د. محمد عبدالله القواسمة - الراعي في أحداث ومواقف مؤثرة2/2 (قوانين العائلة والخروج من الخرطوم)

إذا كان الدكتور إحسان عباس، كما ورد في سيرته الذاتية "غربة الراعي" قد عانى من قوانين القرية في زواجه فقد عانى أيضًا من قوانين العائلة في موقفها من ابنة عمه مريم، كما عانى من قضية إنهاء خدماته من جامعة الخرطوم، وكانت معاناته من هذين الأمرين أشد إيلامًا.

يذكر في سيرته أن من الحوادث المهمة التي أثرت في حياته ووجدانه هي حادثة تمرد ابنة عمه مريم على قوانين العائلة. لقد كانت مريم أجرأ منه على تحدي العائلة حين رفضت الزواج من ابن عمها الأصغر منها سنًا، ووقفت في وجه عمها الذي مضى في إجبارها على الزواج من ابنه حتى تبقى أملاك أخيه في الأسرة.

في البدء يدين إحسان عباس ما فعلته الفتاة، ولا يشجب محاولة القتل الفاشلة التي قامت بها العائلة، بل يشترك أثناء وجوده في حيفا للدراسة في البحث عن مريم ليكشف أين تسكن، ويسهل الطريق إلى التخلص من عارها، ويريح الأسرة من شعورها بالذل والحزن. لكنه يدرك بعد مدة طويلة كم أخطأ في حق ابنة عمه حين لم يفهم ثورتها على التقاليد الريفية المتخلفة، لذلك فهو يلوم نفسه على موقفه ويعتذر لها، ويخاطبها بقوله" أجدك لم تقنعي بالثورة من أجل الحب، بل أمعنت في التحدي، حين أحببت قاتل عمك. كيف غفلتُ عن كل هذه الإرادة يوم حققت ذاتها. حين مشيت في دروب الحياة معطل الإرادة، ممزق النفس بين رسوم الطاعة وواجب العصيان. اليوم فقط وأنا أتطلع الى الماضي البعيد سقط عن عيني حجاب الغفلة الكثيف"(ص264)

أما الحادثة الأخيرة التي كان لها تأثير مهم في حياة الدكتور إحسان عباس فهي خروجه من السودان بعد عشر سنوات قضاها في جامعة الخرطوم. كان عضوًا فاعلًا في الحياة الثقافية السودانية، فطوّر من مكتبة الجامعة، وكتب عن الأدب العربي في السودان، وعرّف العالم العربي بما في هذا البلد من نهضة وتطوّر، وأثّر في كثير من الكتاب والأدباء السودانيين مثل صلاح أحمد إبراهيم وعلى المك وغيرهما.

لمس إحسان عباس خلال إقامته في السودان لطف الشعب السوداني، وطيب أبنائه، وحسن العلاقات بين الناس. لكنه في عام 1960 واجه مشكلة في عمله بالجامعة سببت له الهم والغم، عندما رفض رئيس قسم اللغة العربية في الجامعة تجديد عقده، وكان العقد يجدد كل خمس سنوات. ويتبين، كما جاء في مقال للكاتب السوداني كمال علي الزين بعنوان" في محبة إحسان عباس" ظهر في موقعه على شبكة الإنترنت (2/9/ 2009) أن زميله في القسم عبدالله الطيب استطاع أن ينهي خدماته في الجامعة بالاعتماد على لوائح جامعية جامدة. ولم يكن السبب الحقيقي غير المنافسة الأكاديمية؛" فعباس وقتها كان نجم منتديات الخرطوم الثقافية وقد افتتن به الكثيرون من شباب الكتاب والشعراء"

كان لخروجه من السودان بهذه الطريقة تأثير كبير في نفسه، وجميع أفراد أسرته رغم أن الجامعة الأمريكية في بيروت فتحت له ذراعيها. يذكر عن ذلك:" كان منظرنا ونحن ننتظر في مطار الخرطوم للمغادرة مثيرًا للأسى وكانت تتردد في خاطري كلمات بيرم التونسي "وشبعت يا رب غربة" وكنت أنا وزوجتي نبكي في صمت، وكان الأطفال ينشجون"(ص 223)

كانت تلك أهم المواقف الشخصية التي أثرت في حياة الدكتور إحسان عباس، المواقف التي كشفت عن خضوعه طويلًا لقيم الريف القاسية التي لم يواجهها أو يراجعها من البداية فسببت له كثيرًا من الآلام، وهي آلام كانت بتلك القساوة، لما يتصف به إحسان عباس من صفات نفسية يغلب عليها الحياء والطيبة، ومحبة العزلة، والشغف بالعلم والمعرفة، وشدة الإحساس بالغربة، التي سببتها المصيبة العامة التي ألمت بوطنه فلسطين.

لا يغيب عنا القول في النهاية إن الدكتور إحسان عباس عرض المواقف والأحداث المؤثرة في حياته، والتي قامت عليها سيرته "غربة الراعي" بأسلوب سردي شائق وسهل ممتع، مزجه بحس فكاهي لطيف مع صدق في البوح، قلما نجده عند كتاب السيرة الذاتية، وبخاصة في عالمنا العربي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى