الحسين بوخرطة - مروءة أوجاع

سمير طبيب حديث التعيين في مستوصف قريب من مسكن والديه. في كل صباح وبعد كل ظهيرة، تعود المرور من خط سير يوصله بسرعة إلى عمله. إنه الشارع الفسيح المظلل بأشجار مصنفة من الأنواع الناذرة. يتمتع بخشخشة أوراقه المتناثرة على جنباته، ويتذوق في بهجة وحبور دائمين زقزقة العصافير المغردة في فضاءه الخلاب. يزهى بمنصبه الجديد. يمشي بخطوات ثابتة، متمتعا بأشعة الشمس الدافئة والأزهار بمختلف أشكالها وألوانها التي تزين أركان الشارع العريض.

التقى يوما كهلا بأوصاف الانحراف. حفريات وآثار أداة حادة أو سلاح أبيض تزخرف محياه ويديه، وربما بطنه وصدره. حملق فيه من بعيد، وتأكد أنه علال من أبناء حيه الشعبي في الصبا. رجعت به الذكريات إلى مرحلتي الطفولة والشباب إلى مكان مسقط رأسه. تذكر تفاصيل أيام العيش في دواره الحضري بمساكنه الهشة وحنان ومروءة ناسه الكرماء. تذكر كيف كان علال وسيما وجذابا بهندامه وشعره الناعم الطويل. كان دائم الدفاع على التلاميذ المجتهدين وحاميا لهم. وكانت بنات الحي يشتقن لرؤيته واصطياد لمحات من نظراته البراقة. يتذرعن بالذهاب إلى السقاية العمومية، وينتظمن بأجسادهن الطرية في طابور طويل، وعيونهن تتناوب خلسة مشرئبة مكان جلوسه أمام البقال المقابل لهما. لقد كان في نظر كل الشباب والأطفال بطلا في المروءة والوسامة.

في طريقه، تذكر سمير كيف كان علال شابا يافعا يسعى ليكون مثقفا بكبرياء وصفاء المواقف محبا للوطن بدون شروط مسبقة. كان يضحي كل يوم بحصة زمنية لتكوين الشباب وتأهيلهم، ومدهم بمعارف النجاح والسؤدد. استحضر مآسي دسائس المبالغة في طموحات رفاقه واشتداد الطائلة اتجاهه. مرت على مخيلة سمير ذكرى مزلزلة للعواطف. لقد بكى حزنا، وهو عاطف حزبي في القطاع التلاميذي، يوم شحنت مخيلة تلامذة علال بفكرة القتل المعنوي للأب والمعلم الطائق في نظر النفوس المغرورة. أعلن تاريخ محطة سياسية بأهمية بالغة في الحياة النضالية. حاول سمير تمييزه بين الحاضرين نتيجة تعوده على قوة تدخلاته وبلاغة لغته الجذابة، لكن لم يجد له أثرا ولا رائحة في الجمع. سئل عنه بإلحاح من طرف القادة الإقليميين الحاضرين المعينين لإنجاح هذه التظاهرة، فنعقت الببغاوات، آكلة السحت، بصوت متلهف ومرتبك: "غائب دائم". اختنق سمير، وزعقت من لسانه عبارة بأعلى صوته المتحشرج: تغييب لغاية في نفس يعقوب، ليشتد الصمت في القاعة. إنه اليوم البائس الذي صُعِقَت فيه نفسية علال بصدمة اضْطُرب بعدها حاله، وابتدأ مسار اختلال قوته العقلية. اغْتَمَّ سمير من الضنك المزلزل للمعتقدات في ذلك اليوم المعلوم. رُسِمت ابتسامة الجيوكاندا على محياه معتزا بساعة الحسم التي قرر فيها ببراءة طفولية التركيز على بناء مستقبله الدراسي. امتعاضه من عبث العمل التنظيمي المحلي وأوجاعه قاده لاعتبار السياسة في بلاده لا تصلح إلا كهواية للتسلية ولقضاء المصالح.

تقابل سمير وعلال في اليوم الثاني بابتسامتين متباينتين تتطاير من الأولى الاعتزاز والفخر ومن الثانية الحذر والامتعاض. التقت نظراتهما مجددا، وتكررت الابتسامتان كل يوم محافظتين على تباينهما. توجس سمير من هذا التواجد المتكرر الذي استبعد أن يكون من صدف القدر. غَيَّر في اليوم الموالي وجهته المعتادة ذهابا وإيابا.

في اليوم الرابع، تأخر في عمله منهمكا في تطبيب ضحايا حادثة سير مميتة. وهو عائد ليلا إلى دارته سالكا الطريق الجديد، اعترض سبيله لص معتدي قوي البنية، ملوحا يمينا ويسارا بسلاح أبيض طويل فتاك، والضب عاث على ملامحه الإنسانية. امتقع فجأة لون محيا سمير، وأصيب بالهلع محاولا التفاوض معه بكلمات متقطعة. تسلل الفزع ودب الرعب والضعف أقدامه. فجأة، انقض علال عاصفا على المعتدي بكل ما لديه من قوة، وأسقطه أرضا. طلب من سمير الهرب بسرعة. تبعه في حينه إلى أن اطمأن على وصوله إلى منزله.

دخل سمير غرفته، تسجى مشتت الأفكار فوق سريره المغطى بشراشف بيضاء واللوم ينهش روحه. استسلم لنوبات كآبة متكررة مثقلا بأوق قاتل. حكى لمدير المستشفى بالهاتف قصته باستياء، مسرا له انفلاته من اعتداء أو موت محقق بفضل علال. فور انتهائه من سرد مجريات الحادث وبطولة علال، توسله أن يعينه مسؤولا أمنيا على المستوصف، وكان له ذلك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى