوادين، ولو كان واحدًا منهم لعالجوه في الخارج، واتهم أسامة عبد الله بأنه تخلى عنه لما كان في المستشفي. وحين قلت إن أسامة لم يكن يملك شيئًا له، شَخَرَ من جديد، وحسم أحمد طه الموقف بجملة مختصرة لما قال:
-نصيبه كده يا جماعة.
تذكرت أنني حتى الآن لم أرد على رسالة أسامة الأخيرة، برغم تأكيداته على الرد السريع. وكان في نيتي أن أرد قبل انتهاء رمضان لتكون مناسبة للتهنئة بالعيد. لم أكن قد أخبرتهم بعد بتلك الرسالة، فأنا أعرف أن رسائله لهم ظلت تقل شيئا فشيئا حتى توقفت قبل انقضاء العام الثاني على سفره، فيما ظل يرسل لي كلما احتاج أمرًا، إذ تصادف أننا عُيِنّا في مصلحة واحدة.
في الحقيقة، أسامة ليس واحدًا من الذين حرصت على استمرار علاقتي بهم بعد التسريح من الجيش، لكن في أول أيام استلامي العمل وجدته أمامي، كان حز البيريه ما زال في رأسه الحليق، وكنت أعرج بشدة بسبب ذلك الكالو الذي لازمني منذ أول يوم لبست فيه البيادة. وقتها تأكد لي أن مصائرنا جميعًا وضعت في زجاجة واحدة ألقى بها قرصان مجنون في المحيط.
في أجازته الأخيرة زارني أسامه لبضع دقائق، كان وزنه زاد كثيرًا. أطلق لحية خفيفة مع شارب، وتفوح منه رائحة مسك نفاذ، فبدا في فانلته (المانتيجو) أكبر من سِنِّه كثيرًا.
قال إنه في عجلة من أمره، وإنه ما جاء إلا ليسوي بعض سؤالات في الإدارة بخصوص تجديد الإعارة، وإنه كان يبغي لو جلس معي وقتًا أطول، هو هناك بخير لولا تلك الأخبار السيئة التي تأتيه من مصر، وتنغص عليه حياته لأن الأخوة هناك أكلوا وجهه لما وصلتهم أخبار اغتصاب فتاة العتبة.
تكرار كلمة (هناك) في كلامه يضايقني بلا سبب واضح، ولما قلت له إن موضوع فتاة العتبة مجرد حدث عادي في مدىنة بحجم القاهرة. امتقع وجهه وقال:
– أيش بيكم يا مصريين .. هادا الدم في عروجكم صار مويا؟
وقبل أن يودعني منحني مسبحة، وطاقية من الحرير المطرز، وقال: هدية من عند الرسول، فقلت: عليه الصلاة والسلام.
قال عيسوي: رمضان هذا العام ليس له طعم، وحتى العيد بلا رائحة.
ضحك عبد اللطيف، وابتسم أحمد طه، وحين نظرا إلي أدركت حجم المفارقة في الموضوع فابتسمتُ، فعيسوي هو آخر من يتكلم عن الروائح والطعوم، فكلنا نعرف أنه مصاب بضمور في الأنف أفقده حاسة الشم، وهو دائمًا، يعزو هذا إلى قنبلة الغاز التي صوبوها ناحية الملجأ ليجبرونا على الخروج. أما أنا، فاعرف أنه الوحيد بيننا الذي شرب الشاي يوم صب النقيب عمر مصطفي لترًا كاملاً من الكافور فيه، ولم يشعر بالرائحة، ومع ذلك، فحتى بعد أن أصبح أمره معروفًا بيننا، ارتضيناه عرافًا لنا، فنسأله عن مصائرنا.
كان يقول: أحمد طه سيكون أطولنا عمرًا، فهذا الطويل الهادئ ماكر جدًا على غير عادة الطوال، لا يتورط أبدًا، يقتصد في كلامه وحركته. ولو استطاع لما استهلك من اليوم سوى بضع ساعات، ولو عامله الله بالمثل لجعله قزمًا تعسًا. أما عبد اللطيف فهو إنسان عادي سيعيش حياة عادية، ويموت ميتة طبيعية كأي حمار، وتكهن لي بأن أكون الأقصر عمرًا، فلست -في رأيه – سوى حيوان يقبل على كل شيء بشراهة، يأكل ويشرب كبغل، ويضاجع مثل ثور.
كان يلمح إلى علاقتي بأم طارق، جارتي التي مات زوجها وتركها قبل أن تشبع من الرجال. وحين سأله عبد اللطيف: وماذا عنك؟
قال إنه لا يشم بما فيه الكفاية ليعرف، فضحكنا.
ومع أنه من الغباء أن نعلق مصائرنا بلسان رجل لا يشم ولا يتذوق، إلا أنه كان فعلاً يتميز بهذه القدرة على الاستشعار البعيد مثل كلب مدرب. وكنا نستفيد من هذه الميزة، إذ كان يكتشف طلعات الطائرات، ربما قبل أن تتحرك من قواعدها.
لما سألته عم يتوقعه لصديقنا المريض قال: الله نفسه لا يمكنه أن يعرف مصير رجل يحمل في قلبه ثلاث شظايا.
ضرب عبد اللطيف كفا بكف وقال: استغفر الله العظيم.
وقال أحمد طه: الأعمار بيد الله يا جماعة.
عندما نبهه عبد اللطيف بأن المعسل قد احترق، قال عيسوي: إن الدخان لازال يخرج من أنفـه. ويحاول عبد اللطيف أن يثبت ـ عبثًا ـ أن الدخان الذي يخرج ما هو إلا دخان بلا نكهة.
وأنا أفكر فيما يمكن أن أقوله لأسـامة عندما أكـتب له. أدركت أنني مثل كل مرة لن أمسك قلمًا ولن أقول له شيئًا مما فكرت فيه. تمنيت لو أخبرهم، أو أنقل لهم تحيات أسامة، لكني لم أجد مبررًا لذلك.
كان لافتًا للجميع هذا الصوت الصاخب الذي دوى في الجو فجأة. في الحال أدركنا سببه، فتبادلنا النظرات في صمت، وطافت بشفاهنا ابتسامات واهنة. عبد اللطيف وحده هو الذي قال بقلق: العيد بكرة.. أعلنوا الرؤية. ثم تساءل إن كان يمكن استكمال جزئي القرآن الليلة أو غدًا مع إقراره بأنه يستحق الحرق بنار جهنم.
قال أحمد طه: كلها أيام ربنا يا عبده.
وفيما كنت أفكر إن كان هناك ضرورة للرد على رسالة أسامة من عدمه، كان عيسوي يعلق على برودة الجو، ويتنبأ بسقوط الأمطار، ويوجه كلامه لأحمد طه الذي يهز رأسه في صمت كما لو أنه يستمع، غير أن عيسوي توقف فجأة وقال لأحمد:
تيجي أعلمك الشطرنج؟.
نظرت لأعلى وأدركت أنها فعلاً توشك على الإمطار، فهذه السماء ضاربة بحمرة عجيبة ربما مصدرها الأضواء التي على الأرض. رفعت ياقة الجاكت ليغطي القفا وناديتُ على صبي المقهي لأدفع ثمن طلباتي. فكرت أنه من المناسب أن أمنحه بقشيشًا على سبيل العيدية.
وفيما كنت أفكر، إذا كان من الممكن زيارة المرضى في صباح العيد، أو أن ذلك يزيد آلامهم؟ كانت حبات مطر كبيرة تتساقط، فتحركت مع الناس في طابور بجوار الحائط، لنحتمي بالشرفات. سمعت أحدهم يضحك بصوت عال ويقول: إن أعيادنا أصبحت تأتى في الشتاء كأعياد النصارى.
حتى لا أشعر بملل الطريق، تشاغلت بالتفكير فيما على أن أدفعه من عيديات لأطفال معارفي، وعندما أحصيتهم اكتشفت أنهم تضاعفوا عن العام الماضي.
لأزيل الطين العالق بحذائي، كنت أحك نعليه على درجات السلم، ورغم أني كنت أفعل هذا بحذر، حتى لا أزعج أصحاب الشقق التي اطفأت أنوارها، إلا أن باب شقتها فُتح بهدوء، وهبت منه رائحة الياسمين التي اعتادتْ تجذبني بها كذكر النحل.
بين دفتي الباب الموارب، رأيتها في الروب الأزرق المفتوح عند الصدر. بدت ملامحها في الضوء الخافت شاحبة مضطربة، مدت يدها، وعندما مددت يدي أحسست برجفة مباغتة، كما لو كنت ألمسها لأول مرة.
وهي تسحبني للداخل همستْ بصوت منكسر: رمضان خلص.. وحشتني.
بمجرد أن أغلقتْ الباب، ارتمت في حضني وبكتْ.
كنت مبلولاً وباردًا فأحسست بأنفاسها دافئة على رقبتي، وكان التليفزيون مفتوحًا ويرسل أضواء ملونة لصور لم أتبينها بوضوح، وهي بين ذراعي، سمعت صوت المطربة القديمة تنشد “الليلة عيد”.
فجأة قامت، وفتحتْ باب الحجرة الجانبية بحذر. أطلتْ للداخل، ثم عادتْ تغلقه بهدوء، وبنفس الحذر أدارت المفتاح في الثقب، همست بفرح:
-الواد نايم.. بيشَخّر.
في تلك اللحظة تذكرت أنني لم أحسب طارق في قائمة الأطفال الذين يستحقون عيدية، ولاحظت أن ملامحها أصبحت أكثر تألقًا وهي تحكي عن إصراره على السهر حتى الصباح ليشهد مجيء العيد، وأن النوم غلبه وهو جالس على الكنبة أمام التليفزيون بملابسه الجديدة فحملته للداخل.
عندما نامت بين ذراعي كنت أفكر في أهمية علاقتي بمن أعرفهم، وضرورة أن أعيد النظر في قائمة العيديات.
شارك هذا الموضوع:
أشعر بيدها ترتجف، أصابع ممتلئة خشنة، تليق بربة بيت. في الحجرة ضوء خفيف يتسرب من خصاص الشيش المغلق، ورائحة لم أميزها أبداً.
وقفتُ عند الباب فيما تحركتْ هي في اتجاه السرير، انحنتْ بجسدها قليلاً وهمست باسمِه، مرة واحدة: حمدى.
عادت بوجه حزين إليّ وقالت: نائم.
اقتربتُ قليلاً، وتأملتُ وجهه الشاحب ناتئ العظم، والهالات الدكناء حول عينيه اللتين لم أعرف إنْ كانتا مغلقتين أم مفتوحتين. مددت يدي ومسحت برفق فوق شعره الملبد بالعرق، وجبهته الدافئة. عندما توجهت للخروج لم أفكر في مصافحتها، فما رغبت في ملامسة تلك الارتجافة الخشنة مرة أخرى.
عند الباب قالت بهذا الصوت الهامس: رمضان كريم .
بمجرد أن عبرتُ الشارع، رأيتهم يجلسون في مكانهم المعتاد. من بعيد بدا لي أحمد طه بقامته الطويلة، وبشرته السمراء. ربما كان يبحث عن مقعد، فيما جلس عيسوي بجوار عبد اللطيف، وهو ينفث دخان الشيشة من فتحتي أنفه الواسعتين. وحين جلستُ، كانت أكواب الشاي مازالت تصعّد بخارها بهدوء.
