هذا الرجل الذي يعاني شظف العيش ، يكدح لسد عشرة أفواه ، سرق عقلي الصغير ولم أكن قد أتممت السادسة من عمري ، حين يردفني خلفه على الحمار ، فكانت الرحلة من البيت للحقل مزروعة بعلامات استفهام تكاد تقتلع عقلي الصغير من موضعه ، فكلما مر بنا رجل أمسك برأس الحمار متوسلا باكيا : ادع لي يا عم الشيخ ، فيزيحه الشيخ بيده ليفسح الطريق ، وإذا قابلنا رجل يركب حماره ويجر خلفه بهائمه سارع للنزول من فوق حماره وهو منحني حتى يخنفي ، وتلك النسوة اللائي يكنسن أمام بيوتهن حين يرونه يتوقفن عن الكنس وقد وقفن وقد انحنت رؤوسهن و يتلقفن تحيته برد متضرع مبتهل .
لم أجد بحياة الرجل الكادح ما يستوجب هذا التبجيل وأخيرا استراح عقلي لإجابة أنهم لا يعرفون قدر عوزه وفقره وإلا ما منحوه تبجيلهم ، ذلك الذي يظل بأرضه منذ استيقاظ الشمس التي تعود في نهاية يومها تجر وجعها وتخفي شحوب وجهها بين السحاب الدامي ، وما زال الرجل بأرضه لا يبرحها إلا حين يلقي الليل ثوبا أسود يخفي تحته خضرة الزرع فيخرج الرجل لبقعة قش على الترعة هابطا حجارة قد رصها بإحكام حتى يصل للماء متحاشيا الطين فيتوضأ ويصلي ثم يرص أعواد الحشائش على ظهر الحمار ليحملني لأركب .
متى نصل البيت ؟ والناس توقف الحمار بين كل خطوتين هذا يستشيره وذاك يطلب منه الدعاء .
لمحت شبحا ضخما في الظلام أوشكت أن أبوح للشيخ برعبي ولكني نشبثت بجلبابه جيدا وعيني ترقب الشبح الذي صار واضحا وهو يقف بمنتصف الطريق معترضا طريق الحمار حتى توقف الحمار وكأنه أمام حائط .
وفجأة اندفع الشاب نحونا ممسكا بيد الشيخ باكيا متوسلا راجيا والشيخ يسحب يده ويزيح الفتى الضخم بيده حتى كاد أن يقع على ظهره .
رأيت رغم حداثتي قلة الحيلة والهزيمة في انكسار هذا الضخم وأنا أتعجب ما الذي يحتاجه هذا الضخم من هذا الكهل المكدود المهدود ؟
اتسعت دائرة الاستفهامات عجز عقلي الصغير عن احتواء دائرة اتساعها ! هل يعرف الناس قلة حيلة هذا الكهل وهو يبكي بعد الصلاة ؟ وهل رأوه وهو يغمس لقيمات القديد باليمون المخلل واللفت الذي يحرق قلبي حتى أني فضلت الخبز حاف بدلا منه ؟
ما إن اكتملت دائرتنا حول الطبلية على حصيرة قليل من أعوادها الذي صمد أمام غائلة الزمن وكثير انهزم وانكسر تاركا مكانه لصقيع البرد يأكل مقعدتنا حتى وجدت ذاك الضخم الذي اعترض طريقنا يقف خلف أمه صامتين وأنا أنقل عيني بين الواقفين وبين الشيخ ، كدت أنبهه ولكني وجدت عيون الجالسين من أخوتي نظرت إليهما ثم أكملوا غمس لقيماتهم التي صنعوها على هيئة أذن قطة لتحمل من الغموس ما لم تحمله لقيمات غيرهم ، فانتبهت لطعامي مسارعا في المنافسة على صناعة أذن قطة نفوق أذن قططهم ولكني سرعان ما عدت لتقليب عيني بين الواقفين بصمت وبين الشيخ ؟
وأخيرا أفرج الشيخ عنهما وقال للسيدة اذهبي يا سعدة وعودي بزوجة ابنك ، انحنت السيدة تقبل يد الشيخ منهمرة الدموع والشاب الضخم يدعو ربنا يخليك لنا يا خال . رفعت الطبلية وأتت أمي بوابور الجاز وعدة الشاي وظلت واقفة أمام الشيخ كتمثال شمع حتى أشعل الوابور وتأكد أن النار صارت بزرقة السماء ، فأشار لها بالانصراف بعد أن استقرت الكنكة فوق اللهب .