دون أن ينظر إليّ، مد مبسم الشيشة ناحيتي، فتناولته في صمت. حينئذ وضع صبى المقهي كوب الشاي الرابع بمجرد أن رآني.
كنا نرقب حركة الشارع المصطخب بنظرات مصمتة، ولم يكن مباغتاً لنا هذا الاصطخاب في شارع كهذا، غير أن حركة الناس بدت أكثر نزقًا وتوترًا، ربما يشعرون بالقلق بشأن الغد.
بين كل هذه الضوضاء، كان صوت أغنية وحيدة يتميز بترنيمة جنائزية في وداع رمضان، ربما تخرج من كل البيوت والمحال في لحظة واحدة: “والله لسه بدري.. يا شهر الصيام” تبدو كنداء كوني ينطلق في الجو بلا حدود.
أخيرًا، تكلم عبد اللطيف، وقال إنها مهزلة أن نواجه كل سنة بهذا الاضطراب في تحديد موعد العيد.. وتمنى ألا يكون العيد غدًا.
قال بقلق إنه لديه جزءان من القرآن لم يختمهما بعد.
وحين أحس أن أحدًا منا لا يشاركه قلقه بشأن العيد صمتَ. تحرّج أحمد طه وقال على سبيل المشاركة: فعلاً .. الأيام بتجري.
لابد أن عيسوي أكثرنا افتقاداً لحمدى، فعيسوي هو الذي علمه لعبة الشطرنج، ولابد أنه في لحظة ما ندم على ذلك، حين اكتشف أنه علم إنسانا شيئاً رهن عليه كل حياته، أدمنه حتى راح يقامر بكل شيء ليشهد موت الملك، ولابد أيضًا ندم لما أدرك أنه خلق لنفسه منافسًا عنيدًا ومتفوقًا عليه في أغلب الأحيان، وعلى أية حال، كان هو الوحيد بيننا الذي يشارك عيسوي هذه اللعبة بعدما أطلق أحمد شكري لحيته وحرم على نفسه لعب الشطرنج، ثم شيئا فشيئاً حرم المقهي، حتى اختفي تماماً أو ذاب بين آلاف الوجوه المطموسة، ولم يعد من المتوقع أن نراه ثانية إلا في مشهد مأساوي كذلك الذي رأينا فيه فواز مطاوع، على صفحات الجرائد، مقتولاً بالرصاص.
لم يرفع عيسوي مبسم الشيشة من بين شفتيه حتى وهو يلتفت ناحيتي ويسألني: زرته؟
هززت رأسي، فقال: كلمك؟
قلت: كان في غيبوبة، لم يشعر بوجودي.
أعاد وجهه ناحية الشارع وقال بسخط: الحال من سيء لأسوأ.
كان يفاخر بأنه الوحيد بيننا الذي يحمل ذكريات الحرب بالقرب من قلبه؟ ويعرف أن هذه الشظايا تتحرك بإصرار ناحية القلب، ولا تمل بعد كل هذه السنين أن تسعى لقتله.
في الأيام التي يحلو لي فيها ذكر شيء عن الحرب لأبناء أختي، أو عندما يسألونني، كنت استعير جانبًا من حكايته، أفعل ذلك كلما انتهت حكايتي دون أن تثير في عيونهم دهشة ما، ويظلون يحتفظون بابتساماتهم الفئرانية تجاهي. حتى عندما أخبرهم أنه كان يمكن ألا يكون لهم خال لو أن هذه الشظايا اندفعت في اتجاه القلب بضعة مليمترات، لم يفكر أحدهم أن يسألني: إذن أين الجرح؟.
في واحدة من زياراتي، كنت أجلس بجواره على حرف السرير. كان غائصًا في جلبابه الأبيض النظيف، وكانت تلك الرائحة التي لا أميزها أكثر حضورًا. نجح في ابتسامة منحها لي وبسرعة أغمض عينيه، همستُ باسمِه فهمس باسمِي، وبدلاً من أن أبكي اعترفت له أني أستعير حكايته، أنسبها لنفسي وأحكيها لأبناء أختي، ابتسم من جديد وهمس بحروف لم أسمعها فقلت:
حروبنا لم تعد تعنيهم.