انهى الشيخ صب الشاي ، أخذ يرتشفه وعيني مع الكوب صعودا وهبوطا ، هل سينهي عليه أم سيترك لي رشفتين كما اعتاد كلما رافقته رحلته ؟
نادى بصوت خفيض فهرعت السيدة : استعدي ؛ سنزور الجماعة في البندر غدا .
انطلقا عصرا نحو موقف أتوبيس المدينة ، تسللت خلفهما وما إن صعدا و وهم السائق بالتحرك حتى قفزت لأجلس بينهما ، أصيبت أمي بذهول همت أن تصرخ طالبة مني العودة أدراجي ولكن الشيخ أشار لها ففهمت أنه يطلب منها تركي فرجعت قليلا على الكرسي لكي أعتدل في الجلوس كرجل مسافر .
دق والدي الجرس ففتحت الخادمة لم ينتظر لتأذن له ولم يخلع حذاءه بالباب مخترقا سجادا فاخرا ليخرج رجل تخلع هيبته قلبي فأنظر نحوه بذهول وهو ينحني مقبلا يد الشيخ والقصر كله في حالة استنفار وعيني تكاد أن تنقلع على علبة زاهية تمتلىء بالحلوى ، تنتبه سيدة القصر لحالي فتفرغ العلبة البلورية في جيوب جلبابي والفرحة الطاغية جعلت كل من حولي يسمعون دقات قلبي بوضوح .
سألت السيدة أمي دا مين في أولادك يا سميرة ؟
فقالت لها اسمي وزاد الحمل على قلبي الذي أشعر أنه لن يحتمل هذه الحلوى وأن يذكر اسمي في صالون فخم اتحسس نعومة الكرسي بدهشة والفرش القطيفة علاج لما علا يدي من قشف والنجف بالسقف يتلألا كنجوم حقلنا في ليلة مقمرة نجني فيها غرس حول كامل .
لم أكن نفس الشخص الذي خرج للمدينة بل عدت إنسانا آخر ولم أقص على إخوتي هول ما رأيت ودسست الحلوى في قعر شوال الطحين ، كلما هفت نفسي للمدينة ذهبت في رحلة للشوال بحذر .
كلما خلوت لنفسي أعدت عليها جمال ما رأيت وغرابة ما لمست ، فجأة تحركت أسياخ الاستفهامات لتتحول لخازوق يجلس عليه عقلي ما سر انحناء الناس لهذا الرجل الفقير الذي لايملك ثمن الحلوى ؟
لم أجد بحياة الرجل الكادح ما يستوجب هذا التبجيل وأخيرا استراح عقلي لإجابة أنهم لا يعرفون قدر عوزه وفقره وإلا ما منحوه تبجيلهم ، ذلك الذي يظل بأرضه منذ استيقاظ الشمس التي تعود في نهاية يومها تجر وجعها وتخفي شحوب وجهها بين السحاب الدامي ، وما زال الرجل بأرضه لا يبرحها إلا حين يلقي الليل ثوبا أسود يخفي تحته خضرة الزرع فيخرج الرجل لبقعة قش على الترعة هابطا حجارة قد رصها بإحكام حتى يصل للماء متحاشيا الطين فيتوضأ ويصلي ثم يرص أعواد الحشائش على ظهر الحمار ليحملني لأركب .
متى نصل البيت ؟ والناس توقف الحمار بين كل خطوتين هذا يستشيره وذاك يطلب منه الدعاء .
لمحت شبحا ضخما في الظلام أوشكت أن أبوح للشيخ برعبي ولكني نشبثت بجلبابه جيدا وعيني ترقب الشبح الذي صار واضحا وهو يقف بمنتصف الطريق معترضا طريق الحمار حتى توقف الحمار وكأنه أمام حائط .
وفجأة اندفع الشاب نحونا ممسكا بيد الشيخ باكيا متوسلا راجيا والشيخ يسحب يده ويزيح الفتى الضخم بيده حتى كاد أن يقع على ظهره .