– وتبادلنا النظرات في صمت.
كانت زوجته قد حكتْ لي، كيف أصر على اصطحابهم لمبنى بانوراما الحرب، وهناك داهمته بشدة تلك الآلام التي تعاوده كلما فاحت في الجو رائحة رمضان، أو حتى ، كلما سمع صوت الشيخ رفعت.
ولا أحد يصدق أن طبيبًا لا يعرفه، أخرجه من بين الجثث التي تم التصديق بدفنها، ليعيش بقلب جريح عشرين عامًا.
قال عيسوي إنهم أهملوا علاجه حينها، كان يمكن إخراج هذه الشظايا .
قلتُ إن أخطار الجراحة، كانت كبيرة، وحين أخبروه بذلك رفض أن يقامر بحياته، مع أنه بعد ذلك قامر بكل شيء.
شَخَرَ عيسوي وقال إنهم حفنة قوادين، ولو كان واحدًا منهم لعالجوه في الخارج، واتهم أسامة عبد الله بأنه تخلى عنه لما كان في المستشفي. وحين قلت إن أسامة لم يكن يملك شيئًا له، شَخَرَ من جديد، وحسم أحمد طه الموقف بجملة مختصرة لما قال:
-نصيبه كده يا جماعة.
تذكرت أنني حتى الآن لم أرد على رسالة أسامة الأخيرة، برغم تأكيداته على الرد السريع. وكان في نيتي أن أرد قبل انتهاء رمضان لتكون مناسبة للتهنئة بالعيد. لم أكن قد أخبرتهم بعد بتلك الرسالة، فأنا أعرف أن رسائله لهم ظلت تقل شيئا فشيئا حتى توقفت قبل انقضاء العام الثاني على سفره، فيما ظل يرسل لي كلما احتاج أمرًا، إذ تصادف أننا عُيِنّا في مصلحة واحدة.
في الحقيقة، أسامة ليس واحدًا من الذين حرصت على استمرار علاقتي بهم بعد التسريح من الجيش، لكن في أول أيام استلامي العمل وجدته أمامي، كان حز البيريه ما زال في رأسه الحليق، وكنت أعرج بشدة بسبب ذلك الكالو الذي لازمني منذ أول يوم لبست فيه البيادة. وقتها تأكد لي أن مصائرنا جميعًا وضعت في زجاجة واحدة ألقى بها قرصان مجنون في المحيط.
في أجازته الأخيرة زارني أسامه لبضع دقائق، كان وزنه زاد كثيرًا. أطلق لحية خفيفة مع شارب، وتفوح منه رائحة مسك نفاذ، فبدا في فانلته (المانتيجو) أكبر من سِنِّه كثيرًا.
قال إنه في عجلة من أمره، وإنه ما جاء إلا ليسوي بعض سؤالات في الإدارة بخصوص تجديد الإعارة، وإنه كان يبغي لو جلس معي وقتًا أطول، هو هناك بخير لولا تلك الأخبار السيئة التي تأتيه من مصر، وتنغص عليه حياته لأن الأخوة هناك أكلوا وجهه لما وصلتهم أخبار اغتصاب فتاة العتبة.
تكرار كلمة (هناك) في كلامه يضايقني بلا سبب واضح، ولما قلت له إن موضوع فتاة العتبة مجرد حدث عادي في مدىنة بحجم القاهرة. امتقع وجهه وقال:
– أيش بيكم يا مصريين .. هادا الدم في عروجكم صار مويا؟
وقبل أن يودعني منحني مسبحة، وطاقية من الحرير المطرز، وقال: هدية من عند الرسول، فقلت: عليه الصلاة والسلام.
قال عيسوي: رمضان هذا العام ليس له طعم، وحتى العيد بلا رائحة.
ضحك عبد اللطيف، وابتسم أحمد طه، وحين نظرا إلي أدركت حجم المفارقة في الموضوع فابتسمتُ، فعيسوي هو آخر من يتكلم عن الروائح والطعوم، فكلنا نعرف أنه مصاب بضمور في الأنف أفقده حاسة الشم، وهو دائمًا، يعزو هذا إلى قنبلة الغاز التي صوبوها ناحية الملجأ ليجبرونا على الخروج. أما أنا، فاعرف أنه الوحيد بيننا الذي شرب الشاي يوم صب النقيب عمر مصطفي لترًا كاملاً من الكافور فيه، ولم يشعر بالرائحة، ومع ذلك، فحتى بعد أن أصبح أمره معروفًا بيننا، ارتضيناه عرافًا لنا، فنسأله عن مصائرنا.
كان يقول: أحمد طه سيكون أطولنا عمرًا، فهذا الطويل الهادئ ماكر جدًا على غير عادة الطوال، لا يتورط أبدًا، يقتصد في كلامه وحركته. ولو استطاع لما استهلك من اليوم سوى بضع ساعات، ولو عامله الله بالمثل لجعله قزمًا تعسًا. أما عبد اللطيف فهو إنسان عادي سيعيش حياة عادية، ويموت ميتة طبيعية كأي حمار، وتكهن لي بأن أكون الأقصر عمرًا، فلست -في رأيه – سوى حيوان يقبل على كل شيء بشراهة، يأكل ويشرب كبغل، ويضاجع مثل ثور.
كان يلمح إلى علاقتي بأم طارق، جارتي التي مات زوجها وتركها قبل أن تشبع من الرجال. وحين سأله عبد اللطيف: وماذا عنك؟
قال إنه لا يشم بما فيه الكفاية ليعرف، فضحكنا.
ومع أنه من الغباء أن نعلق مصائرنا بلسان رجل لا يشم ولا يتذوق، إلا أنه كان فعلاً يتميز بهذه القدرة على الاستشعار البعيد مثل كلب مدرب. وكنا نستفيد من هذه الميزة، إذ كان يكتشف طلعات الطائرات، ربما قبل أن تتحرك من قواعدها.
لما سألته عم يتوقعه لصديقنا المريض قال: الله نفسه لا يمكنه أن يعرف مصير رجل يحمل في قلبه ثلاث شظايا.
ضرب عبد اللطيف كفا بكف وقال: استغفر الله العظيم.
وقال أحمد طه: الأعمار بيد الله يا جماعة.
عندما نبهه عبد اللطيف بأن المعسل قد احترق، قال عيسوي: إن الدخان لازال يخرج من أنفـه. ويحاول عبد اللطيف أن يثبت ـ عبثًا ـ أن الدخان الذي يخرج ما هو إلا دخان بلا نكهة.
وأنا أفكر فيما يمكن أن أقوله لأسـامة عندما أكـتب له. أدركت أنني مثل كل مرة لن أمسك قلمًا ولن أقول له شيئًا مما فكرت فيه. تمنيت لو أخبرهم، أو أنقل لهم تحيات أسامة، لكني لم أجد مبررًا لذلك.
كان لافتًا للجميع هذا الصوت الصاخب الذي دوى في الجو فجأة. في الحال أدركنا سببه، فتبادلنا النظرات في صمت، وطافت بشفاهنا ابتسامات واهنة. عبد اللطيف وحده هو الذي قال بقلق: العيد بكرة.. أعلنوا الرؤية. ثم تساءل إن كان يمكن استكمال جزئي القرآن الليلة أو غدًا مع إقراره بأنه يستحق الحرق بنار جهنم.
قال أحمد طه: كلها أيام ربنا يا عبده.