رأيت رغم حداثتي قلة الحيلة والهزيمة في انكسار هذا الضخم وأنا أتعجب ما الذي يحتاجه هذا الضخم من هذا الكهل المكدود المهدود ؟
اتسعت دائرة الاستفهامات عجز عقلي الصغير عن احتواء دائرة اتساعها ! هل يعرف الناس قلة حيلة هذا الكهل وهو يبكي بعد الصلاة ؟ وهل رأوه وهو يغمس لقيمات القديد باليمون المخلل واللفت الذي يحرق قلبي حتى أني فضلت الخبز حاف بدلا منه ؟
ما إن اكتملت دائرتنا حول الطبلية على حصيرة قليل من أعوادها الذي صمد أمام غائلة الزمن وكثير انهزم وانكسر تاركا مكانه لصقيع البرد يأكل مقعدتنا حتى وجدت ذاك الضخم الذي اعترض طريقنا يقف خلف أمه صامتين وأنا أنقل عيني بين الواقفين وبين الشيخ ، كدت أنبهه ولكني وجدت عيون الجالسين من أخوتي نظرت إليهما ثم أكملوا غمس لقيماتهم التي صنعوها على هيئة أذن قطة لتحمل من الغموس ما لم تحمله لقيمات غيرهم ، فانتبهت لطعامي مسارعا في المنافسة على صناعة أذن قطة نفوق أذن قططهم ولكني سرعان ما عدت لتقليب عيني بين الواقفين بصمت وبين الشيخ ؟
وأخيرا أفرج الشيخ عنهما وقال للسيدة اذهبي يا سعدة وعودي بزوجة ابنك ، انحنت السيدة تقبل يد الشيخ منهمرة الدموع والشاب الضخم يدعو ربنا يخليك لنا يا خال . رفعت الطبلية وأتت أمي بوابور الجاز وعدة الشاي وظلت واقفة أمام الشيخ كتمثال شمع حتى أشعل الوابور وتأكد أن النار صارت بزرقة السماء ، فأشار لها بالانصراف بعد أن استقرت الكنكة فوق اللهب .
انهى الشيخ صب الشاي ، أخذ يرتشفه وعيني مع الكوب صعودا وهبوطا ، هل سينهي عليه أم سيترك لي رشفتين كما اعتاد كلما رافقته رحلته ؟
نادى بصوت خفيض فهرعت السيدة : استعدي ؛ سنزور الجماعة في البندر غدا .
انطلقا عصرا نحو موقف أتوبيس المدينة ، تسللت خلفهما وما إن صعدا و وهم السائق بالتحرك حتى قفزت لأجلس بينهما ، أصيبت أمي بذهول همت أن تصرخ طالبة مني العودة أدراجي ولكن الشيخ أشار لها ففهمت أنه يطلب منها تركي فرجعت قليلا على الكرسي لكي أعتدل في الجلوس كرجل مسافر .
دق والدي الجرس ففتحت الخادمة لم ينتظر لتأذن له ولم يخلع حذاءه بالباب مخترقا سجادا فاخرا ليخرج رجل تخلع هيبته قلبي فأنظر نحوه بذهول وهو ينحني مقبلا يد الشيخ والقصر كله في حالة استنفار وعيني تكاد أن تنقلع على علبة زاهية تمتلىء بالحلوى ، تنتبه سيدة القصر لحالي فتفرغ العلبة البلورية في جيوب جلبابي والفرحة الطاغية جعلت كل من حولي يسمعون دقات قلبي بوضوح .
سألت السيدة أمي دا مين في أولادك يا سميرة ؟
فقالت لها اسمي وزاد الحمل على قلبي الذي أشعر أنه لن يحتمل هذه الحلوى وأن يذكر اسمي في صالون فخم اتحسس نعومة الكرسي بدهشة والفرش القطيفة علاج لما علا يدي من قشف والنجف بالسقف يتلألا كنجوم حقلنا في ليلة مقمرة نجني فيها غرس حول كامل .
لم أكن نفس الشخص الذي خرج للمدينة بل عدت إنسانا آخر ولم أقص على إخوتي هول ما رأيت ودسست الحلوى في قعر شوال الطحين ، كلما هفت نفسي للمدينة ذهبت في رحلة للشوال بحذر .
كلما خلوت لنفسي أعدت عليها جمال ما رأيت وغرابة ما لمست ، فجأة تحركت أسياخ الاستفهامات لتتحول لخازوق يجلس عليه عقلي ما سر انحناء الناس لهذا الرجل الفقير الذي لايملك ثمن الحلوى ؟