وفيما كنت أفكر إن كان هناك ضرورة للرد على رسالة أسامة من عدمه، كان عيسوي يعلق على برودة الجو، ويتنبأ بسقوط الأمطار، ويوجه كلامه لأحمد طه الذي يهز رأسه في صمت كما لو أنه يستمع، غير أن عيسوي توقف فجأة وقال لأحمد:
تيجي أعلمك الشطرنج؟.
نظرت لأعلى وأدركت أنها فعلاً توشك على الإمطار، فهذه السماء ضاربة بحمرة عجيبة ربما مصدرها الأضواء التي على الأرض. رفعت ياقة الجاكت ليغطي القفا وناديتُ على صبي المقهي لأدفع ثمن طلباتي. فكرت أنه من المناسب أن أمنحه بقشيشًا على سبيل العيدية.
وفيما كنت أفكر، إذا كان من الممكن زيارة المرضى في صباح العيد، أو أن ذلك يزيد آلامهم؟ كانت حبات مطر كبيرة تتساقط، فتحركت مع الناس في طابور بجوار الحائط، لنحتمي بالشرفات. سمعت أحدهم يضحك بصوت عال ويقول: إن أعيادنا أصبحت تأتى في الشتاء كأعياد النصارى.
حتى لا أشعر بملل الطريق، تشاغلت بالتفكير فيما على أن أدفعه من عيديات لأطفال معارفي، وعندما أحصيتهم اكتشفت أنهم تضاعفوا عن العام الماضي.
لأزيل الطين العالق بحذائي، كنت أحك نعليه على درجات السلم، ورغم أني كنت أفعل هذا بحذر، حتى لا أزعج أصحاب الشقق التي اطفأت أنوارها، إلا أن باب شقتها فُتح بهدوء، وهبت منه رائحة الياسمين التي اعتادتْ تجذبني بها كذكر النحل.
بين دفتي الباب الموارب، رأيتها في الروب الأزرق المفتوح عند الصدر. بدت ملامحها في الضوء الخافت شاحبة مضطربة، مدت يدها، وعندما مددت يدي أحسست برجفة مباغتة، كما لو كنت ألمسها لأول مرة.
وهي تسحبني للداخل همستْ بصوت منكسر: رمضان خلص.. وحشتني.
بمجرد أن أغلقتْ الباب، ارتمت في حضني وبكتْ.
كنت مبلولاً وباردًا فأحسست بأنفاسها دافئة على رقبتي، وكان التليفزيون مفتوحًا ويرسل أضواء ملونة لصور لم أتبينها بوضوح، وهي بين ذراعي، سمعت صوت المطربة القديمة تنشد “الليلة عيد”.
فجأة قامت، وفتحتْ باب الحجرة الجانبية بحذر. أطلتْ للداخل، ثم عادتْ تغلقه بهدوء، وبنفس الحذر أدارت المفتاح في الثقب، همست بفرح:
-الواد نايم.. بيشَخّر.
في تلك اللحظة تذكرت أنني لم أحسب طارق في قائمة الأطفال الذين يستحقون عيدية، ولاحظت أن ملامحها أصبحت أكثر تألقًا وهي تحكي عن إصراره على السهر حتى الصباح ليشهد مجيء العيد، وأن النوم غلبه وهو جالس على الكنبة أمام التليفزيون بملابسه الجديدة فحملته للداخل.
عندما نامت بين ذراعي كنت أفكر في أهمية علاقتي بمن أعرفهم، وضرورة أن أعيد النظر في قائمة العيديات.
شارك هذا الموضوع:
جراح رمضان الأخير. قصة: سيد الوكيل
سحبتني السيدة من يدي لتدفع عني الحرج، وعبرت بي الطرقة الضيقة، وهي تتفادى بمهارة الاصطدام بأثاث البيت الصغير، تفعل ذلك كامرأة علقت سنواتها بسخاء على جدران هذا البيت. أشعر بيدها ترتجف، أصابع مم…
sadazakera.wordpress.com